قراءة في كتاب
محمود محمد علي: محمد الشياب ..قارئًا نقديًا للفكر العربي المعاصر
يعد الدكتور محمد الشياب من أبرز أساتذة الفلسفة الحاليين في جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا بالأردن الذين أسهموا بقسط وافر في تكوين رؤية جدية في تجديد وتطوير الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال كتابه القيم والرائع، وهو "قراءات في تحرير الوعي العربي"، وهذا الكتاب صادر عن دار الصايل للنشر والتوزيع في عمان.
هذا الكتاب يقدم الأطروحات المقدمة لعدد كبير من مفكرينا العرب المعاصرين، وهي جديرة بالنقاش والجدل، وهى تحرير للقارئ على قراءة مثل هذه النتاجات الفكرية، فمسألة تجديد الفكر العربي، وتوظيف العقل النقدي داخل الفكر والوعي العربي بعقل مستقل من معطيات من الواقع الفعلي والموضوعي القائم على مستجدات باتت ملحة، ومن أهم ما نحتاجه في واقعنا الثقافي العربي الراهن .
يقول الدكتور محمد الشياب بأنه من المتعارف عليه أن سؤال هزيمة مصر والعالم العربي في عام 1967 تسرب إلى إعادة النظر في سؤال العقل والنقل الذي يحيل إلى سؤال الحداثة والتحليل، فمثلا عمد حسن حنفي إلى قراءة تأويلية للنصوص الدينية والتي خضعت لها النصوص اليهودية والمسيحية على النصوص الإسلامية من قرآن وتراث فقهي معوضا بذلك مثلا لاهوت الله بلاهوت الأرض، ومعوضا كذلك بالشهادة العلمية على قضايا العصر وحوادث التاريخ .
إن عودة الدين من جديد في فضاء الفكر العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب وبصورة مكثفة شكلت محورا لسجالات داخل هذا الفضاء الثقافي في الفكر العربي، فالإسلام كدين وتراث فكري أخذ يسترد حيوته المطابقة لتسارع التاريخ في المجتمع العربي، وأصبح يلعب دورا مهما في تشكيل الايديولوجيات، بل إن الأمر لم يقتصر على هذه الملامح، وإنما أنتج قراءات متميزة داخل منظومة الفكر العربي تمثلت كما يقول الدكتور محمد الشياب بالقراءات التأويلية للنص الديني والنصوص التراثية.
ويعتقد الدكتور محمد الشياب أن من أهم الأسباب للتخلف العربي والإسلامي هو موت الفكر النقدي الحر، ولذلك فإن تفكيك الانغلاقات كما يرى الدكتور محمد الشياب الطائفية والمذهبية التي تمزق المجتمعات العربية راهنا وتمنع التواصل فيما بينها هو ما يحول دون تشكل الدولة القومية الديمقراطية الحديثة، فبدون حل المشكلة الفكرية لا يمكن أن نحل المشكلة السياسية، ذلك أن التحرير الفكري يسبق التحرير السياسي، ويمهد الطريق له، وهو ما يعني أنه ينبغي على الفكر السياسي أن يحل محل اللاهوت السياسي القديم الذي ما زال متجذرا في العقل الجمعي العربي ؛ أي لاهوت الطوائف والمذاهب على اختلاف أنواعها وأشكالها، وهذا لا يمكن له أن يحصل ما لم يتم تفكيك المسلمات العقائدية لهذا الأخير.
ولذلك تناول الدكتور محمد الشياب في كتابه " تحرير الوعي العربي" في الفصل الأول تأويل الخطاب الديني لدى محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، فوجد أن التأويل عندهما كان مسكونا بهاجس التغيير والتحرر عبر السعي نحو إقامة قطيعة مع أصحاب التراث القديم والكتابات الايديولوجية وفكرها الوثوقي، حيث انطلقت معالجة محمد أركون ونصر أبو زيد كما يقول الدكتور محمد الشياب في قراءتهما للنص الديني بإخضاع هذا النص لمناهج القراءة والـتأويل لتبيان تاريخيته والكشف عن حدود مجاله المرجعي من جهة، وكسر قداسته وتقويض بنيته الموثوقية لفتح المجال أمام القيم الإنسانية التحديثية من جهة أخرى، ففي قراءة كل أركون ونصر أبوزيد قدم حوارا نقديا مع الخطاب الديني في فهمها للإسلام بوصفه خطابا ايديولوجيا، أي بوصفه فهما بشريا للإسلام وليس الإسلام ذاته.
لقد أقر كل من أركون ونصر أبوزيد كما يقول الدكتور محمد الشياب واتفقا مع الخطاب الدين حول أهمية الدين أن يكون فيما لو تم تأويله وعدم استخدامه ايديولوجيا أن يكون عنصرا مهما من عناصر النهضة، ولكن خلافهما تركز حول المقصود بالدين مختلفين في ذلك مع دعاة الأصولية الإسلامية أو اليمن الإسلامي، ومع اليسار الإسلامي الذي مثله منذ سبعينات القرن الماضي " حسن حنفي"، باعتبار أن مشروعه على حد قول نصر أبو زيد هو " تأويل ايديولوجي للإسلام وليس قراءة علمية معرفة له ".
ومن هنا فإن الخطاب التأويلي الديني عند أركون ونصر أبو زيد كما يرى الدكتور محمد الشياب إنما هو سعي لتأويل علمي للإسلام يحرره مما لحق به من خرافة وأسطورة وتوظيف نفعي ليحافظ على ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والحريات، كما يطمح خطابهما أيضا كما يرى الدكتور محمد الشياب إلى الاتقاء بالوعي الديني إلى مستوى نظام العقل من خلال إدراج العقلانية والعلمانية في بوتقة واحدة، بوصفهما عنصرين جوهريين من عناصر بناءه بغية تشكيل منظومة لما يمكن ان تكون عليه العقلانية الإسلامية .
أما الفصل الثاني من الكتاب وهو بعنوان" تجديد الوعي الديني عند حسن حنفي"، حيث يدعو حنفي كما يرى الدكتور محمد الشياب إلى الأصول لتأسيس نهضة عربية جديدة، حيث إن التراث في نظر حسن حنفي وهو يمثل الأصول هو نقطة البداية كمسؤولية قومية ثقافية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، والأصالة هي أساس المعاصرة، ومن ثم فالتراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية، وليس للتراث قيمة في ذاته إلا يقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره .
كما أن التراث والتجديد في نظر حنفي يؤسسان علما جديدا، فهو الحاضر في ضوء الماضي، وشد الماضي إلى الحاضر، وقد يكون الاختيار الإعتزالي في نظر حسن حنفي أكبر تعبير عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، كما أن التراث والتجديد في فلسفة حنفي كما يقول الدكتور محمد الشياب ليس هدفه القيام بحركة اصلاح كما حدث في القرن الثالث عشر الهجري أي عصر النهضة العربية، إنما يهدف إلى تكوين حركة جماهيرية شعبية وإلى حزب ثوري يكون هو المحقق للثورة الوطنية الموجهة للسلوك الجماهيري، كما يهدف إلى تغيير الأطر النظرية الموروثة تبعا لحاجات العصر.
من هنا فإن إعادة بناء الفكر العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب عند حسن حنفي ليس مسألة نظرية فقط، بل هي أيضا إعادة بناء مع الواقع وذلك بتحويل الوعي التاريخي العربي من أساس إلى آخر دون اغتراب في القديم بالجمود أو اغتراب في تراث الآخرين أي الحداثة بدعوى التجديد تمهيدا لتحويله كلية إلى الواقع العربي المعاصر .
وبالمحصلة يرى الدكتور محمد الشياب أن مشروع حسن حنفي تميز بعدد من الخصائص، ومن أهم هذه الخصائص:
1- أنه مشروع ذو طبيعة عملية يقوم على أولوية الواقع على الفكر وأولوية حركة النهضة على نظرية النهضة، ولهذا كان حنفي يدعو إلى تأسيس حركة في مشروعه.
2-أنه مشروع ذو مضمون ديني بالمحصلة أو يرتبط بالوعي الديني الذي يسعى إلى تجديده وتحويله إلى أيديولوجيا عصرية ثورية .
3- أنه مشروع جماهيري مادته الأساسية الجماهير التي هي أداة النهضة والتغيير .
4- أنه مشروع يعتمد على التصديق لا الاقتناع فالمعاني التي تصل إليها المعالجة الفينومينولوجية الشعورية لا تتطلب اقناعا عقليا، بل تتطلب بنظر حين حنفي التصديق من قبل القارئ والذي عليه أن يصدق بها .
أما الفصل الثالث فهو بعنوان " مشروع محمد عابد الجابري"، حيث يرى الدكتور محمد الشياب أن السمة الأساسية التي طبعت إنتاج الجابري وأصبحت علاقة ملازمة لاجتهاداته الفكرية هي القراءة الأبستمولوجية للتراث، والمدلول الأساسي لهذه القراءة هو اتخاذ مسافة معرفية كافية من التراث بوصفه موضوعا للدراسة، وهذه المسافة تميز بين الحاضر والماضي، وبين عقل اليوم وعقل الأمس، وتتمثل بداهتها في الانتقال من نموذج فكري دوجمائي – دفاعي –تمجيدي إلى نموذج فكري يخضع للفحص والتساؤل النقدي بداية من أدوات المنهجية الجديدة التي راكمتها العلوم الإنسانية الحديثة في الفكر العربي .
لذلك فإن قراءة التراث من خلال منظور الجابري كما يرى الدكتور محمد الشياب كان هو فعل نقدي وتفكيكي لا بالمعنى العدمي، بل من أجل استبيان بنياته وآليات التفكير التي يشغلها، وإرجاع الخلفيات المضمونية الشكلية الذي يلجأ إلى استعمالها مضمون ذلك أن العلاقة مع التراث ليست علاقة تماهي أو أنه مجرد أدوات خطابية بل هي علاقة تحريرية نقدية قوامها الفحص والتساؤل.
أما الفصل الرابع، وهو يتناول الوعي التاريخي عند هشام ناصيف وعبد الله العروي، فأما ناصيف فقد عمل على صياغة خطاب ماركسي قوي – تحرري، منطلقا من إخضاع الفكر القومي والليبرالي والماركسي للنقد والتحليل وتجاوزه إلى فكر ماركسي ثوري – عقلاني، ينزع عن الماركسية صيغتها الإيمانية، وعقائدها المدرسية الوثوقية، وعن الليبرالية والديمقراطية والقومية الثورية بلاغاها اللفظية بحيث تعاد جميعها إلى الواقع العربي للانطلاق منه لتأسس وعي مطابق يكون ممهدا لثورة ثقافية تعيد إنتاج هذا الواقع معرفيا ومفهوميا، فدمج هشام ناصيف كما يرى الدكتور محمد الشياب الجانب العقلاني لليبرالية – الديمقراطية فلسفة عصر الأنوار وفلسفة كانط النقدية، والقومية العربية العلمانية –الثورية، والماركسية –اللينينة لإنتاج صيغة ثورية تصلح لأن تكون منهجا ونظرية للثقافة العربية الحديثة، وتأسيس زمن ثقافي جديد، انطلاقا من الماركسية النقدية، ومن العقلانية الليبرالية، والوعي القومي العربي الديمقراطي العلماني.
أما بالنسبة لعبد الله العروي كما يرى الدكتور محمد الشياب فقد وضع العروي المسألة الثقافية في المقدمة، ووضع منهجا نقديا للتعامل معها معتبرا أن أبرز علامات تأخرها هو تخلف الوعي عن الواقع، والثورة الفعلية في جوهرها هي رفع الوعي إلى مستوى الواقع، لأن في ذلك فهما لذوات الأفراد، والإجابة عن مشاكل المجتمع وتحقيقا لمرام الأمة .
إن هم العروي كما يرى الدكتور محمد الشياب هو هم كوني بالدرجة الأولى، أي كيفية إدخال العرب إلى التاريخ العالمي بعدما تطلب خروجهم منه، والآخر أي الغرب في نظر العروي بريء من الواقع العربي الدوني خارج التاريخ، وإدامة تخلفهم، وغيبتهم عن ساحة الفعل، فإذا كانت شهادة الآخر أي الغرب بنظر العروي فينا كعرب هي التي تحدد مستوى وعينا، فعلينا الانتظار حتى الأبد، لأنه لن يعترف بنا كما يقول الدكتور محمد الشياب راضيا، بل مهزوما، ومكرها، والسبب في هذا التأخر بنظر العروي هو عيب بنيوي، إنه مستوى وعينا، فإذا لم نقم بتحليل دقيق وصارما جدا لمجموع أدواتنا الذهنية، فإننا لا يمكن أن نكون واثقين بأننا نتحدث فعلا عن ذاتنا .
يعد هذه الإطلالة السريعة والمختصرة التي قمنا بها حول كتاب الدكتور محمد الشياب، نراه يؤكد على أن جميع المفكرين العرب على اختلاف اتجاهاتهم متفقون على أن الدين موضوعيا، هو أحد الثوابت في تكوين شخصية الأفراد والجماعات في المجتمعات العربية، حيث لا يزال الاعتبار الديني في تلك المجتمعات يغلب كل اعتبار، ومجتمعاتنا للأسف في نظر الدكتور محمد الشياب مجتمعات " ثيوقراقية"، أي دينية إذا قمنا بتحليل المضمون لجملة البناء الذهنية التي تتحكم في سلوك الكم الهائل من الطبقات أو الفئات، أو الشرائح الاجتماعية .
وهنا يقول الدكتور محمد الشياب إننا في هذه القراءة للفكر العربي الراهن يمكننا أن نخرج بنتيجة أساسية وهي أننا نعيش مأزق التنوير وحداثة الـتأخر، فهناك إندمال فكري ونكوص ثقافي في حياتنا الفكرية والثقافية المعاصرة، فالثقافة العربية نلحظ فيها الكفر بمبدأ التقدم، والكفر بعدم القبول بالعقل وسيطرة اللاعقل، فالفكر الديني ما يزال يسيطر إلى حد بعيد على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي سواء كان ذلك بصورة صريحة وجلية أو بصورة ضمنية لا واعية، ففي الوقت الذي أنجزت الأمم الغربية وحدتها السياسية بتوطيد الاتجاه القومي العلماني، فإن الشعوب العربية بقيت متشبثة بالتقاليد المحلية والعقائد الدينية الخاصة .. إننا نجد أن الإسلام ما زال يشكل القسم الأكبر من لا وعينا الجمعي، وأن الدين هو أحد الثوابت في تكوين الشخصية العربية لا يجوز الاقتراب منه أو ملامسته .. إن هذه النظرة والهروب الدين ومهادنته في الفكر العربي يعد تراجعا ونكوصا في صيرورته، بعد ان كان الفكر العربي في عصر النهضة العربية (في القرن 13 الهجري- الموافق القرن التاسع عشر الميلادي) يحاول إعمال العقل في الإسلام ويقولب قراءته وفقا التنوير والعقل ولحاجات العصر والتقدم، نجده اليوم يشهد تقهقرا بالنسبة للإقدام العقلاني حتى ذلك الذي كنا نجده عند ابن سينا وجابر بن حيان وابن رشد وابن خلدون وغيرهم .
إن التراث كما يرى الدكتور محمد الشياب ما زال يشكل نقطة استقطاب في الفكر العربي بالرغم من أن التراث ليس نقيا أو منظومة، أو منطقا ثابتا مغلقا، ومكتفيا بذلك، وإنما هو منفتح وخاضع لمقتضيات العصر، والمصالح والأهواء السياسية والايديولوجية . لذلك يرى الدكتور محمد الشياب أن التوفيقية هي النزعة الأكثر انتشارا في التعامل مع التراث، حيث نأخذ ما يناسبنا ونترك ما عداه، كما قال بذلك الدكتور زكي نجيب محمود، وهكذا نفعل اتجاه العصر، حيث نفعل اتجاه العصر فنأخذ من ثقافة المعاصرين ما يفعنا في معاشنا ويفيد في تطور مجتمعاتنا، ولكأن المسألة تُحل بأن نريد ما نرغب فيكون ما يكون ما نرغب وبمعزل عن الشروط الاجتماعية القائمة، لكن مع هذه التوفيقية إلا أن الدكتور محمد الشياب يرى أنها انتهت إلى أن الواقع الذي أصبحنا نعيشه كان أقرب إلى العكس تماما ؛ أي مزيدا من التغرب في الأخلاق والسلوك .
يقول الدكتور محمد الشياب :" لقد استحضرت مجتمعاتنا كل شيء من الغرب من أجل أسوأ نتائج حضارته وتناقضاته وصراعاته الاجتماعية، حتى أعقد مبتكراته في التكنولوجيا، لكن مع العجز الواضح عن تمثل واستيعاب واستحضار تعاليم العقل العلمي والعلم المنتج، وأما ما بقى فينا ومعنا من الماضي فعلا فهو ما ورثناه من عصور الانحطاط والتعصب وإقالة العقل .
إن تخطي أزمة التراث في الفكر العربي المعاصر كما يرى الدكتور محمد الشياب يتطلب قبل كل شيء الخروج من مازق الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وأما التعامل مع التراث فهو بالنسبة لكل الاتجاهات الفكرية، سواء التراثية والتحديثية أو التوفيقية، إنما هو صراع ايديولوجي علي ثقة الفكر، وهو في الأغلب لن يكون ذات جدوى ما لم يترافق مع العمل في واقع الحياة الاجتماعية الفعلي، وهذا يتطلب تأويل التراث من أجل فهمه وتخطيه، وذلك بالعمل على كشف العلاقات والبنيات ورصد قوانين التغير والتطور المرتبطة بعلاقة جدلية بين المجتمع والفكر، ويقوم هذا التأويل للتراث اعتمادا على الفكرة العضوية بين عناصر التراث في علاقاتها بمحددات المجتمع الداخلي والخارجي، أو الخاصة والعامة .
ومن هنا فإن الفكر العربي المعاصر في نظر الدكتور محمد الشياب يراد به أنه إذا أراد العربي أن ينهض بالواقع العربي عليه أن ينطلق من الواقع العربي المعاصر لا استنادا إلى صورتنا الحضارية في مخيالنا الاجتماعي – السياسي التي فقدت جُل تاريخيتها، لأن الفكر العربي لا يمكنه أن يكون ترجيعا لأصداء ميتة في ماضينا، فهذا الانشغال بالتراث والماضي ظاهرة مرضية لا توجد في الثقافة المتجانسة والناضجة والمتكاملة والواحدة . أما عندنا وحده في فكرنا العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب فقد أصبح يُنظر إلى التراث، وكما نتعامل معه فكريا، أنه ذلك الماضي –النائي المتشكل في كتلة قائمة بذاتها، ونضع التراث مقابلا للواقع، وكأن هناك شيء اسمه التراث العربي، وشيء اسمه الواقع العربي .
هذه الأطروحة الخاطئة الأساسية هي كما يرى الدكتور محمد الشياب تسييد لأزمة الفكر العربي لمعاينة الواقع، لأن التراث ليس إلا مكونا من مكونات الواقع، ولذلك لا ينبغي النظر إلى التراث بأنه يشكل مشكلة تشغل المجتمع العربي ثم نحاول هذه المشكلة، فهذا قلب للحقائق، فالأصل ألا ننظر إلى التراث بوصفه بنية قائمة بذاتها، وإنما النظر إليه بوصفه مكونا من مكونات الواقع لكي نستطيع الوصول إلى الفروض والتصورات والتي من خلالها ندرك العلاقات القائمة بين التراث والمكونات الأخرى في البنية الكلية للواقع، ومن ثم مواجهتها ومحاولة تطويرها بحيث تُحل المشكلة، والغاية من ذلك ليس نفي التراث أو رفضه، وإنما أن تصبح القضية قضية كينونة عربية كاملة أي قضية مجتمع متجانس له بنبة واضحة تجمع كل مكوناته وتشجب كل العلاقات القائمة بين هذه المكونات.
***
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط
.........................
المراجع:
1- محمد خالد الشياب.. قراءات في تحرير الوعي العربي ـ دار الصايل للنشر والتوزيع، عمان.
2- قناة الفينق.. قراءة في الفكر العربي المعاصر، د. محمد الشياب.. فيديو.