قراءات نقدية
علي فضيل العربي: ثقافة البؤس وبؤس الثقافة
يكون الذين قرأوا رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو، قد اكتشفوا – إن هم قرأوها بعمق وتأمّل – حجم البؤس الاجتماعي والثقافي والسياسي (الفقر المدقع والأمراض البيولوجيّة والنفسيّة والجهل المميت والاستبداد)، الذي كان سائدا في المجتمع الفرنسي خاصة، والأروربي عامة في القرن التاسع عشر، وهو امتداد طبيعي لعصر الظلمات في أوربا، في الوقت الذي كانت الحواضر العربيّة والإسلاميّة في الأندلس وبغداد والقاهرة وتيهرت وبجاية الناصريّة ومراكش والقيروان، تنعم بنور العلم والمعرفة.
أعود إلى صلب الموضوع، وهو أنّ وضعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي الحالي، لا يختلف كثيرا عن وضع أسلافنا غداة سقوط بغداد يوم 9 صفر 656 هـ الموافق لـ 10 شباط (فبراير) 1258 م، وهو سقوط ألقى بهم إلى غياهب قرون من الضعف والانحطاط، لتليها فترة الغزو الاستعماري، الذي أمعن في تدمير الهويّة وتفتيت الأمة العربيّة والإسلاميّة إلى أقطار، وصمّم لهم الغرب الاستعماري، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا جامعة عربيّة، يجتمع في أروقتها العرب، ليتبادلوا التهم والملامات والخصومات، وينفضوّا من حول بعضهم البعض وأوجههم كظيمة من شدّة الغيظ.
ماذا أنتجت لنا ثقافة البؤس؟ ومتى نتطهر من بؤس الثقافة؟ متى يدرك العرب والمسلمون، أنّ ما يجري اليوم في غزّة من إبادة جماعيّة لإخواننا الغزيّين والفلسطينيين عامة، هو من إفرازات ثقافة البؤس والبؤس الثقافي، الذي غزا منظومتنا التعليميّة، الابتدائيّة والثانويّة والجامعيّة، ومنظومتنا الدينيّة، الفقهيّة، ومنظومتنا الاجتماعيّة، المتمثّلة في التفكّك الاجتماعي والتسيّب الأخلاقي، ومنظومتنا السياسيّة،القائمة على الاستبداد الشرقي والديمقراطيّة الغربيّة، التي تدير حربا طاحنة في غزّة وأوكرانيّا والسودان، من خلال تمويل أطراف الصرع بالأسلحة الفتّاكة، وتأييد الظالم لسحق المظلوم، ومنح الحق لمن لا حق له، وسلبه من صاحبه ظلما وعنوة وقهرا.
من مظاهر بؤسنا الثقافي، إشغال أفراد المجتمع بالصغائر وإحلالها محلّ الكبائر، وبالمسائل المظهريّة على حساب المسائل الجوهريّة، وضياع اللبّ بين القشور في المسائل الفقهيّة ؛ تأجيج الصراع بين المكوّنات الاجتماعيّة من خلال إشعال الفتن الدينيّة واللغويّة والإثنيّة والإيديولوجيّة والمذهبيّة.
ومازالت الأفكار الميّتة والمميتة تتصدّر منابر الحوار في الجامعات والمنتديات والقنوات المسموعة والمرئيّة ومواقع التواصل الاجتماعي. في الوقت الذي يبيد فيه الكيان الصهيوني – وهذا باعتراف قطاع كبير من المجتمع الغربي ومحكمة العدل الدوليّة – مازلنا، نحن، عاجزين عن توفير أبسط الخدمات الاجتماعية للمواطن العربي (ماء، وكهرباء) في عزّ حرارة الصيف اللاهبة.
ومن مظاهر البؤس الديني والفقهي، خرج علينا رهط من أدعياء العلم والإيمان، ليفتوا للدهماء، أنّ ما جهاد إخواننا في غزّة والضفّة والقدس، لا يدخل في باب الجهاد بالسنن. وهم يقصدون بذلك، الجهاد بأمر من وليّ الأمر. وهو حقّ أريد به باطل. وكنت قد طرحت سؤالا على هؤلاء العلماء الأفذاذ، الذين تجاوزا في علمهم وذكائهم وبصيرتهم السؤال التالي: ما رأيكم في الحجاج (الحرّاقين)، أيّ بلغة أهل المغرب، الذين ذهبوا إلى الحج، دون أن يأذن لهم وليّ أمرهم ولا وليّ أمر الحرمين الشريفين؟ أيّ ذهبوا إلى الحج خارج الأطر النظاميّة التي وضعتها المملكة العربيّة السعوديّة والضوابط الأمنيّة التي حدّدتها؟ أما كان عليهم أن يحجّوا طبقا لمبدأ (الحج بالسنن)؟ ممّا أسفر عن سقوط مئات الضحايا أثناء أداء الحج هذه السنة. كنّا نظنّ أنّ الحرقة (الهجرة السريّة) تقتصر على المهاجرين إلى أوربا، فإذا بها تنتقل عدواها إلى الحقل الديني المقدّس، أيّ إلى الركن الخامس من أركان الإسلام. وهي من إفرازات ثقافة البؤس والبؤس الثقافي اللذين نعاني منهما.
لكن، لا أحد تفضّل بالجواب، وكتب لي أحد الأساتذة قائلا: لن يجيبوك، يا أستاذ، لأنهم منشغلون بمسائل الحيض والنفاس وتكفير من يخالفهم في مظاهرهم البائسة وآرائهم البائدة.
ومن مظاهر البؤس الثقافي والثقافة البائسة، تهميش الكفاءات العلميّة والأدبيّة، وإقصاؤها من المشهد العلمي والأدبي، بينا تقام موائد مستديرة وتُمنح منابر إعلاميّة رفيعة، لأشباه العلماء والمثقفين، ليطعنوا في هويّة الأمّة، بداية من ضرب اللغة الفصحى، وتشجيع اللهجات العاميّة على حسابها، فقد تجرّأ أحد المتفلسفين إلى القول جهرا وأمام العام والخاص، أنّ التدريس باللغة العربيّة في الجزائر، انتقل من كونه مشكلة إلى إشكاليّة، وهو، لعمري، مؤامرة مدفوعة الثمن سلفا. ودعا بالمقابل إلى إبدالها باللهجة الأمازيغيّة، التي يعزف عن دراستها الأمازيغ أنفسهم. والهدف، من وراء الستار، هو جعل اللغة الفرنسيّة في موضع العربيّة، بعدما قرّرت وزارة التربية الوطنيّة تدريس اللغة الإنجليزية بداية من المرحلة الابتدائيّة،.
ضرب الهويّات الوطنيّة والقوميّة، مشروع استعماري قديم، هدفه تفتيت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة إلى كنتونات قبليّة، متنافرة ومتناحرة. فقد عمد المستشرقون الغربيّون إلى البحث الأنثروبولوجي والتنقيب عن الآثار القديمة، الماديّة واللاماديّة، لبعث النعرات القبليّة وإحياء العصبيّات الميّتة والمميتة. وما يقوم به الغرب الصليبي، وعلى رأسه، فرنسا، في المغرب العربي خير شاهد على المؤامرة الفظيعة التي تُحاك ضدّ وحدة المغرب العربي، جغرافيّا وديموغرافيّا وثقافيّا ومذهبيّا واقتصاديا. إنّ إثارة مسألة اللسان الأمازيغي (البربري)، هدفها ضرب الوحدة الوطنيّة في أقطار المغرب العربي. رغم أنّ المواطنين في المغرب العربي، يعتزّون بالانتماء للسان العربي ولغة القرآن الكريم، ولم تُطرح هذه المسألة إلاّ بعد الغزو الاستعماري، تنفيذا لسياسة (فرّق تسد).
ومن مظاهر البؤس الثقافي، والثقافة البائسة، عجز الجامعة العربيّة عن إصلاح ذات البين في الحرب الأهليّة السودانيّة، وقبلها الحرب الأهليّة اليمنيّة. وكبح آليات الاستبداد السياسي. إنّ منظومتنا الثقافيّة والتعليميّة، تعانيان من داء الأدلجة والأهواء وتخلّف المناهج وضعف البرامج والتردّد في اتّخاذ القرار وضبابيّة الإصلاح والغربلة. لقد عجزت الأمة العربيّة والإسلامية عن ابتكار عصا للمكنسة، حتى جاءتنا من الغرب، بعد قرون من اعوجاج ظهر المرأة وتمنجله (من شكل المنجل) من أثر الكنس بوجه كاد أن يلمس الأرض، وخياشيم يسدّها الغبار.
من مظاهر البؤس الثقافي، والثقافة البائسة، ظاهرة الولع بالمنتوج الغربي واتّباعه شبرا شبرا، تجسيدا لمقولة ابن خلدون (المغلوب مولع أبدا بالغالب). واستيراد الفلسفة الغربيّة، دون تمحيص أو تمييز بين ما يتلاءم مع قيّم المجتمع وما يتعارض معه. فكلّما أمطرت في الغرب، هرع قوم عندنا إلى رفع المطريّات تحت سماء شافيّة لا شيّة فيها. فعمد المشتغلون بالنقد إلى التسابق في تبنّي النظريّات النقديّة، وهرول المهتمون بالعلوم الاجتماعيّة والدارسون لها والمدرّسون إلى اعتناق النظريّات الغربيّة، دون مراعاة البيئة الزمكانيّة التي ولّدتها وأنشأتها وأوحت بها...
وكأنّ زعماء الولع والاتّباع، عندنا، يسابقون زمنا غير زمانهم، ويخاطبون جمهورا غير جمهورهم.
من مظاهر بؤسنا الثقافي، وثقافتنا البائسة، المدن والقرى المتّسخة. فالقمامات تستأسد الزمان والمكان، ولم يستطع، هذا المواطن العربي، أن يجسّد مقولة (النظافة من الإيمان)، فهو يعيش في زاويّة والنظافة في زاوية أخرى. هذا، الطفل الذي هو رجل الغد لا نعلّمه مباديء المواطنة الحقّة، ولا نرسّخ في نفسه سلوكياتها الصحيحة. فالسائر في شوارعنا وساحاتنا والمتنزّه في حدائقنا، أو شبهها وغاباتنا وعلى شواطئ بحورنا وضفاف أنهارنا، تواجهه بقايا مكانها الأصلي والطبيعي مكبّات القمامة، ولكنّ المواطن العربي، لا يجد حرجا في رميها في أيّ مكان عشوائيّ.
أما الطامة الكبرى، والقشّة التي قصمت سنام البعير، والبعير منها براء. فعزوف الشباب عن المقروئيّة. والزائر لجامعاتنا، ستصدمه ظاهرة النفور من المطالعة، وسألت طالبا السؤال التالي: كم كتابا تقرأ خلال السنة؟ أو كم ساعة تقرأ في السنة؟ وما هي أهم الكتب التي قرأتها سنة 2023 م، وفي النصف الأول من سنة 2024؟ لبُهت الذي سُئل، وتلعثم، وربّما اعترت وجنتيه حمرة الخجل.إنّ نسبة المقروئّة عندنا لا تتعدّى 2 بالمائة على أقصى تقدير. وهذه معضلة توارثتها الأجيال من الأسر والمناهج المدرسيّة الباليّة.
بؤسنا الثقافي، يا سادة، يا كرام، بيّن لا عور فيه ولا قذى بعينيه ؛ في علاقاتنا الاجتماعيّة وطقوسنا العباديّة وفي مدارسنا وجامعاتنا. في تعاملنا من الأحياء ونظرتنا إلى الأموات. جلّ قراراتنا مرهونة عند الأموات. عواطفنا تجاه الأموات أقوى منها تجاه الأحياء. نستدعي الأموات لحلّ مشكلاتنا المعاصرة. نسير إلى الأمام وعيوننا إلى الخلف.
ثقافتنا البائسة، يا سادتي، ستفضي بنا إلى الانقراض، كما انقرضت الديناصورات. لن تسعفنا من أدوائنا الظاهرة والباطنة. هي دليل دامع على أنّنا نعيش في عصر الضعف والانحطاط الثاني، عصر الجمود السياسي والديني والعجز عن الاجتهاد والتجديد والنهوض، وهي إنذار لنا قبل فوات الأوان.
ومن الواجبات العاجلة، غير الآجلة، أن نطهّر عقولنا من البؤس الثقافي، كي تنفتح أمامنا سبل النهضة العلميّة والانطلاقة التكنولوجيّة، لحفظ ديمومة وجودنا وحريّتنا.
***
بقلم: علي فضيل العربي / ناقد وروائي / الجزائر