دراسات وبحوث
مجدي إبراهيم: القرآن والتجربة البشرية (4): منطقة الإظهار
المحاولات الدائمة لتجهيل الإنسان لا زالت مستمرة، ولن تنقطع ما دام هنالك من يُفسد في الأرض مع دعوى الإصلاح فيها، ويفسد في النفس مع دعوى تهذيبها، ويصرف الناس عن كشف حقيقتهم الأصليّة؛ لينساقوا كما السَّوائم إلى حيث يشتهون. وربما تمّت عملية التجهيل هذه من الإنسان نفسه مع نفسه لنفسه ولغيره؛ إزاء محاولات إرتقاءاته الماديّة، فتراه يتفوّق في علوم المادة مقابل إخفاقاته الملحوظة في فنون الروح وشئون الضمير، وبالتالي يُخفق اخفاقاً شديداً في الكشف عن حقيقته الأصليّة، فيجئ كل ما يقدّمه مجرد قشور قاحلة لا تغني ولا تثمن من جوع، فتتعطل قواه المعرفيّة ويُصاب بالأمراض النفسيّة من جرّاء جوع الملكات الروحيّة لديه، مع تعطيل سائر القوى التي تمدّه بالإرادة والعزم وتصحيح اليقين.
ولعل الانشغال بعيداً عن توظيف الوعي بالقرآن الكريم سببٌ كارثي مباشر بكل تأكيد من أسباب هذه الاخفاقات سواء على مستوى الوعي الفردي أو على مستوى المجموع؛ الأمر الذي يتطلب من الإنسان إعادة بناء النظرة المُنصفة من نفسه في حق نفسه أولاً قبل المطالبة منه لغيره بإزاء النظر في حقوق الآخرين.
ومن أعجب العجب أن تتقدّم العلوم الكونية والعلميّة ويتأخر العلم بالإنسان، وربما كان موضع العجب في تلك الصعوبات التي تمَّ منذ القدم تجهيل الإنسان من أجلها: تجهيله بحقيقة ذاته، فهو لن يعرف مثلاً سر الحياة ولا سرّ الموت أبداً، ولم يدرك أبداً سِرَّ الرُوح الإنساني، ولن يعرف شيئاً من أسرار التكوين البشري؛ بل إنّ علم الإنسان بالإنسان متأخرٌ جداً عن علم الإنسان بالطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا والأسلحة النوويّة والبيولوجيّة.
صحيحُ أن هنالك محاولات شاقّة ومُضنية بُذِلتْ من جانب العقل البشري لمعرفة الحقائق الكبرى، ولكن المدى لا يزال بعيداً، والوصول إلى سرِّ الحياة يكادُ يكون من المستحيلات، وذلك لأن تركيب العقل نفسه - فيما يقول برْجُسون - يتصفُ بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فلا يعني مطلقاً تقدُّم العلم المادي معرفة الإنسان نفسه بنفسه؛ فتأخُّرُه في هذا المجال مقدَّمُ على تقدُّمه في العلم المادي.
لكن القرآن الكريم عنى عناية بالغة بالإنسان، فجعل التفكير فيه تفكير في الدين، (ولقد كرّمنا بني آدم)، بني آدم بإطلاق. والتفكير في الدّين مجموعٌ بين دفتي القرآن ومحمول عليه، يتحرّك في إطاره ولا يخرج عنه.
وما من تفكير في الدين لا يمسّ القرآن في صميم الصميم لا يعوّل عليه؛ لأنه بالحقيقة يبني الإنسان من جهة النفس والعقل والقلب والروح والسِّر كما يبنيه من جهة البدن والهيئة والجسم والقالب سواء.
ولا بدَّ لقائل أن يتسأل فيقول: إذا كان التفكير في الدين نفسه أوسع عناية وأشمل خطاباً من الدين الإسلامي وأعمّ من ذلك بكثير من حيث إنه يتجاوز القرآن إلى سائر الأديان الكتابية الأخرى السابقة عليه من يهوديّة ومسيحيّة، ناهيك عن الديانات الغير كتابية ممّا تضمّنه الفكر الشرقي القديم في أمم عتيقة مثل: مصر والهند وفارس والصين وغيرها من أمم الأقوام البدائية والحضارات السالفة، فهل يجوز على هذا كله، اختزال كل تفكير في الدين في الإسلام فقط أو اختزاله في الدّين الإسلامي، وهل يقتصر التفكير في الدين على الإسلام وحده أو على القرآن، مُهملاً بذلك سائر الأديان والعقائد الأخرى؟
بداهةً؛ لا يمكن لقارئ لديه أدنى إطلاع على مقارنة الأديان، ولا لباحث في القرآن على التعميم، أن تغيب عنه مثل هذه اللفتة، فإنّ الفرق كبير جداً بين تراث بشري قام على الدين، وبين أصل الدين نفسه حين أظهره الله تعالى بالهدى ودين الحق على الدين كله. غير أن المنطقة التي نتحدّث منها ولا نغفلها لم تكن بغائبة عن هذا التفكير في الدين عموماً، وعلينا من ثمّ تحديدها بما يناسب علّة هذا التفكير في الدين، وبما يخضعه لها من حيث كونها مبعث شمولٍ لحركة الوعي الخاصّ بها على الجملة فضلاً عن التفصيل.
لم تكن منطقة الإظهار في القرآن بالمنطقة التي ينفصل فيها الوعي الكوني عن هيمنة المقدّس واحتوائه.
ــ منطقة الإظهار:
في القرآن الكريم نقرأ قول الله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً" (الفتح: 28). لاحظ التعقيب أنه سبحانه أشهد نفسه على هذا الإظهار كما أشهدها على الإرسال. وقوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون" (التوبة: 33، والصف: 9). ولا بدّ لهم من كراهة. ويشدّد على نفس الآية في سورة الصف في حين لم يذكر آية سورة الفتح إلا مرة واحدة، ولم يكررها كما كرر التعقيب "ولو كره المشركون" مرتين في التوبة وفي الصف، فهو سبحانه إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أشهد نفسه على الإرسال والإظهار؛ فأعجز وتحدى، ولم يكررها في القرآن كله في حين كرر التعقيب "ولو كره المشركون" في آية التوبة وآية الصف، لتوكيد الإعجاز وتشديد التحدي، وتكفي شهادته سبحانه على منطقة الإظهار: أشهد نفسه على حكمه، وتحدى وأعجز، وكفى بالله شهيداً.
أمّا كراهة المشركين للإرسال والإظهار في آيتين؛ فتنبيه دائم لتحدي الإعجاز: إظهار دين الحق على الدين كله.
من هذه المنطقة يظهر الدّين الحق برسالة الرسول الخاتم مهيمناً على سائر الكتب السماوية الأخرى بمطلق ما جاء فيه من هدى، ومن دين الحق. وعليه؛ يصبح التفكير في الدين هو بالأساس تفكيرٌ في القرآن مع كفاية الله للشهود الذي أرسل، وللهداية التي أوجب، وللدين الحق الذي ارتضاه. وما دام التفكير تفكيراً في الدين فهو تفكير في الإنسان على وجه الإجمال، ومادام تفكيراً في الدين فهو تفكير في القرآن، والتفكير في القرآن هو لا شك تفكير يصدر عن منطقة الإظهار.
لاحظ أن البعد الغائب من الإنسان هو البعد الروحي وهو الذي فيه تكمن حقيقته الأصليّة والتي تم تجهيل الإنسان نفسه بها، في حين تقدم في سائر العلوم الكونيّة والتجريبية وتأخر في علوم الإنسان فلم يعرفه سر الحياة ولا لغز الموت ولم يرتقْ لكشف حقيقته الأصليّة، ولو أنه تعمق في منطقة الإظهار لعرف على الحقيقة مكانة الإنسان بمعرفته بدايةً لمكانة القرآن.
تمثل منطقة الإظهار خاصّة ذاتية للقرآن، صفة توجد فيه وحده ولا توجد في سواه. فليس من كتاب أظهره الله على سائر الكتب المُنزلة الأخرى سوى القرآن، فالظهور هذا من خصوصياته، لا من خصوصية سواه.
تلك المنطقة (منطقة الإظهار) التي أرسل الله منها رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله؛ فالتفكير فيها ومنها هو تفكير بهذه المثابة في الدين كله، لكن ليس أي دين ولا كل دين بل دين الحق، بمشكاةٍ من الوعي النبويّ، على هداه، وعلى شرطه، لا على هدى غيره ولا على شرط سواه.
لم يكن تفكيرٌ في الدين بخارج عن منطقة الإظهار. ومنطقة الإظهار هذه هى أكمل درجة تتحقق فيها الخاصّة الذاتية للقرآن لتستولي على جميع الخصائص الذاتية فيه؛ لأنها منطقة الوحي الذي أظهر الله فيها رسوله بالهدى ودين الحق، ولأن الدين في عموم الدين، إذا كان فيه الحق؛ ففيه الباطل الذي خضع لتحريفات أصحابه وتبديلات رؤسائه.
غير أن الإسلام ظهر من منطقة الإظهار بدين الحق وكمل بهذا الظهور هدى، ثم هيمن بالرقابة والنقد والتصحيح على ما سبق من أديان، هيمن عليها بإضافة وجه الحق فيها واستبعاد الباطل الذي تم تشويهه بأيدي رجاله ممِّن أقاموا فيه قيام الأوصياء. وفي منطقة الإظهار التي أرسل الله فيها الوحي الإلهي، نزل بالقرآن الروح الأمين على قلب رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه؛ ففي القرآن خلاصة الكتب السماوية المتقدّمة.
وقد جاء بالناموس الأعظم لكمال الحالتين الدنيوية والأخرويّة، وآخى بين طبيعتي الإنسان الجسديّة والروحيّة، وأنه أنزل للعالمين أجمعين، ورُوعيت فيه مصالحهم على قسطاس مستقيم. وقد رُبيت على أسلوب هذا القرآن أمة قبل بضعة عشر قرناً؛ فنالت به على مدى سنين قليلة ما لم يصل إليه غيرها في القرون العديدة، وبلغت من بسطتي العلم والملك، ما لم يتهيأ لغيرها في مثل الزمن القصير الأمد.
وبما أن الإسلام آخر الأديان الموحاة فقد امتاز على غيره امتياز الأخير من كل شيء؛ فأصبح له على سائر الأديان امتيازاً؛ لأن للأخير من كل شيء مزيّة ليست لما تقدّمه. وقد صرح القرآن الكريم أن محمداً رسول الإسلام آخر المرسلين، وأنّه أرسل للناس كافة أجمعين:" وما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم المرسلين" (الأحزاب:40) .."وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً"، (سبأ: 28). وهذا ما لم يصرح به كتاب مُنزل حتى الكتب الموجودة بيننا للآن، فقد يؤخذ من كتاب "بوذا" أنه أرسل لإصلاح ديانة البراهمة. ويؤخذ من كتاب "موسى" أنه أرسل لبني إسرائيل. وكذلك كتاب عيسى عليه السلام بأنه أرسل إلى بني إسرائيل أيضاً.
فلم تكن هنالك دعوة في هذه الكتب إلى مُوجّهة أمم العالمين. ولكن نبوته صلوات الله وسلامه عليه، عامة، تامة، شاملة، عالميّة. وهذا ممّا يجب أن يلفت النظر لدين الإسلام ولنبيّ الإسلام، ويجعل له مزيّة على غيره من الأديان: أن منطقة الإظهار فيه مشعة لا إلى المسلمين وكفى ولكن أيضاً إلى العالمين، بمعنى أن الإرسال كخاصة ذاتية للإظهار لا يقتصر على المسلم فقط بل هو رحمة العالمين؛ فكما كانت العالمية من جهة الإرسال عالمية الدعوة، فهي كذلك عالمية الرحمة من المثوبة والجزاء.
وبما أن الإسلام دين عام فقد شرّعه الخالق لربط الشعوب، أبيضها وأصفرها وأحمرها وأسودها، بعضها مع البعض الآخر.
محا الله امتيازات الأجناس والعناصر بمنطقة الإظهار والهيمنة، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فلم يعد من هدى ولا من دين الحق سوى دين الإسلام ونبي الإسلام. أمّا من حيث الهيمنة، فإنَّ القرآن الذي نزل بالحق أشتمل على الصحيح الثابت من الأحكام وهو مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، وهو مُهيمن عليها، رقيباً وشاهداً على ما سبقه من الكتب، يقرُّ الحق ويظهر خطأ ما حرَّفوه: "وأنزَلْنَا إلَيكَ الكتابَ بالحق مُصَدِّقاً لِمَا بينَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه؛ فَاْحْكُم بينهم بما أنزل اللهُ، ولا تتَّبع أهواءَهم عمَّا جَاءَكَ منَ الحق، لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكُم أمةً واحدةً ولكن ليَبلُوَكُم في ما آتَاكم، فاستبقُوا الخيرات، إلى الله مرجعُكُم جميعاً فيُنبّئُكُم بما كنتُم فيه تَختَلفُونَ" (المائدة:48).
وفي حديث ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: يا محمد: نحن أحبار اليهود، ولو اتبعناك لاتبعك اليهود كلهم، وإنّ بيننا وبين أناس من قومنا خصومة، ونريد أن نتحاكم إليك، فإنّ قضيت لنا أعلنا صدقك. فلم يقبل عليه السلام فأنزل الله فيهم ذلك إقراراً له على ما فعل.
قضى الإسلام بما تقرّر في كتابه العزيز من أوامر ونواهٍ على العصبيات، وقرّر مبدأ المساواة العامة، وصرح بأن الإنسانية كلها في ظل هذا الدين أسرة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، وأنه ما صارت شعوباً وقبائل للتنازع وللتقاتل، ولكن للتعارف ولتبادل المنافع. أكرم الإسلام الإنسان بما تقرر لديه في منطقة الإظهار فقال تعالى مخاطباً النوع الإنساني كله: "يأيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13).
ومن منطقة الإظهار هذه، قصد القرآن تربية الإنسان؛ ليكمل بنيانه الجسدي والروحي والعقلي والنفسي والخُلقي، وجعله صالحاً لمواجه ضروب الحياة المنوعة بكل ما فيها من حق وباطل، ومن خير وشر، ومن رزيلة وفضيلة، ونهج في تربيته مناهج يجب تمييزها جملة، ثم مشارفتها تفصيلاً، وفيما أشار إليه الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدمة المصحف المفسر، فقد خاطب العقل، وناجي العواطف، وحاسب السرائر، وآخذ الضمائر، وأدّب الحواس، وهذّب الملكات، وعدّل القوى، وقرر العقائد، ودعمها بما يناسب كلا منها من براهين، وحكى حال العالمين من حيث الدين، وأرى مواقع البطلان من معتقدات سائرها، وقاد الكتائب، ودوّخ الممالك، ومَصّر الأمصار، وشيّد المدنية الفاضلة، وسنّ الشرائع الكاملة، ووضع دستور الحكومة، وصبّ الأمة على قالبه المحكم، ووضع للمعاملات ناموسها، وشرع للبصيرة شرعتها، وركب للأفئدة علاجها، وخاطب كل نفس على قدر وسعها، وأتى بذلك كله منثوراً في السور على النحو الذي أراد الله عز وجل، بحيث إن بعضه يكمل بعضه الآخر ويوضحه، أو يرى وجهاً آخر منه.
ولا شك كان المقصد السامي الذي نزل القرآن من أجله فأصابه (هو تربية الإنسان تربية صحيحة، وإبرازه أمام الوجود بشراً سويّاً، حاصلاً على كمال طبيعته الجسدية والروحية، متمتعاً بجمال حالتيه الصورية والمعنوية، وهو لأجل إبلاغ الإنسان هذه المكانة العليا عملياً فعلياً، لم يتوجه إليها من قبيل النصائح المجرّدة، والمواعظ العارية؛ بل حاولها من كل مظانها العمليّة؛ بإدخال الإنسان في مقتضياتها ولوازمها، وتوريطه في متعلقاتها وأسبابها؛ ليدفع الإنسان إليها اندفاعاً طبيعياً قسرياً؛ ليكون في كماله الديني سائراً على منهاج كماله الجسمي كيما يكون مسوقاً بنواميس طبيعة لا يستطيع أن يتخلص منها).
ومعنى هذا أن القرآن من منطقة الإظهار كاشف لقارئه عن خصائصه الذاتية التي توجد فيه وحده ولا توجد في سواه، وأنه في أمره لنا أن نتديَّن بالدين الحق الذي لا يقاربه باطل لأنه مُرسل بالهدى على حكم الاعتقاد؛ لم يتركنا عند الأمر بالتدين وكفى نؤوله كما نشاء؛ بل علمنا كيف نبحث عنه، وهدانا للأعلام التي تستدل بها عليه، وعيّن لنا القسط الذي نستطيعه من إدراكه، ونصب لنا ميزاناً نزن به محصول الفكر والنظر في جميع ما ذكر.
وددت لو أني قرّرتُ هذه اللفتة التي لا مناص لي من تقريرها عندي، وهى أن الفكر العربي المعاصر بحاجة شديدة الي العناية بالدراسات القرآنيّة المعاصرة، فإنّ أسوأ ما يفتقر إليه القارئ المعاصر هو أن يأخذ مادته العلمية عن القرآن ودراساته من المؤسسات، ولا يلتفت إلى أنظار المفكرين الأحرار التي كتبت عن القرآن بلوحات فنية حرّة عن القيود لأنها كانت منذ البداية حُرة في التوجّه. ولا يزال هذا الفكر عاجزاً عن المعاصرة ما لم يضع الدراسات القرآنيّة داخل نطاق اهتمامه بل تكون الأساس في بنيته التكوينية، فإنّ دراسة القرآن والتعمق فيه آية الإخلاص في مجال النظر وفي ميدان العمل سواء. ولأن الفكر العربي المعاصر بحاجة ماسّة إلى تقريب المصير الإنساني بلغة معاصرة نقيّة عن شوائب العصور السالفة بأثقالها السياسية وأطماعها الدنيويّة، تقريبه إلى الوجود الإنساني، إنما الوجود والمصير لا ينفصلا ولن ينفصلا، ولا يمكن دراسة الوجود الإنساني بمعزل عن مصيره. ومن يقرأ القرآن على السعة والحضور يتبيّن له أن المصير الإنساني مبطن في الوجود غير مفصول عنه بحال: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين".
نعم! إنّ لهذا الزمان انظاره القرآنية كما كانت للأزمنة المتقدّمة انظارها وأنوارها، وكذلك ينبغي أن تكون لزماننا هذا أنظاره وأنواره، وإلا خلى الفكر العربي المعاصر من شرط معاصرته إذا هو خلى من الروح الباحثة دوماً في أسرار القرآن.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم