قراءات نقدية

صالح الطائي: صورة موت الأب بريشة نابغة

اعتدت أن أكتب نوعا من النقد الأدبي، يرى بعضهم أنه لا يمت للمنهج النقدي بصلة، طالما أنه لا ينضوي على تهجم أو مدح. أما أنا فأعتبره صنفا من النقد الأدبي، أطلقت عليه تسمية (نقد الربط الموضوعي)، بالرغم من وجود مصطلح متداول من قبل المتخصصين هو (النقد الموضوعي) الذي يستخدم للإشارة إلى رأي الناقد في عمل إبداعي، سواء كان هذا العمل أدبيا أم أداءً فنيا (تمثيل، غناء، فن تشكيلي) على أن يكون رأيه هذا محايدا، وبعيدا كل البعد عن التهجم والنقد السلبي اللاذع، بل عليه الاستعاضة عن النقد اللاذع بالنصائح والاقتراحات التي ممكن أن يقدمها أو يقترحها لتقويم وتطوير العمل المستهدف. وقد جاءت كتابة هذا الموضوع وفق منهجي النقدي هذا، الذي يربط بين الناقد والعمل المنقود من خلال تجربة حياتية أو حدث مشترك.

لم يكن الموت جميلا في أي مرحلة ومهما كانت أسبابه، طالما أنه ينتزع من قد نكون تعلقنا به، كالأم والأب والأخ، فموت الأب أحد أسوأ خيارات الحياة الذي فُرض علينا دون إرادتنا، ولاسيما إذا ما كان ذلك الأب أنموذجا للإنسان الإنسان بكل قيمه النبيلة ومشاعره الإنسانية، وأولها الحب الكبير لأبنائه، والتضحية من أجلهم بالغالي والنفيس. فالأب هو الخيمة التي تحمي رؤوس الأبناء من المطر والبرد والحر ومكاره الحياة، هو الحصن الذي يدفع عن أبنائه غوائل توحش الأزمان، وعسر عاديات الأيام، والعسل الذي يزيل مرارة الحياة، هو القوة التي يقاتل بها الأبناء مخاطر التوحش والرهبة، ويصارعون بها مكاره العاديات، هو البحر الذي يستخرجون من أعماقه اللآلئ والمرجان، ويحققون الأمنيات الحسان، هو النسمة العذبة التي تُشعرهم بدفِ الكون، هو الوردةُ التي تغدق عليهم عطر الأمل، هو كل شيء بالدنيا، بل هو الدنيا.

تبقى صورة الأب مرسومة في خيال أبنائه بعدما يغادرهم لسنين طويلة، ثم تبدأ للأسف بالتلاشي ببطء كلما تقدم بهم العمر، وأخذتهم مشاغل الدنيا بهمومها ومكارهها، لكنها لا يمكن أن تُمحى إلى الأبد، فسامتها تبقى شاخصة كأجمل الصور التي يبعثها العقل اللاواعي، ليعيد لها الحياة من خلال قولٍ أو فعلٍ أو أمرٍ يحتاج إلى تلك القوة التي كانت تدعما عند كل موقف نحتاج فيه لمن يدعمنا ويشد أزرنا ويقوينا.

علاقتي بوالدي كانت أجمل ما في الدنيا رغم قسوته المفرطة، تلك القسوة التي كنتُ استهجنها أحيانا، واتبرم منها، ويضيق صدري، فأشعر بالغضب. ثم لما كبرتُ ورزقت بأولاد، وجدت أنها الدواء الشافي والفعل المعافي في مواقف بعينها، لا يصلح للتعامل معها إلا ذاك النوع من الشِدة.

إن هذا الوعي؛ وإن جاء متأخراً إلا أنه كان يجددُ ثقتي بوالدي باستمرار، فأوقن أنه كان على صح وحق، وهكذا يعيد هذا اليقين لصورته الحياة في خاطري رطبة ندية عبقة بأطايب الجنة، رغم ان تلك الصورة لم تعد تبدو واضحة الملامح بالشكل الذي يرضيني، بقدر كونها كانت تؤلمني لأنها لا تكشف عن وسامته الغامرة وإشراقه وجهه حينما كان يبتسم، والدي كان حين يبتسم يشرق وجهه نورا أزليا يضيء دياجير عتمة طريقنا، أقمارا في كبد المشاعر تهدينا إذا تاهت بنا الطرق.

وكلما تقدم بي العمر تزداد قتامة الصورة، ويزداد معها حزني وألمي، إلى أن قرأت لشاعر جزائري اسمه "عبد القادر مكاريا" قصيدة كتبها عن أبيه، والأستاذ مكاريا شاعر لا ككل الشعراء، شاعر ينظم كلماته بفم ملآن، ويكتب شعره بيد ثابتة، تتسلح بالتحدي الكبير، لا لأنه يجيد صنعة الشعر فحسب، بل لأنه إنسان طغت مشاعره النقية على ما يسطره القلم. لم أكن أعرفه، ولم أقرأ له من قبل، ربما بسبب القطيعة الأدبية والفكرية بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ولذا شعرت برجة فكرية عارمة، كأنها صعقة كهرباء حينما صفعت إحدى قصائده نظري بعنف، لتحدث صدى في القلب، أعاد لي ذكرى أبي؛ الذي فارقته منذ سنين طوال، أعاد صورته البهية النقية المشرقة الأخاذة اللماحة الساحرة الباهرة.

ومع أنه ليس من السهل على عجوز مثلي جاوز السبعين عمراً أن يستمتع بالفرح والحزن في الوقت نفسه، لا لوقار الشيوخ، بل لتهالك قواهم وضعف ذاكرتهم، إلا أن كلمات الشاعر مكاريا بحق والده صعقتني حقا، والهمتني صدقاً استرجاع ذكرى من أعماق اللامكان، صورة كانت ولا زالت تتربع في اللاوعي، بثتْ بها الحياة كلماتٌ موجزةٌ ليست ككل الكلمات حياة جديدة، فالشيوخ أمثالي لا يفرحون بيسر ولا يحزنون إلا للخطب الجسيم، لكن ان تستفز الروح بضعُ كلماتِ منقوعة بعسل، فذلك هو ما يُخرج الروح من طورها المعتاد لتعيشَ لحظات فرحٍ وأسى مزدوج خلافا لكل نظريات العلماء.

وأنا واقعا رغم كثرة تذكري لوالدي في مواقف بعينها، لم يخطر ببالي يوما أن أتذكر ما كان يبدو عليه (رحمه الله) عندما مات، فأنا حينها كنت مشغولا بجبال من الهموم والأسى. والحسرة والألم الذي يأكل قلبي؛ وأنا أرى الإنسان الذي أسعدني ودللني يمتطي صهوة الموت ليغادرني إلى الأبد، وإذا بالشاعر الجزائري المبدع عبد القادر مكاريا يتطوع ليرسم تلك الصورة التي كنت أحتاج إلى رؤيتها بشدة، بل أشتاق لذلك مثل اشتياق ظمآن في صحراء التيه إلى قدح ماء بارد، وهذا يثبت أن الشعراء الحقيقيين هم سحرة طيبون، هم ملائك الكلمات؛ التي يُنهكون أنفسهم كمداً من أجل أن يرسموا من خلالها صوراً تُسعدنا، تُشعرنا بوجودنا، بعبثِ أن نفرط بما نحن فيه، وبوجوب أن نحافظ على هذا الموروث إلى آخر لحظات وجودنا. تلك هي الصورة التي رسمها مكاريا وهو يتذكر لحظات موت والد والابتسامة التي كانت مرسومة على وجهه:

باسما، مات أبي

كجميع الأنبياء

أمسك الغيمة شوقا

هزها

ساحت مياه الله

ثم ضمّتْه السماء.!

نعم هذه هي الصورة التي اتخيل أن والدي مات، وهي مرسومة على وجهه، هكذا كان أبي يبتسم عند الشدائد، وكأن المكاره تحيي بروحه كل عناد الكون، وتترجم رغبته بالصمود مهما عتت الخطوب، فلقد تذكرت أن والدي رقى إلى السماء لتضمه بحنانها العذب الرطيب والابتسامة ترتسم على محياه، وكأنه في حفل عرس، وقد نجح الشاعر في ترميم تلك الصورة وأعاد لها الحياة وكأنها تحدث الآن امام اعيننا، فأجاد وأبدع.

ولكي يوسع مدى تأملنا، ويحول الصورة إلى باناروما، لم يكتف الشاعر برسم مخطط روحي للابتسامة فحسب، بل تجاوز ذلك فغاص في عمق المشاعر، وتماهى مع خفايا الروح البشرية، فترجم لحظات ما كان الراحل يشعر به

مرَّ حقلٌ أخضر في راحتيْه

وعلى فِيهِ جرى جدولُ ماء

نطّ من عينيْه وهجٌ

ملأ الجو بهاءً، وعطوراً، وغناء.

هذه الرؤية الميتافيزيقية لا يمكن لأدق الكاميرات أن تصورها بكل تلك الدقة المدهشة، فقط قلم الشاعر المرهف بالإحساس نجح في نقلها بأمانة، فعانقت الضمير. من هنا نجد سيل الذكريات التي سطر مكاريا حقيقتها لم يتوقف عند هذه اللقطة المشرقة بالتفاؤل والأمل، لأن الراحل حلق مع الفراشات، فلقد أبصر الواقع وما وراء الواقع، وأدرك الحقيقة، حقيقة أن يموت الذي كنتَ تعشقُ بقاءهُ حد الوله، ويترككَ وحيدا كفرخٍ أزغبٍ سقط من عشٍ، وبات في العراء يترقبُ الخطرَ الداهم:

حوله حامتْ فراشاتُ

وحولي زرعَ الخوفُ البكاء

قالت الأرض: تمنّى!

قلتُ: ما الذي يطلب فرخٌ

فجأة، صار وحيداً في العراء

هل سيكفيه الرثاء؟

ولأن مركز الأب الخالد لا يقاس عند العقلاء بمقدار ما يملكُ من مال وضِياع وأطيان ومركز وظيفي وكل متاع الدنيا، فهو الأب، فهو حتى لو كان معدما فقيرا، يكفي أنه يحمل هذه الصفة العظيمة التي أسبغها الله عليه إكراما، فجعله ربا صغيرا، إنْ كان لم يوجب السجود له، فقد جعله سبحانه السبيل إلى رضاه: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين"، هذا بالضبط ما أراد مكاريا توضيحه لنا ليشعرنا بالامتنا، وهذا ما أرادنا أن نعرفه:

باسماً، مات أبي

لم يكن طودا، ولكن

في عيوني كانَ كونا من عطاء

لم يكن ربًّا، ولكن

في حياتي

كان بستانَ رجاء

كان كالصيفِ إذا أعطى وغنى

وإذا جفّتْ ليالينا شتاء

كان يحمي مضغةَ القلبِ من البرد

ومن الخوفِ

وإعصار الطريق

كان ماء في براكين الحريق

كان كفّا نحو صيحات الغريق

كان لي كل الذي يعنيه

للعمرِ صديق.

نعم هذا هو الأب، هذا الكائن الأسطوري الذي عشنا حقيقته؛ التي نافت زهوا على جميع الأساطير. وسلمت ذائقة شاعرنا المبجل الذي ترجم مكنونا كان حبيسا في صدورنا التي تنوء بحمله، ترجمه إلى أحاسيس تضوع بُشرى لكل سميع.

وبرأيي أن الشاعر في قوله هذا تألق مرات عديدة، مرة مثل فنان عالمي يعرف كيف يرسم الصور المبهرة، ويبعث الإيحاءات المثمرة؛ التي تفتح أمامك آفاق التساؤل والحيرة. وأخرى مثل عازفٍ يعرف كيف يجعل النوتات تتراقص، وتسحبك برفق لترقص معها. وثالثة أنه لم يقف عند حدود المجد هذه، بل تجاوزها، ليستكن الأب الراحل داخل الروح المعذبة التي يقتلها الوله، وما تشعر به في لحظات الفراق الأبدي، حين تودع ركنا حصينا كانت تلجأ إليه في كل ملمة، وسوف يكشف فقدانه ظهرها لعاديات الزمان، بعد أن كان الأب جوشنا حاميا من كل سوء. وكم كان الشاعر حصيفا وهو يترجم تلك اللحظات التي تمر ثقيلة على الإنسان بقوله:

باسماً، مات أبي

وغفا في الروح مليون جواب

 كيف يمكن أن تشرق شمسٌ

وهو لا يمحو السّحاب؟

كيف يمكن أن يثمرَ قمحٌ

وهو لا يغريِ التراب؟

كيف يمكن أن يثغو خروفٌ

وهو لا يفري الجراب؟

كيف يمكن أن تضحكَ أمي

وهو لا يطرق بابْ؟

كيف يمكن أن يدعو إمامٌ لصلاةٍ

وهو لا يهمسُ للقلب دعاءً؟

ثم يتلو خاشعاً أمّ الكتاب؟

مع حشد الرؤى الذي يستفز مكامن الروح، مع كل تلك الصور البهية النقية المليئة بالآهات والحسرات والوجع اللذيذ، لم يغفل الشاعر حقيقة أن الوجع لا يُتَرجَمُ، ولا يشعرُ بالوجع إلا من كابده، وصدق من قال: "لا يؤلمُ الجرحُ إلا مَن بهِ ألمُ". فأراد شاعرنا المبجل أن يعبر عن هذه الحقيقة، حقيقة أن فراق الأب؛ ومهما تفاعل الناس معه وتعاطفوا، إلا أنه وجع دفين، هناك في أعماق الروح، ينهش كوحش كاسر، لا يعرفه إلا اليتيم، اليتيم وحده يشعر بهذه الحقيقة، لا مثل غيره من الناس، حتى وإن بدت عليهم مظاهر الحزن والتأثر، فشعور اليتم وحده هو الترجمان الحقيقي للخسارة العظمى، خسارة أن تفقد أباك:

باسماً، مات أبي

وتعرّتْ سوءةُ الكونِ أمامي

وقفَ الشعر بعيدا

يتملّى سحنتي السوداء

في مرآة حزني

ويدسُ الصمتَ في ريقي

وبردا في عظامي

لم أجد إلا اليتامى

يتهجون كلامي!

هكذا ختم شاعرنا الكبير عبد القادر مكاريا، شاعر الجزائر الحبيبة لوحته المفجعة، فأغنانا عن قراءة ألف كتاب، وبعث في أرواحنا شحنة ألمٍ أشعرنا كم فعل اليُتمُ بنا، حتى لو تجاوزنا السبعين، فالأب هو الأب ولا يمكن أن يصور مصيبة فراقه إلا الشاعر الساحر الذي فقد أباه واوجعه اليتم.

شكرا صديقي فقد أفرحتني وابكيتني.

***

الدكتور صالح الطائي

في المثقف اليوم