قراءات نقدية
رولان بارت: الهايكو وامبراطورية العلامات (2): نص بلا المعنى
بقلم: رولان بارت
ترجمة: حسني التهامي
***
ترفض الزن أية مناورة لاستباق المعنى. نحن نعلم أن البوذية تمثل حائط صد لأي تأكيد (أو نفي) وذلك من خلال الدعوة إلى عدم الانشغال بالافتراضات الأربعة التالية: هذا (أ) - هذا ليس (أ) - هذا كلٌ من (أ) وليس (أ) - هذا ليس كلا من (أ) ولا غير(أ). الآن تتوافق تلك الاحتمالات الأربعة مع النموذج المثالي كما يؤطره علم اللغة البنيوي (أ ليس أ – ليس أ ولا ليس أ (الدرجة صفر) أ وليس أ (الدرجة المركبة)؛ بعبارة أخرى، إن الطريقة البوذية على وجه التحديد هي طريقة "المعنى المنغلق": غموض الدلالة ذاتها، واستحالة النموذج. عندما أوصى البطريرك السادس تلاميذه بالإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بالوجود، كانت غاية وصيته خلخلة النموذج بشكل كامل، فبمجرد أن يُطرح مصطلحٌ ما، لابد أن يجنح ذهنك إلى نقيضه. (" عندما تُسأل عن العدم، ليكن جوابك بالوجود)، وإذا سُئلت عن الرجل العادي، ليكن حديثك عن السيد إلخ..")، وذلك كنوع من التهكم على النموذج اللغوي وجعل المعنى التلقائي جليا واضحا. إن المراد (بالتقنية الذهنية التي تظهر دقتها والحاجة إلى صقلها والمثابرة في تعلمها مدى تعثر الفكر الشرقي في استباق المعنى)، هو تأسيس العلامة، أي التصنيف المرتبط بالطبقات المائزة للغة. يهدف الهايكو على أقل تقدير إلى استخدام لغة بسيطة لا تتكئ (وهذا محرم في لغتنا) على طبقات المعني المتراكبة، أو ما نطلق عليه "تصفيح" الرموز. حين يقال لنا إن صوت الضفدع هو الذي بصَّر باشو بحقيقة الزن، يمكننا إدراك (أعتقد أن هذه الطريقة في الحديث لا تزال غربية خالصة) أن باشو لم يكتشف وسط هذا الضجيج فكرة "الاستنارة"؛ فرط الحساسية الرمزية، لكنه توصَّل إلى نهاية اللغة: هناك لحظة تتعطل فيها اللغة (تلك اللحظة هي نتاج عديد من التدريبات)، إنها حالة خرق تتكشف من خلالها حقيقة الزن ويتشكل السمت الموجز والفارغ للهايكو.
إن إنكار "النماء اللغوي" أساسي هنا، لأنه ليس مسألة إيقاف للغة في لحظة ممتدة من الصمت والتأمل الصوفي العميق، أو لحظة الفراغ الذي يسكن الروح ويؤدي إلى التواصل الإلهي (الزن ليس لها إله). ما نحن بصدده من استخدام الرمز لا بد أن يتوقف: لأنه غامض، وكل ما يمكن للمرء القيام به هو تمحيص الخطاب؛ وهذا ما كان يُنصح به متدرب الكوان (أو يقترح عليه سيده حكاية طريفة): ليس لسبر أغوارها كما لو كان لها معنى، أو حتى لفهم مغزى عبثيتها (التي لا تزال تحمل معنى). فكل ماهو زن ينظر إلى الهايكو على أنه مجرد فرع أدبي من فروعه، و(تطبيق عملي هائل من شأنه تعطيل اللغة، وإرباك هذا النوع من الإشعاع الداخلي الذي يتولد داخلنا، حتى أثناء نومنا (ربما كان هذا هو السبب وراء حرمان المتدربين أحيانًا من النوم)، كي نتخلص من ثرثرة الروح اللانهائية، ومما يطلق عليه الزن بـ "الساتوري" التي قام الغرب بترجمتها إلى كلمات مسيحية غامضة كـ الاستنارة ... الإيحاءة ... الحدس)، والتي هي بمثابة تعطيل مفزع للغة وفراغ يمحو سلطة الرمز، وخرق لذلك السرد الداخلي الذي يشكل ذاتنا؛ وإذا كانت تلك الحالة للغة تحررًا، فذلك لأنها، بالنسبة للتجربة البوذية، توالد للأفكار الثانوية (فكر الفكر)، أو ما يمكن تسميته بالمكمل اللانهائي لدائرة الدلالة التي تعتبر لغتها ذاتها المستودع والنموذج – وتبدو كأنها عائق: بيد أنها تضحض1 الفكر الثانوي الذي يبطل اللامحدودية الفجة للغة. في كل هذه التجارب، يبدو أن الأمر لا يتعلق بسحق اللغة تحت طيات الصمت الغامض تجاه ما لا يوصف، لكنه يرتبط بقياسها وبالتخلص من فكرة الشغف باللفظ التي تمحق هوس اللعب بالبدائل الرمزية. باختصار، ما نحن بصدده من إعلاء قيمة الرمز هو عملية دلالية ستظل محل انتقاد.
إن وضع اللغة في نطاق ضيق، في الهايكو، لهو مصدر قلق لا يمكننا تصوره، لأن الأمر ليس متعلقا بمسألة الاختزال (أي تقصير الدال دون الحد من تكثيف المدلول)، لكن بصرف اهتمامنا عن أصل المعنى، كي لا يذوب هذا المعنى، أو يتلاشى، أو يصبح غامضا أو ضمنيًا أو ينفصل أو ينقسم إلى مجموعة من الاستعارات اللانهائية أو إلى مجالات الرمز. ليس اختزال الهايكو مسألة شكلية؛ فهو أبعد ما يكون عن فكرة مكتنزة تم إيجازها، لكنه حدث مختصر قادر على بلورة شكله المناسب بصورة فورية. إن العقلية الغربية غير مؤهلة، إلى حد بعيد، لاستيعاب مسألة القياس اللغوي: ليس المقصود هنا هو مدى طول أو قصر الخطاب، ولكن تأثير هذا الخطاب الذي يؤدي إلى عدم التجانس بين الدال والمدلول، إما عبر "تخفيف" الثاني بفعل هدير الأمواج المتلاحقة للأول، أو عبر "تعميق" الشكل باتجاه المناطق الضمنية للمحتوى. من الواضح أن دقة الهايكو - التي لا تُعد تصويرًا أمينا للواقع على الإطلاق، ولكنها تجانس الدال بالمدلول، والتخلص من الهوامش والأشياء الغامضة والفجوات التي عادة ما تتجاوز أو تثقب العلاقة الدلالية للألفاظ - تحتوي بداخلها على شئ موسيقي (موسيقى المعاني وليس بالضرورة موسيقى الأصوات): فالهايكو يتسم بالصفاء، حيث يسكنه فراغ يشبه فراغ نوتة موسيقية؛ ولعل هذا هو سبب قراءته مرتين من أجل إحداث صدى. إن قراءة هذه اللغة المذهلة لمرة واحدة سيكون بمثابة إضفاء معنى للدهشة والتأثير والكمال المفاجئ؛ وعند قراءتها مرات عديدة سيُكتشف المعنى الداخلي ويُحاكي العمق؛ وبين هذين الشيئين، لا يتحقق العمق ولا التفرد، لكنْ يكشف الصدى بطلان المعنى.
***
......................
هذه ترجمة الجزء الثاني من أربعة مقالات عن الهايكو من كتاب امبراطورية العلامات للمفكر والناقد الفرنسي رولان بارت. وقد نشر المقال في مجلة البيان الكويتية أيضا، العدد 643 فبراير 2024
1- تُرَقْرِقُ أو تُبَيِّنُ