قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في المجموعة الشعرية (قارات الاوبئة) للشاعر فوزي كريم

المبحث (1): فضاءات الصورة المؤنسنة وأسطرة الدال الصوري

توطئة: لعل مصطلح الشعرية منذ أن أطلق أرسطو على كتابة الذي يحدد الأنواع الأدبية ويصنفها ويردها إلى خصوصية عواملية تختص بها (البويطيقا) فيما ظلت هذه الشعرية حديثا رائجا في مصطلحات الشكلاتيون الروس، وصوﻻ إلى كونها تعني في ما تعنيه ذلك المجال النوعي المتميز للعلم الصوري الذي يكشف قضية كون الشعر شعرا، وبالتالي تغدو الشعرية كوسيلة تقانية في منحاها الأكثر تحقيقا في صياغة حاﻻت الأشياء ضمن مرسلات لفظوية وتلفظية تخرج محكومية الدال إلى القولي من حدوده السياقية اللغوية إلى جملة خصائص نوعية من الكشوفات الجوهرية والظاهرة من تحت عباءة المعنى العلائقي المجدول في أفق خصائص وظائفية تهتم بالكيفية عدوﻻ من الوافرة الكمية في معالجات اللغة الأدبية النمطية. وعلى هذا النحو وجدنا في تجربة مجموعة (قارة الأوبئة) للشاعر العراقي القدير فوزي كريم، ذلك المجال الوظائفي للدال فاعلا، وهو يعالج شكلا من اللغة الشعرية التي تتبنى العلامات والإشارات والتوصيفات، مجال معطيا للملفوظ الدوالي رسما تشكيليا راح يؤسطر مواضع والاحوال الأزمنة والأمكنة والذوات والذاكرة،ضمن حدود شعرية جعلت من أداتها بالوظيفة الشعرية ﻻ في أشكال القصيدة البنائية فحسب، ذلك الابتعاد عن تمثيلات الخطاب الشعري الواهن للقصيدة النمطية، امتدادا تفاصيليا لها نحو وصف الأشياء في نطاق تلك اللغة والقدرة الإمكانية التي تختص بها مقادير ومعايير البنيات المطولة من شعرية الأساليب الأنزياحية في ملامسة الممكن والجوهري من جماليات (شعرية الصورة المؤنسنة) لذا جاءت ملفوظات (قارات الأوبئة) ضمن نفسها الملحمي وكأنها الدﻻلة الكلية التي تغطي محمل اشتغاﻻت عوالم كينونة الذوات المضمرة والظاهرة في إبعاد المقطوعات الشعرية الواصفة: 

- البنية الصورية وآليات صفة التشكيل

لعل ترتيب آليات الملفوظ الشعري في فصول بنيات قصيدة (قارات الأوبئة) تستأثر لذاتها ذلك البناء الإحالي الذي يعد بذاته المركبة انعكاسا لمعادﻻت إمكانية ذات إطﻻقة خيالية ممسرحة بروح الموصوف والواقعة الاحوالية المتصلة في مدار زمنية تصاعدية مقرونة بخواصية (الإكتفاء - الاقتطاع - سياق ادائي) وذلك تبعا إلى أن الواقعة الشعرية في الزمن المجمل النصي، تفرض ممهدات دﻻلية تتجاوز من خﻻلها (سردية - شعرية) تتعاشان من خلال واصلات تصويرية - حسية، لها خصوصية التعويض عن بدائل غياب المحفوظ الجودي، بعيدا عن نبرة فجائعية رثة من شأنها تفجيع الاتساق التشكيلي في سلم النص بأي حالة دخيلة من شأنها قلب الاستعانة بالرموز إلى فجيعة رثائية فجة:

قنوات تحفرها الأمطار..

منعطفات بيوت متراصة كأقراص الخبز

شبابيك مهترئة كالمناخل

أبواب تكتم أنفاسها أمام طارق الليل

أسلاك كهرباء تئز بفعل القوى المكبوحة

للرغبات الطرية ./ص ٧ 

١- مستوى التلفظ بين مرآة السرد وضمير شعرية الفاعل:

إن القارىء إلى مستهل المقاطع الأولى من زمن تصديرات النص، راح يتسلم ثمة مراويات تستثمر من السرد الكثير من السعة والامتداد في التوصيف القصصي، غير إن السارد - الفاعل، بدا وكأنه ذلك الاستمداد الخارجي في حاﻻت شهودية خاصة من الأداء والتواصل الاستدعائي إلى سلسلة افعال ومسميات تتمظهر من خلالها أحوال (زمنية - مكانية - تشكيلية) وصوﻻ إلى ذلك الحلوص في بعث الأشياء في حدود مكوناتها النواتية المراوية: (قنوات تحفرها الأمطار . . منعطفات بيوت متراصة كأقراص الخبز) لعل مستوى الاستباقي في موارد جملتي (منعطفات بيوت = كأقراص الخبز) تستنزف في المدار الذاكراتي ذلك التوليد الخاص ب (الجدة - انتظار عودة الأب - الأم التي ترتقب عودة ولدها من الحرب) وهكذا راح الشاعر بحمل متهلات نصه، دوالا لها كل الصلة والتقارب من تواريخ قديمة لها رائحة ونكهة محطات القطارات الصاعدة والساكنة فوق مدارجها الحديدية، عرباتها مشرعة الابواب (أبواب تكتم أنفاسها أمام طارق الليل) لعل الشاعر يظل فيمفعول دواله إلى جملة من الرؤية الأكثر ذروية من مسافة احكام وجود المسافات اللامة للغياب الخاص للأشياء، رغم زمن وجودها الوقائعي، ولكن هناك زوايا زاخرة بالجذب والفقدان (شبابيك متهرئة كالمناخل) وما يزيد من حجم أداة التشبيه فإن حاﻻت الأشياء في مغامرة ركونية قصية في أبعادها المتغايرة، ورغم ذلك فلا تفارقها حاضنات المألوفية ودﻻلتها السخية في سجلات الظراب التكويني. الشاعر يبث الإشارات والعلامات والرموز، والقارئ يستلطف دفء الزوايا وحرارة رغيف الخبز من جدران التنور . ربما الشاعر يواجه مصيرا مترديا في(اسلاك كهرباء تهتز) ها هنا تكمن الإشارة إلى حالة خاصة من المكبوت والضغط الذي راح يتماهى مع أطروحة ركون الرغبات (القوى المكبوحة - للرغبات الطرية) لذا فإن الجملة اللاحقة راحت تلوح لنا بمدى تفعيل الوازع التقييدي والضغوطي للذوات، عندما راح جملة اللاحق تخبرنا (أزفة معقودة كظفيرة المحارب) إذن إن مجموع الجمل الشعرية الواردة تدلل على هوية قاهرة وكامنة، جعلت تحاكي تلك الأوضاع المدلولية المليئة ب (الرموز المقنعة)وصوﻻ إلى دﻻﻻت تتناسب وتتشاطر مع محكيات الساردة الشعري الذاتانية.

٢ - العينات المؤسطرة في الحسن الفجائعي المشكل:

إن حاﻻت الوقائع المؤسطرة في مجاﻻت قصيدة الشاعر تشف لها دربا أليما في حدود (الرمز - الأسطورة - القناع)كأساليب نفسانية تشي من وراءها أحاسيس نادرة من الاظافة والمغايرة في النوع والمجاورة ومعاينة دال النتيجة . فالشاعر فوزي كريم يستشعر (الاوضاع الدوالية) بحسب مقادير رؤيته الصورية المعادلة، لذا فإننا نجد صوته بما هي معا في الرؤية والتشكيل: 

دجلة يلامس البشرة بالملاحم

وبعضا الساحر يكشف عن المعدن الزائف

للأيام المتﻻحقة !

أسماك تتقفز إلى المتطلعين وتختفي ررؤوسها

المدببة في ثنيات ثيابهم وهناك تمطر بيوضها

وتستلم للنيران . /ص٨ 

إن المقاطع الشعرية ها هنا تؤول إلى دﻻﻻت كبرى من طبيعة (أحداث النص) فهي عبارة عن حاﻻت صورية تعبر عن التعدد في المحنة والتي راح الشاعر يؤلها كمعادﻻت موضوعية تستأثر لذاتها من خلال خطاب الإيحاء والرمز، كشفا عن وقائع تعددت في إطارها التحوﻻت للذات والكينونة التي ظهرت أشكالها رؤى الحرب والموت في حياة في حياة شروط قهرية من رسومية الإيحاء بالقصد (دجلة يلامس البشرة بالملاحم .. وبعصا الساحر يكشف عن المعدن الزائف .. للايام المتلاحقة) لذا فإن المحصلة التميزية لنهر دجلة كونه تمثيلا يلامس حقائق ضمن قوى مرجعية اصيلة، لذا فإن قضية بلاغات الحرب هي من الأمور التي تخدش الحياء لكونها نافذة في الانفلات حول تحرير الاصفاد من الاصفاد (يكشف عن المعدن الزائف للايام المتلاحقة) فيما تبقى امثيلات دوال الاسماك اختلاكا بذلك المحتمل الذي يجعل من عنف الموت سبيلا إلى فرار الاسماك من مواضعها إلى (وتخفي رؤوسها المدببة في ثنايا ثيابهم) فيما تستقر خلف الثياب للجنود القتلى دون أن يقادرها إحساسها بالأمان من اهاويل الموت فتبيض يرقاتها فوق ندوب الموت المحفورة في اجساد الجنود القتلى: (وهناك تمطر بيوضها وتستلم للنيران) .

- تعليق القراءة:

إن الابداع في نص (قارات الأوبئة) هو حلم ورؤية الاضداد من الذات الشعرية فالشاعر يتقصد خطابا وتخييلا مكبلا بجوار التصادمات مع واقع السلطة القائمة في البلاد حينذاك، لذا فإن (قارات الأوبئة) هي النافذة التي من خلالها يطالع الشاعر ويكتب عالمه الحسي معبرا باللاشعور واللاوعي ولكن بالمحتمل اليقيني الراسخ حول مدى قذارة هذه القارة المليئة بالابعاد النفسية المقهورة والكظيمة وهي تعاين آخر سقوطات أحلامها الاحوالية فوق مسطحات المستنقعات والمنعطفات المتخللة بانتهاء ونهايات الابعاد الذواتية المرسومة قهرا وكمدا عبر (فضاء الصورة المؤنسنة وأسطرة الدال الصوري) لذا تبقى احلام الشاعر اللاشعورية تسبر غورا في تأويل قارته المنسية إلا من بلاغة غبار الموتى وقذارات (أمواج تنبش رائحة الروث) .

***

حيدر عبد الرضا – ناقد وكاتب عراقي

 

في المثقف اليوم