قراءات نقدية

كريم عبد الله: صهيل الذكريات.. رحلة بين ظلال الوجود وندوب الزمن

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة: یا مَنْ تجعلني ازهر الماً – للشاعرة – سلوى حسين – السليمانية – كردستان العراق.

مقدمة:  قصيدة / يا من تجعلني أزهر ألمًا/ هي قصيدة سردية تعبيرية تختزل رحلة الذات في مواجهة الألم والوجد، وهي بمثابة تأمل في العلاقات الداخلية بين الذكريات والجسد، وبين الرغبات والواقع. تتداخل في هذه القصيدة أصوات الذات الشاعرة مع الصور الشعرية الرمزية الموحية التي تفتح المجال لتأويلات متعددة، وتعبّر عن حالة إنسانية معقدة تتراوح بين الغموض والكشف. عبر هذه القصيدة، لا تعرض الشاعرة مجرد مشاعر الحزن والانتظار، بل تقدم لنا معركة روحية، تلتقي فيها التناقضات لتُنتج نصًا شعريًا يوازن بين الوجود والعدم.

التوتر بين الحياة والموت: القصيدة تبدأ بأداة النداء / يا من/، مما يخلق انطباعًا بالحنين أو الاستغاثة لشخص غائب أو لقوة غيبية تُشرف على حال الشاعرة. يتجلى في العبارة الأولى / يا من تجعلني أزهر ألمًا/ تحوّلًا جوهريًا في العلاقة بين الحياة والألم، حيث تُقدّم الشاعرة الألم كعاطفة مزروعة في الذات، ولكنها تُزهَر كما يُزهر الورد، وهو نوع من التحويل العميق في المعنى. هذا التعبير، رغم ما يحمله من حسّ مرير، يفتح بابًا للتفسير المعاكس؛ بمعنى أن الألم قد يكون مُحفزًا للنمو، حتى وإن كان يصاحب الشعور بالتضحية والمعاناة. إذا كانت الحياة والوجود يُفترض أن يكونا مليئين بالأمل والبهجة، فهنا الألم يصبح الوسيلة التي تُزهر بها الذات، وهو ما يفتح حوارًا بين الوجود والمعاناة.

الصور الزمنية والمكانية: القصيدة تمتزج فيها الصور المكانية والزمانية بشكل متداخل، حيث تبدأ بـ / ذات مساء/ ليخلق ذلك توترًا بين الزمن المتغير الذي يحمل معاني خاصة، وبين اللحظة الخاصة التي تتسلل عبرها مشاعر الشاعرة. استخدام كلمة / مساء / يوحي بلحظة النهاية، أو بالتحول إلى الظلام، مما يعزز من فحوى القصيدة الذي يدور حول الوحدة والعزلة. المساء هو دائمًا مزيج من الغموض والفراغ، مما يجعل اللحظة أكثر استثنائية وحزنًا.

تحت الأغصان التي تدندن سمفونية الكون، يصبح الفضاء المادي مفعمًا بالحركة والنغم، حيث تراقص وريقات البنفسج وتبدد /ظلمة الوحشة/. الأغصان هنا ليست مجرد عنصر طبيعي، بل هي ساحة تقاطع بين الكائنات الحية والذكريات التي تتجسد في هذا المشهد الغنائي، الذي يطبع الحنين إلى الماضي ويُقدم أداة للتطهر من الوحشة. يُنزع عن الظلمة تعريفها التقليدي ليتحول إلى ظل لا يوحي بالراحة أو الانتماء، بل يظل كامنا في المكان المحاط بالنقمة.

الذكريات كشرارة للوجع: في القسم الذي يتحدث عن /صهيل الذكريات التي تغرز أنيابها في جسدها الزمهريري/، نجد أن الشاعرة تستخدم صورة رمزية لتمثيل تأثير الذكريات على الذات. الذكريات، هنا، لا تأخذ شكلًا من الراحة أو الحنين؛ بل هي أشبه بكيانات مُؤذية تغرس أنيابها في جسد الشاعرة، ما يشير إلى تأثيرها العميق والمتجذر في الوعي الداخلي. التصوير بـ /الزمهرير/ يربط هذه الذكريات بالجليد والبرد، مما يعزز من إحساس الكآبة والعزلة. تتخيل الشاعرة الذكريات وكأنها قوى مدمرة، أبدية وغير قابلة للهروب منها، بل هي جزء من نسيج الوجود الداخلي، تغذي نفسها من عمق الجسد وتُحفّز الألم بطريقة شبه مستحيلة الفهم.

التناقض بين الحلم والواقع: في النقطة التي تقول فيها الشاعرة / تعتلي أرجوحة التمني نحو اللامكان المكسو بندف الثلج/، تبرز فكرة التمني كأداة للهرب من الواقع المرير. الأرجوحة في هذه الصورة تعبير عن حالة التذبذب المستمر بين الأمل واليأس، حيث تظل الذات عالقة بين الرغبة في شيء غير موجود وبين واقع لا يمكن الهروب منه. / اللامكان/ يشير إلى العدم، إلى المسافة الفاصلة بين الذات وبين هدف بعيد أو مستحيل. الثلج، بجماله وبياضه، يضيف طبقة من السكينة الظاهرة، لكنه في جوهره بارد وميت، مما يعكس معركة الذات مع نفسها ومع عالمها الداخلي.

العتمة واليقين: وفي النهاية، تنطوي القصيدة على السؤال المركزي: هل يمكن للذات أن تجد اليقين وسط هذا الظلام المستمر؟ تساؤل الشاعرة / لكي أكون أو لا أكون / في نهاية النص يُعيد إلى الذهن التباسية الكينونة الإنسانية وصراع الذات مع الوجود. هذا التساؤل عن الهوية يفتح الباب أمام التأملات الفلسفية حول معنى الوجود: هل أنا موجود فعلاً، أم أنني أعيش في حالة من اللاوجود، بين الظلال والأوهام؟

الخاتمة: من خلال هذه القصيدة، تطرح سلوى حسين سؤال الوجود والعدم بأسلوب شعري فني يخلط بين الواقع والمجاز، بين الذكريات والتمني، وبين الألم والبحث عن معنى. يُظهر النص مدى تداخل البُعد النفسي العميق مع الصور الخارجية التي تُبنى حولها تجارب الذات، مما يخلق تفاعلًا دائمًا بين التوترات الداخلية والخارجية في السعي للسلام الداخلي أو للهروب من الحقيقة. القصيدة بذلك لا تعبر عن مجرد لحظات ألم، بل هي مساحة للتأمل في الذات وفي معركة الوجود والتصورات عن العالم.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

...........................

یا مَنْ تجعلني ازهر الماً

بقلم: سلوى حسين

***

ذات مساء..

تحت الاغصان وهي تدندن سمفونية الكون، تراقص وريقات البنفسج لتبدد ظلمة الوحشة أمام اتقاد انتظرها فوق ضفاف الوجد. كلما تردد علی مسامعها صهيل الذكريات التي تغرز ٲنیابها في جسدها الزمهریري، تعتلي أرجوحة التمني نحو اللامكان المكسو بندف الثلج بین رعشات مخاضها ونتوءات الخیال الملونة بجمر الاشتياق. تدور سابحة، تردد یا من تجعلني أزهر الماً تحسس یدي بشفاه ابتسامتك لٲتمایل مع همس القلب وعمق المكان بین العتمة والیقین لكي أكون ٲو لا أكون..

في المثقف اليوم