قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: وشهد شاهد من غير أهلها

بين كتّابة وكُتّاب.. مشهد أدبي تتداخل فيه الخيوط، وتتعانق فيه الأضداد.. هنا، حيث تحتفي الكلمة وتباد، حيث تولد الرسالة وتسجن في أقفاص السوق والسلطة، يأتي كتاب المستشرق الفرنسي ريشار جاكمون "بين كتّابة وكُتّاب: الحقل الأدبي في مصر المعاصرة" ليضع يديه على نبض الثقافة المصرية في لحظة فارقة من تاريخها.

هذا العمل، الذي خرج إلى النور أول مرة عام 2004 بعد أن كان أطروحة أكاديمية ناضجة، لم يكن مجرد كتاب يضاف إلى رفوف المكتبات، بل كان مرآة عاكسة لمأساة المبدع المصري وهو يتأرجح بين عظمة الكلمة ومرارة العيش، بين نبض الإبداع وخفقان السوق.

وفي طبعته الثانية المنقحة الصادرة عن دار "صفصافة" بالقاهرة ، يعود الكتاب ليقدم نفسه كعمل تأسيسي يقرأ تحولات المشهد الأدبي عبر نصف قرن من العواصف، ليكشف لنا كيف تتحكم قوى الدولة والاقتصاد والإعلام في تشكيل الحقل الأدبي، وكيف تتداخل آليات السوق مع رسالة المبدع.

ينطلق جاكمون من مفهومي "الكتّابة" و "الكُتّاب" ليفتح أمامنا بابا على تأمل قديم جديد: ترى، هل يصبح الكاتب صوتا حرا نزيها، أم أنه يتحول إلى موظف في ماكينة الخطاب الرسمي؟ وهل تقدر الكلمة وحدها على صنع التغيير المنشود، أم أنها تظل أسيرة لـ "خرافة المكتوب" التي ينسجها الكتاب حول قدرة النص المجرد على إحداث التحول؟

من خلال عيني عالم الاجتماع الفرنسي بير بورديو، يتعامل جاكمون مع الأدب المصري كحقل اجتماعي تتنازعه رؤوس الأموال الرمزية والمادية، حيث يتحرك الفاعلون وفق حسابات دقيقة للربح والخسارة، ليس اقتصاديا فحسب، لكن رمزيا أيضا. في هذا الحقل، يصبح رأس المال الرمزي – من شهرة وسلطة نقدية - عملة يتنافس عليها الجميع.

"الكتابة" في تصور جاكمون هم أولئك المنتمون إلى مؤسسات الدولة والإعلام الرسمي، يحملون أوراق اعتماد تفتح لهم الأبواب المغلقة. أما "الكُتّاب" فهم أولئك المستقلون الذين يبحثون عن مساحاتهم الخاصة، غالبا ما يعانون من ضعف الموارد وقلة الفرص. لكن جاكمون لا يقع في فخ الثنائيات البسيطة، يظهر كيف تتداخل هذه الأدوار وتتشابك في واقع معقد.

ومن أعمق إسهامات الكتاب مفهوم "خرافة المكتوب" – ذلك الوهم الذي يعيش فيه كثير من الكتاب بأن كلماتهم وحدها قادرة على تغيير العالم. هذا الوهم، برغم ما يمنحه من دفء معنوي للكاتب، يبقى مجرد خرافة في وجه قوانين السياق المادي والرمزي الذي تتحرك فيه الكتابة.

ولا يغفل جاكمون عن تحليل اقتصاديات الأدب، فيناقش كيف أدى دخول آليات السوق بقوة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى إعادة ترتيب أولويات الحقل الأدبي. كما يتوقف عند ظاهرة الجوائز الأدبية التي أصبحت وسيطا بين المنتج والسوق، تمنح الشرعية الرمزية لكنها قد تنتج في الوقت نفسه اختيارات تخضع لمنطق التسويق أكثر من الفن الأصيل.

ويلفت الكتاب النظر إلى تحولات هيكلية عميقة في المشهد الأدبي المصري، أبرزها تأنيث الحقل الأدبي، ليس كميا فحسب، لكن نوعيا أيضا، حيث أتاحت الأصوات النسائية الجديدة أسئلة ومناهج سردية مختلفة. كما يلاحظ انتقال الهيمنة من نموذج "الجيل الأدبي" المتآلف ثقافيا إلى "الكاتب النجم" المنفرد، المسوق إعلاميا.

وفي تحليله للترجمة، لا يراها مجرد نقل للنصوص، إنما آلية معقدة تربط الأدب المحلي بالسوق العالمي، تمنح العالمية لكنها قد تفرز في الوقت نفسه شروطا غير متكافئة في التبادل الثقافي.

الطبعة الجديدة من الكتاب تأتي محملة بتحليلات لتطورات العقد الأول من الألفية، حيث بروز السوق بقوة، وظاهرة الأكثر مبيعا، وتأثير الوسائط الجديدة من تلفزيون وسينما وإعلان على نوعية النصوص وطريقة انتشارها.

ورغم كل ما حدث من تحولات بعد عام 2011، تظل أسئلة جاكمون حاضرة بقوة: ثنائية السلطة والاستقلال، ضغط السوق، جدل اللغة والهوية، ودور الجوائز. لكن المشهد اليوم أضاف تحديات جديدة مع صعود المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي غيرت قواعد التوزيع وخلقت أشكالا جديدة من "النجومية الأدبية".

يبقى كتاب جاكمون مرجعا أساسيا لفهم البنى الخفية التي تشكل الحياة الأدبية في مصر، لأنه يقدم أدوات تشريحية نافذة، تذكرنا بأن الأدب منتج يولد في شبكة معقدة من العلاقات والصراعات.

ويظل السؤال الذي يختم به الكتاب حاضرا في الأذهان: كيف يمكن للمثقف أن يحافظ على استقلاليته في مواجهة إغراءات السوق وضغوط السلطة؟ سؤال لن يتوقف صداه، وسيظل يتردد مع كل تحول جديد في عالم الثقافة والأدب.

وفي تفاصيل هذا العمل الضخم، ينبغي أن نتوقف عند السياق التاريخي الذي نشأ فيه الكتاب. فجاكمون قدم دراسته في لحظة مفصلية من تاريخ مصر الثقافي، حيث كانت التحولات الاقتصادية والاجتماعية تفرض نفسها على المشهد الأدبي. لقد شهدت تلك الفترة تحولا من نموذج الدولة كراعي رئيسي للثقافة، إلى نموذج السوق كفاعل أساسي في تشكيل الذوق العام.

ولا يمكننا فهم عمق التحليل الذي قدمه ريشار جاكمون دون الغوص في المنهجية التي اعتمدها. فقد جمع بين البحث النظري العميق والعمل الميداني الدقيق، حيث أمضى سنوات في متابعة الحقل الأدبي المصري، يحضر الندوات، يلتقي الكتاب، يزور دور النشر، ويحلل خطابات المؤسسات الثقافية. هذه المعايشة الطويلة مكنته من تقديم صورة غنية بالأبعاد والتفاصيل الدقيقة.

كما يمثل الكتاب محاولة جادة لتطبيق نظرية الحقول لبير بورديو على واقع عربي، مما يفتح الباب أمام مقاربات جديدة لفهم المشهد الثقافي في العالم العربي. لقد استطاع جاكمون أن يبين كيف يمكن لهذه الأدوات النظرية أن تساعدنا في فهم التعقيدات التي تحكم الحقل الأدبي المصري، مع كل خصوصيته وتفرده.

ويظل الكتاب يشكل مرجعا أساسيا للباحثين والدارسين ليس فقط في مجال الأدب، بل في مجالات علم الاجتماع الثقافي واقتصاديات الثقافة. إنه يقدم نموذجا لكيفية دراسة الظواهر الثقافية في سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية الأوسع، مما يجعله عملا تأسيسيا في حقل الدراسات الثقافية العربية.

ختاما، يمكننا القول إن كتاب "بين كتّابة وكُتّاب" يمثل أكثر من مجرد دراسة أكاديمية، إنه رحلة في أعماق المشهد الثقافي المصري، بروافده المتعددة وتياراته المتباينة. إنه محاولة لفهم كيف تتحرك الكلمة في فضاءات السلطة والسوق، وكيف يحاول المبدع الحفاظ على مساحته الخاصة في مواجهة كل هذه الضغوط.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم