قراءات نقدية

محمد العرجوني: زعزعة منطق اللغة بمنطق المتعة

قراءة في: ماذا لو هبت ريح.. للشاعرة: سنيا فرجاني[1]

كيف يشتغل الخيال؟ سؤال لطالما ظل معلقا بالنسبة لمن يحاول فك شيفرة الإبداع الأدبي. فالإبداع مرتبط بالخيال الذي تجتهد اللغة، حينما تسعف مستعملها، باعتباطيتها لنقله لنا، وغالبا وهي متحدية المنطق النحوي، الذي يقننها، لكن ليس على المستوى النسقي (إلا نادرا حفاظا على شيفرة التواصل)، وإنما على المستوى الاستبدالي. لهذا تلجأ إلى كل الصيغ الأسلوبية والبلاغية والفنية والجمالية الممكنة لتقريبه من المتلقي. وعلى هذا المستوى يمكن تقييم براعة كل شاعر. لكن يظل هذا التقييم خاضعا لنزوات العلوم الإنسانية المعروف عنها بأنها كثيرة المناهج، لكنها بالمقابل، قليلة النتائج مادامت مناهجها غير دقيقة، وغير خاضعة للتجريب. فحاولت كل المدارس المعروفة وكل النقاد عرب وعجم، كل من معجمه الثقافي، تفسير هذه الظاهرة عن طريق تحليل الصور الشعرية [2]. لهذا في نظري يستحسن المغامرة، التي هي نفسها عنصر من عناصر الإبداع، اللجوء أيضا إلى العلوم الحقة، لمحاولة فهم عملية التخييل التي تنتج لنا صورا تمتع القراء، خاصة متلقي الشعر منهم، كالرياضيات والفيزياء الكمومية، والبيولوجيا الكمومية وعلم الأعصاب، مادامت هي أيضا تتقاسم مع الإبداع الأدبي بعض العناصر، كالتجريدية التي نجدها في الرياضيات وفي الفنون التشكيلية والشعر. بل وحتى على مستوى الخيال نفسه، فالفيزياء أو العلوم بصفة عامة تنطلق هي نفسها منه، فتتصور ما قد يحدث أو ما قد ينتج وهو ما تسميه نظريات، في انتظار التطبيق التجريبي. كما حدث مثلا مع علماء الأعصاب[3] قبل أن يتمكنوا منذ زمن غير بعيد، حسب بعض التجارب، من ضبط بعض الطرق لمراقبة تأثير أنواع المثيرات المختلفة على الدماغ البشري. فلاحظوا أن الدماغ، عندما يستقبل إحساسًا جديدًا، سواء عن طريق اللمس أو البصر أو السمع، فإن الخلايا العصبية تطلق نبضات كهربائية عن طريقها يتم تبادل رسائل بالغة الصغر فيما بينها. الشيء الذي قد يحدث أيضا أثناء الكتابة وإنتاج الصور الشعرية. ثم لا ننسى كذلك الإشارة إلى ما سمي بالسيميائية الحيوية[4] التي تدخل في مجال علم الإشارات والأحياء، وهو مجال مفيد جدا في نظري لأنه يهتم بدراسة كيفية صنع المعنى ما قبل المعنى اللغوي، وقد يُستفاد منها حتى ونحن نشتغل من داخل اللغة، لأن هذه اللغة شعرية، وهي في علاقة مع ما يحدث على الصعيد البيولوجي، كما هي أيضا في تفاعل مع ما يحدث على الصعيد النفسي والاجتماعي. من جهة أخرى كذلك، نشير أيضا إلى الأبحاث المتواصلة حول ظاهرة الوعي لدى الإنسان وكيفية تشكله، وهو البحث الذي يقربنا أيضا من عملية تشكل الخيال ما دام فضاؤه أيضا هو المخ. وفي هذا الصدد هناك نظرية اتفق حولها عالمان، تسمى نظرية: [5]"Orch-OR". الأول هو الباحث "ستيووارت هامروف" Stuart Hameroff، مختص في التخدير ومهتم بدراسة تشكل الوعي البيولوجي، والثاني هو الفيزيائي "روجي بنروز" Roger Penrose، عالم رياضيات وفيزيائي ودارس للكون، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء، والذي اشتغل كثيرا مع الفيزيائي Stephen Hawking، يساهم في نفس الموضوع بمقاربة كمومية. وأخيرا وليس آخرا، لايفوتني أن أذكر بالنظرية التي تعتمد على انقسام المخ إلى نصفين مختلفين، لعالم النفس والحائز على جائزة نوبل روجر دبليو سبيري[6]، والتي تقول بأن الإنسان المتسم بالتحليل المنطقي وبالمنهجية في تفكيره، يساري الدماغ، أما من له دماغ يميني، فهو أكثر اهتمام بما له علاقة بالفن والابداع بشكل عام. وهكذا تكون قد تحددت المنطقة الدماغية التي ينتج عنها الخيال، او بمصطلح أدق تنتج عنها الصور الشعرية.

هذا الزخم من الأبحاث العلمية، يفسر في اعتقادي وإيماني بأن القبض على كيفية تشكل الخيال، ليس إلا مسألة وقت. وهكذا سوف يتضح بأن المخ كمادة رمادية، وهو، في أوج عملية الخيال، لا ينطلق من فراغ وبشكل هلامي ما دامت فكرة الفراغ مدحوضة علميا حسب الفيزياء[7] الكمومية. ومن جهة أخرى فإن الخيال ليس موجودا لأجله فقط، وبدون وظيفة موضوعية سواء عن وعي أم لا. والدليل وهو أن بعضا مما تصوره الخيال منذ فطنة الإنسان، تحقق عمليا، وهو ما تؤكده الأمثلة المتعددة فيما يسمى بالأدب التخييلي العلمي[8]. وأنا أتحدث عن الخيال وكيفية اشتغاله، في علاقته بالعلم، استحضر الشاعر الفرنسي أبولينير[9] الذي مهد لما سمي بالسريالية فيما بعد، ردا على بعض منتقديه حول انزياحاته (خياله) التي لم تكن تخضع للمعاييرالمتداولة حينها، مجسدا فكرته لتقريبها ممن أسميهم بآكلي المعاني (sensivores) بقوله: "حينما أراد الإنسان تقليد المشي، خلق العجلة التي لا تشبه الرِّجل. وهكذا كان سرياليا من غير أن يعي ذلك". إن هذه الجملة التي تبدو بسيطة، تدخل فيما تحدث عنه إيتيين كلاين Etienne [10]Klein، أحد مناصري "علم الجسور" بين العلوم والفكر والفلسفة وبطبيعة الحال لا يمكن استثناء الإبداع الأدبي والفني من هذه العملية التي تسعى إلى تكسير الفكرة المتداولة التي أدخلت كل معرفة داخل دائرة اختصاصها، مانعة هكذا التفاعل الإيجابي بين المعارف. هكذا إذن، يمكن استيعاب الخيال الجامح الذي يتميز به بعض "الشعراء" (بين مزدوجتين في انتظار مصطلح أقوى، وأعني هنا كتاب ما يسمى بقصيدة النثر)، بالحديث عنه مستحضرين الترابط بين المعارف.

هذه التوطئة، أردتها فسحة نظرية وتحفيزية لتجاوز ما هو متداول حول الخيال سواء لدى الأدباء والفلاسفة كما سبق الذكر، أو لدى المتصوفة، من أمثال ابن عربي الذي حدثنا عن الخيال المنفصل والخيال المتصل[11]، قبل مقاربة قصيدة سونيا الفرجاني التالية، المنشورة على صفحتها في الفيسبوك:

ماذا لو هبّت ريح من الجنوب على عيوب الشعر الغزليّ ونثرته؟

أو شردته

أو شتته؟

سيتطاير في العالم وفي الهباءات

داخل مخابر مكتظة بالمرضى

سيُقْضَى

وقت طويل أمام نهود مرمية على الأرصفة

وحول سيقان وربلات وأعضاء عارية تحوم حولها أسراب من الكواسرْ.

ستغامر النسوة الباكيات بجمع القطع الساقطة،

حلمات دامية

شعور منتوفة وجماجم كانت عليها عيون كسرها الوصف الذليل

فساحت.

يصرخ الباحث العليل أمام أنبوب ومجهر:

هذه حفنة من نحر أنثى

كيف أَوَتْ نجمة محترقة

إلى يرقة ؟

رفعَ الستار

واستدار:

ثمّة تابوت في الريح

ثمة شفاه ترتعش بشدة

تزيح نظراتي وتصفعني.

ثمة شيء غامض يمنعني.

المدن تغلي بالنساء الممزقات.

لحم منتوف يكسو أطراف المباني

طيور تهبط على قطع من الأرجوان

نهد يسقط داخل بوق الصومعة

يرفع المؤذن صوته فيطلع ثدي ويرتطم بالآذان.

تغير لون المنازل و المباني

شبعت الكلاب وشبع الذباب

وشبع الشعر

لكنّ الأرض شيّعت نساءها

وارتطمت في حادث سير أبويّ؟

الفكرة الرئيسية التي انبنت حولها القصيدة هي : استهزاء من الشعر الغزلي ومقت للذكر المهووس بأنوثة المرأة. كيف استعانت بالخيال لتركب صهوته وتقدم فكرتها في طبق مصمم بلغة ماورائية، يشتهيها المتلقي؟ بماذا استعانت كي تجعل من الخيال لغة تفوق لغة الحروف؟ لم تبتعد عن محاكاة الطبيعة. لكنها محاكاة تخرج عن المتداول حسب المنطق الأرسطي.

النص في بنائه، يشبه كتابة سيناريو. وأعتقد أن هذا التشبيه يفي بالغرض لأن الشاعرة تنطلق من فرضية معبر عنها بوضوح: "ماذا لو هبّت ريح من الجنوب". ولعلها الجملة الوحيدة التي لا تخرج عن منطق اللغة المتداول. أما ما تبقى، فيدخل فيما أسميه بمنطق المتعة. فالنص كله متعة، وكل صورة تزيد في نهم المتلقي. لهذا يمكن الحديث عن سيناريو وهو نفسه يدخل في التخيل، فيسمح لها بالتداعي الحر. يتشكل إذن هذا السيناريو من مقدمة جامعة، بقولها:

" سيتطاير في العالم وفي الهباءات

داخل مخابر مكتظة بالمرضى"،

لتهيئنا بشكل مرتب لما قد يحدث بعد هذه الفرضية بكل دقة. وهو ما ستتكلف بوصفه هي نفسها أو على لسان الشخصية الوحيدة التي ركزت عليها في نصها هذا الذي يجمع بين الاستهزاء كما قلنا، والاشمئزاز بفضل الصور الجنونية التي خصت بها المرأة موضوع الشعر الغزلي. وللوقوف على كل ما ذكرنا سوف نخصص لكل فكرة فقرة معنونة.

الفرضية:

"ماذا لو هبّت ريح من الجنوب على عيوب الشعر الغزليّ ونثرته؟

أو شردته

أو شتته؟"

ونحن نتساءل عن كيفية اشتغال الخيال لدى الشاعرة، نلاحظ أنها في هذه الفرضية، انطلقت من الطبيعة باستحضار "الريح الجنوبية". فلا بد لنا في غياب ملاقيط تشد على نوروناتها لتقيس لنا اشتغال الخيال لديها، أن نقوم باستقراءات قد تساعدنا على فهم كيف حضرت صورة "الريح". هل هناك جسيمات أو ذبذبات كهرومغناطيسية، هي التي تشكل هذا الخيال؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف تم إفراز هذه الجسيمات في حالة وجودها؟ هل هناك حافز وراء هذا الإفراز ومن ثمة حضور الصورة؟ هل الحافز نفسي، مرتبط بالحالة النفسية للشاعرة في تلك اللحظة بالذات، أم هي ردة فعل اتجاه حدث واقعي أحيته الذاكرة؟ فلنكتفِ بهذه التساؤلات التي تعبر عن جهلنا العلمي حيال عملية لا مناص لنا عنها في عالم الإبداع، لكنها تزرع فينا حدة الاهتمام بهذه العملية الرهيبة عبر ما هو بين يدينا، أي نحاول التعامل مع اللغة التي تتحمل مسؤولية إيصال هذا الخيال، وهي مقاربة لسانية تتفادى الإسقاطات المجانية، معتمدة على اللسان، ككلام محدد بهذا النص، خاضع لمنطق نحوي وآخر معنوي بفضل المرجعيات، وكمنطوق تنسجم أو تتنافر حروفه فيما بينها، وهو ما يساعدنا على فك شيفرات الصور.

فكلمة "الريح"، تجبرنا حسب الثنائيات اللسانية، على استحضار كلمة "الرياح". فمنطقي أن نتساءل لماذا اختيار الكلمة الأولى؟ فالجواب هو أنها ذات وظيفة تدميرية، مناسبة للموضوع، خلافا لكلمة "الرياح". أما كونها "جنوبية" وليست شمالية ولا بحرية (مستحضرين دائما الثنائيات اللسانية) ، فلأنها، كما تُعرفها الأرصاد الجوية، قوية وتهب من الصحراء الكبرى صيفا محولة الجو الخارجي إلى جحيم. وهكذا تصبح الوظيفة التدميرية أكثر فاعلية. لكن الشاعرة ليست متيقنة من وقوع الحدث، وهو ما نستشفه من خلال تساؤلها "ماذا لو" الذي يعبر عن فرضية تضمر في نفس الوقت تمنٍّ صريح وصارخ. فتواصل نورونات الخيال اشتغالها من خلال هذا التمني لتجعل الريح "تهب على عيوب الشعر الغزلي". وهنا نلتقط بملقطنا اللغوي الصورة (في انتظار أن يتم التقاطها عمليا في المختبر العلمي)، التي تبدو أكثر لمعانا وإدهاشا، لأن الريح أُلصقت بما ليس من طبيعتها، وهو مأ اعطى للشعر الغزلي صفة ملموسة كنبتة أو كحنطة، ما نجد له تفسيرا كذلك فيما بعد، حيث تبدو الشاعرة مترددة في فرضيتها أو أمنيتها، وهي تنتقل من: "تنثره" إلى "تشرده" وفي النهاية تستقر أمنيتها على "تشتته". ومن خلال وقفة سريعة، على ما يبدو إطنابا، وهو تراكم أفعال تصورِها لما قد يحدث، ندرك على أن هناك تصاعد خيالي ناتج عن ترددها هذا. ما يتيح لنا تعددا في التأويل. فإذا وقفت عند "تنثره" فمعناه أن لها شك في هذه العملية، مخافة ألا تكون الريح الجنوبية تدميرية، أو ربما تتحول إلى رياح، فاستحضرت عملية فلاحية قد تهدف إلى زرعه كي ينبت مجددا، وهنا فكرة الحنطة التي ذكرناها، وهو ما لا تريده، بل ما لا تتمناه. ثم حينما استدركت الموقف استعانت ب" تشرده". وهذه العملية أيضا لا تعني القضاء عليه، وإنما تفريق محتواه وتبقى فكرة الحفاظ عليه ولو في حالة تشرد، ما ينطبق أيضا على  المتغزل لكي يصبح مهمشا فقط، مادامت عملية التشرد تحمل مدلول الأنسنة. وقد يثير هذا الفعل شهيتنا في التأويل، ونضيف "به" للتشرد، فيصبح لدينا فعل "تشرد به"، وهو ما يعني فضح الشعر الغزلي وذيوع عيوبه بين الناس، وهو بطبيعة الحال  ما قد ينطبق كذلك على شاعر الغزل. لكنها غير مقتنعة بهذه العملية أيضا، يأتي الاستدراك الثالث وكأنها تضغط على زر النورونات لكي تفرز لها صورة أخرى وهي عبارة عن "دعاء" مضمر، مستوحى من ثقافتنا الدينية الشعبية :"اللهم شتته"، لتستقر على هذه العملية /التمني. فتشتيت الشيء، يعني عدم القدرة على تجميعه مجددا، نظرا لبعثرته، ومن ثمة اندثاره النهائي. صورة تذكرني بما قاله الشاعر السوداني إدريس جمّاع، حيث استعمل "النثر" كمرادف "للتشتيت":

"إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه // ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه".

وتواصل توليد الصور انطلاقا من هذا الضغط على زر النورونات، "فيتطاير بعد الشتات كهباءات" أو غبار لا نراه إلا إذا كانت هناك أشعة الشمس (وليس غبار الطلع لأن الشاعرة لا تنتظر تلقيحا). من هنا تهيئنا لتتبع خيالها خلال مرحلتين:

المرحلة الأولى:

"سيتطاير في العالم وفي الهباءات".

العالم هنا ممثل بالرصيف، أي بالشارع العمومي في أي مدينة أو بلد، مازالت فيه المرأة "ضحية" الشعر الغزلي.

"سيُقْضَى

وقت طويل أمام نهود مرمية على الأرصفة

وحول سيقان وربلات وأعضاء عارية تحوم حولها أسراب من الكواسرْ.

ستغامر النسوة الباكيات بجمع القطع الساقطة،

حلمات دامية

شعور منتوفة وجماجم كانت عليها عيون كسرها الوصف الذليل

فساحت."

صور خيالية تتقن الحديث عنها عن طريق لقطات السيناريو السينمائي. وكأننا أمام فيلم رعب، تاركة لنا في بداية المقطع تصور الشخصيات أو الكومبارس، باستعمالها فعلا مبنيا للمجهول، مركزة فقط على الحدث بقولها: "سيُقضى..". ولنا أن نتخيل أشخاصا عاديين، ككومبارس، وهم ينظرون بتقزز، ومن غير ملل أيضا، إلى النهود المرمية على الأرصفة، وإلى السيقان والربلات وأعضاء عارية. ولإعطاء الصورة إحساس تقزز ورعب، جعلت هذه الأعضاء كلها ضحية أسراب من الكواسر. ولأنها تمقت الشعر الغزلي كثير العيوب، جعلت من أولئك المدمنين عليه ككومبارس، يتفرجون طويلا في هذه الأعضاء المرمية على الرصيف، ويتفرجون على أسراب الكواسر، وهم شعراء الغزل الكثر، يحومون حولها، لتصبح إذن المرأة هنا ضحية لذلك، وكأنها لا تساوي شيئا ولا آدمية لها ما دامت الشاعرة فصلتها تفصيلا، كأعضاء مرمية على الرصيف. إلا أن السيناريو الذي اختارته الشاعرة، فرض عليها إيجاد بطلة أو بطلات، تغامرن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهن "النسوة الباكيات". فتقوم بجمع القطع الساقطة من حلمات، وشعور منتوفة وجماجم فقدت عيونها، التي كسرها الوصف الذليل. وبعد أن استوفينا تقريبا المرحلة الثانية من هذا السيناريو، نمر إلى المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة:

يصرخ الباحث العليل أمام أنبوب ومجهر:

هذه حفنة من نحر أنثى

كيف أَوَتْ نجمة محترقة

إلى يرقة ؟

رفعَ الستار

واستدار:

ثمّة تابوت في الريح

ثمة شفاه ترتعش بشدة

تزيح نظراتي وتصفعني.

ثمة شيء غامض يمنعني.

المدن تغلي بالنساء الممزقات.

لحم منتوف يكسو أطراف المباني

طيور تهبط على قطع من الأرجوان

نهد يسقط داخل بوق الصومعة

يرفع المؤذن صوته فيطلع ثدي ويرتطم بالآذان.

تغير لون المنازل و المباني

شبعت الكلاب وشبع الذباب

وشبع الشعر

لكنّ الأرض شيّعت نساءها

وارتطمت في حادث سير أبويّ؟

كسيناريست، تختار الشاعرة شخصية الباحث لتواصل صورها المفزعة. فالباحث "عليل" ما دامت "المخابر مكتظة بالمرضى"، كما سبق وأن أشارت إلى ذلك الشاعرة في بداية الأمر. ثم لا يجب أن ننسى بأننا أمام نص شعري بامتياز، يمتح من السيناريو، لهذا يكون الاهتمام بجمالية اللغة، إما عفويا أو تنقيحا، وهو ما نجد أثره في استعمال الشاعرة نوعا من التوازي بين "الوصف الذليل" في الشعر الغزلي، حسب الشاعرة، و "الباحث العليل"، الشخصية التي سوف تنقل لنا ما تراه، جراء حدث الشعر الغزلي وأثره على جسد المتغزل بها. فالمرور بفضل عملية السجع العفوية، من "الذليل" إلى "العليل"، هدفه تأكيد الشاعرة على أن الشعر الغزلي، وهو متصل بأنبوب، وتحت مجهر الباحث، (الذي بيده مشرط، كما نتخيله)، داخل المختبر النقدي، لن يحصد إلا ما زرعه المتغزل. فرائحة الموت، والصور البشعة، هي التي تتبخر أمامنا ونحن نواصل قراءة النص. فالباحث يصرخ بملء فيه أمام فداحة الشعر الغزلي. فهناك حفنة نحر، وتابوت في الريح وشفاه ترتجف، ونساء ممزقات ونهد داخل بوق الصومعة إلخ....فتكتمل الصورة البشعة، بوجود كلاب شبعت بعد نهش الجثث، وذباب يغطيها. ثم المفاجأة مع "الشعر" الذي شبع بدوره من هذه الجثث، لتعيدنا إلى الموضوع، وهو مقت الشعر الغزلي، الذي ما هو إلا نتيجة "للسير الأبوي"، أو التحكم الذكوري في الحياة، واعتبار جسد المرأة بضاعة.

هكذا تتصور الشاعرة تأثير الشعر الغزلي على كل مناحي الحياة. فتقحمنا بخيالها الجامح داخل عالم المختبرات حيث التشريح والدماء وتناثر أعضاء أنثوية لتعم الصورة المدينة بأكملها. فيكون سببا في تأزيم "مرضى المخابر، وترتطم الأثداء بالآذان، ويتغير لون المنازل والمباني إلخ...".

ماذا نستنتج كآكلي المعنى؟ الشاعرة ترفض الغزل أو التغزل بالمرأة لأن ذلك في نظرها يحط من إنسانيتها كروح قبل أن تكون جسدا كباقي الأجساد. وبهذه القصيدة ترفض تسليع المرأة وكأنها تتخيلها تحت سيطرة ما يسمى ببورصة المال أو بسوق يعرض السلع، بالدلال، وهم شعراء الغزل، كل واحد يزايد شعريا على الآخر ليظفر بفريسته. هي نظرة نسوية بامتياز وليست نسوانية. تدافع عن كرامة المرأة كما تراها هي الشاعرة أيضا. وكأنها تقول: هل رأيتم شاعرة تقول الغزل فتسلع الرجل؟

أتوقف عند هذه القراءة التي أعتبرها محاولة لفهم اشتغال الخيال، تاركا المجال مفتوحا للمتلقين المهتمين بكيفية اشتغاله. هكذا تشتغل، في نظري، نورونات الشاعرة لتتميز بصورها المتولدة بدقة إحساس عال يرفع من دهشة المتلقي نحو ماورائيات لغوية قد تنال منها الفيزياء الكمومية، وبيولوجيا النورونات والأعصاب، في وقت لاحق، لندرك كيف يشتغل الخيال بدقة، كما نالت من إشكالية وجود كل الجسيمات والقوى الأساسية للطبيعة وشرحتها على أساس أنها عبارة عن اهتزازات لها عشرة أبعاد (علما أن الأبعاد المعروفة هي ثلاثة بالنسبة للمكان، وبعد للزمان) بفضل نظرية الأوتار الفائقة. هذه النظرية التي وحدت الفيزياء الكمومية بالفيزياء النسبية، توحد كان يعتبر مستحيلا، قد تفتح الباب لمعرفة إن كان خيالنا هو نفسه وليد أوتار فائقة تشبعنا صورا شعرية، مادمنا كتلا مشكلة من جسيمات لها نفس الخصائص كتلك التي تهتم بها الفيزياء الكمومية.

***

محمد العرجوني

..................

[1] نشر على صفحتها بالفيس بوك

[2] https://dr-almahmoodi.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9/#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%D9%87%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A&text=%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9%20%D8%B9%D9%84%D9%89%20%D8%AA%D8%B6%D9%85%D9%8A%D9%86%20%D9%84%D9%81%D8%B8,%D9%85%D8%AF%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%87%D9%86%D9%8A%D8%A9%20%D8%BA%D9%8A%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D9%83%D8%A9%20%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B3.

[3] https://www.medicoverhospitals.in/ar/articles/complexity-of-the-human-nervous-system#:~:text=%D8%B9%D9%84%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A8%20%D9%87%D9%88%20%D9%81%D8%B1%D8%B9%20%D9%85%D8%AB%D9%8A%D8%B1,%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B6%D8%A9%20%D8%A8%D9%8A%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%BA%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%88%D9%83.

[4] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9_%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A%D8%A9#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A%D8%A9%20(%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%84%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%A9%3A%20Biosemiotics),%D9%88%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A.

[5] Francia | The Daily Digest |

[6] Wikipedia

[7] Courts-circuits, Etienne Klein, Gallimard 2023.

[8]  على سبيل الذكرJules Vernes روايات الكاتب الفرنسي جيل فيرن

[9] https://www.bozar.be/fr/regardez-lisez-ecoutez/la-naissance-du-surrealisme#:~:text=Le%20terme%20%C2%AB%20surr%C3%A9alisme%20%C2%BB%20fit%20son,ressemble%20pas%20%C3%A0%20une%20jambe.

[10] Ibid, Etienne Klein.

[11]https://www.alaraby.co.uk/culture/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%B1-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D8%B1%D9%91-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%AA%D9%87

 

في المثقف اليوم