قضايا

حيدر شوكان: الإنسان والمأساة.. سرد الألم وفلسفة التجربة

كنت أقرأ رواية "أنا قبل كل شيء" للكاتبة السعودية الجوهرة الرمال، التي طُبعت أكثر من إحدى وعشرين مرة، فوجدت في قصّة ورد انعكاسًا لواقع الإنسان في مواجهة الخسارة. فقدت ورد بصرها في سن السابعة، وعاشت في الظلام تسع سنوات كاملة، قبل أنَّ تعود إليها القدرة على الرؤية إثر سقوطها عن درج منزلها، نقطة تحول غيرت كل شيء. تبدأ الرواية برصد عالمها الداخلي والخارجي، إذ تتقاطع تحديات فقدان البصر مع الانعزال الاجتماعي، ومع صعوبة التكيف بعد استعادة الرؤية، تكتشف أنَّ الحياة مليئة بالتحديات والمواجهات، وأنَّ الألم هو لغة وجودها الحقيقية، وأنَّ السعادة العابرَة لا تترك أثرًا.

هذا الوجع والانكسار الذي عاشته ورد يتماشى مع التجارب الإنسانيَّة الأوسع والأعقد. حين استرجعت تأمليًا وغصت أكثر في المذكرات السياسية وقلّبت وجوه الروايات والحكايات على اختلاف الأزمنة والأمزجة، بدا لي أنَّ هناك قانونًا سرديًا متكررًا: لا بطل يولد إِلَّا بعد أنَّ يكرع الخسارة، ولا حكاية تستقيم إِلَّا إذا مرّت على طريق محفوف بالدمع ومغمس بالخذلان والانكسار، كأن المعنى لا يظهر إِلَّا حين تُجرَّد الذات من كلّ ضمان، ويُسحق الوجود تحت حجر التجربة. تتراكم الوجوه المتعبة، والأمكنة التي لفظتها الحروب والمنفى والهزيمة، حتى يصبح الألم هو اللغة الأمّ للوجود، والصمت هو مرآته الأخيرة.

ألم تبلغ التجربة الإنسانية أقصى تجريدها، بعبارة الشاعر محمد مهدي الجواهري المستعارة من الحكمة الصينية" وُلِدوا فتعذّبوا فماتوا" التي وضعها مدخلًا لمذكراته، ألم تكن هذه العبارة مفتاحًا لفهم مسار الوجود كما تخلّله في حياته: يولد الإنسان دون إرادة، يدخل في تجربة الألم دون حصانة أو ضمان، ثم يغادر بصمت كما جاء دون اكتمال. هذه العبارة ليست نزوعًا إلى التشاؤم بقدر ما هي محاولة لتجريد الحياة من أقنعتها. فهي تنظر إلى الوجود باعتباره مسارًا دائريًا مغلقًا: ولادة تُعلن بداية الوعي بالعدم، ألمٌ يرسّخ ثقل الكينونة، وموتٌ يعيد الأشياء إلى صمتها الأول. في ضوء هذا الفهم، تصبح التجربة الفردية للجواهري– بما فيها من منفى وخراب وانكسار– مجرد تجلٍّ من تجليات هذا القانون الكوني.

وهنا ينتصب السؤال، باعتباره تاملًا فلسفيًا عميقًا: هل هذا هو شكل العالم كما هو؟ عالم لا يهب المعنى إِلَّا من فم الجرح والوجع، ولا يعرّف الإنسان إِلَّا بما خسره؟ أم أنَّ الحكايات- سواء كانت مذكّرات سلطة أو روايات بشر عاديين- تختار عمدًا أنَّ تُبالغ في الألم، لأنَّها لا تجد معنى للحياة إِلَّا حين تنظر إليها من حافة العدم؟ هل نحن أمام واقعٍ تصنعه المأساة، أم أمام سردٍ يختار المأساة لأنَّ السعادة بلا حكاية، ولأنَّ الصفاء لا يخلّف أثرًا؟

قد يكون العالم أوسع من هذا الألم، لكن السرد لا يراه إِلَّا في اللحظات التي يتعرّى فيها الإنسان من وهم السيطرة، حين يسقط، يُنفى، يُخذل، أو يكتشف تهافت ذاته أمام التاريخ والقدر. فالرواية لا تُكتب عن لحظة استقرار وطمأنينة، وانما عن لحظة انهيار وتهشم. والمذكّرات لا تدوّن لحظات الرضا كثيرًا، وانما لحظة ارتجاف اليد وهي توقّع على وثيقة حرب، أو لحظة عجز الجسد أمام خيانة أو منفى. كأن الوعي لا يستيقظ إِلَّا في لحظة الألم، وكأن الحياة، إذا لم تُختبر بالخسارة، تظلّ مجرّد وقتٍ لم يُفهم بعد.

لكن ماذا لو كان هذا الانحياز للألم هو نفسه محاولة يائسة لمنح الوجود معنى؟ فالسرد، مهما ادّعى الصدق، يبقى فعل اختيار: اختيار أنَّ نكتب الجرح لا العافية، أنَّ نؤرّخ للانكسار لا للطمأنينة. ربما لأنَّ البشر لا يتذكّرون ما جعلهم سعداء، بل ما جعلهم يتألّمون. فالسعادة عابرة وصامتة، لكن الألم مقيم وله صوت، صوتٌ يكتب التاريخ، ويعيد تشكيل الذاكرة وحفرياتها، ويمنح الإنسان وهم الحكمة.

إذًا، لسنا أمام سؤال عن حقيقة العالم فقط، بقدر ما نحن أمام تساؤل عن طبيعة الإنسان ذاته: هل هو كائن لا يفهم وجوده إلَّا حين يتألّم؟ هل نحن نكتب الألم لأن العالم قاسٍ، أم لأننا لا نحتمل فكرة أنَّ يكون بلا مغزى، فنملؤه بالندوب كي نشعر أننا عشنا حقًّا؟

هذه ليست دعوة لنفي الألم أو السخرية من المأساة، وانما محاولة لتحرير السؤال من سطوة البكاء. ربما العالم خليطٌ من الضوء والعتمة، لكننا نُبقي أعيننا مفتوحة فقط حين يحلّ الظلام. وربما تكون الحكايات مرايا مكسورة، تعكس الحقيقة من زاوية واحدة، لكنها الزاوية التي نجرؤ على النظر إليها.

وإذا كان الألم هو اللغة التي صاغ بها البشر سرد وجودهم، فإن الفلسفات والأديان والمدارس الروحية حاولت- بطريقتها- أنَّ تضع ضمادًا على هذا النزيف، أنَّ تُسكّن مخبأ الروح، أنَّ تزرع طمأنينة وسط العاصفة. غير أنّ المفارقة المريرة تكمن في أنَّ أرباب هذه الرسالات أنفسهم لم يُعفَوا من جمر التجربة. فالأنبياء، الفلاسفة، الأولياء، والمتصوفة، أولئك الذين حملوا راية العزاء النفسي للإنسان، كانوا أول من عضّتهم الحياة بأنيابها وأوجعتهم. بعضهم سُحِق تحت مقاصل السلطة، بعضهم قُطع رأسه ووُضع في سلال الهزء أو على موائد الطغاة، بعضهم نُفي وقُذف في سمعته وشرفه وحقّه في الوجود. تقرأ سيرهم فتجدها ملتفّة كضفيرة من العلقم والمرارة، لا فسحة فيها لراحة طويلة أو يقين بلا شوك.

هنا تنشأ المفارقة التأملية- الفلسفية: كيف يدعو من يتألم الناسَ إلى السكينة؟ وكيف يُبشّر بالراحة من لم يعرفها تمامًا في جسده أو روحه؟ كأنّ الرسالة نفسها لا تُحمل إلَّا عبر الجرح، وكأنّ مَن يطلب للآخرين الخلاص لا بدّ أنَّ يمرّ أوّلًا بصحراء المعاناة. فالألم لا يستثني أحدًا، لا يُعفي المؤمن ولا الملحد، لا يُجامل العارف ولا الجاهل. إنّه السيرة الكبرى التي تكتب الإنسان دون إذنه.

والأدهى من كلّ ذلك أنَّ هؤلاء الذين نذروا أرواحهم لتخفيف ثقل الوجود عن الآخرين، لم تنجُ أفكارهم بعد موتهم من سطوة التأويل وسوء الاستخدام. فقد قامت أجيال لاحقة بقلب رسالاتهم رأسًا على عقب، جعلت من الدين الذي وُلد ليواسي المقهورين أداةً للقهر بيد المعبد، ومن الفلسفة التي سعت لتحرير العقل وسيلةً لتقييده، ومن الروحانية التي أرادت شفاء القلب سيفًا يُشهر باسم الطمأنينة. باسم الرحمة وُزّع الموت، وباسم النجاة زُرع الخوف، وباسم السكينة مُورِس أشدّ أنواع العنف الرمزي والمادي.

يا لها من مفارقة موجعة: أنّ يُصبح الطريق إلى العافية هو ذاته الطريق إلى الجحيم، وأنّ يتحوّل خطاب الخلاص إلى آلة تبشّر بالنجاة وهي تفتح أبواب الألم على مصاريعها.

وهكذا يبقى الإنسان معلّقًا بين جرحين: جرح التجربة وجرح السرد، يبحث عن سعادة عابرة، أو لحظة صفاء لا تطول، يتأمل، يتعثّر، ثم ينهض من جديد، لا لأنّه واثق من الخلاص، بل لأنّ روحه لا تحتمل الجمود. يمشي في صحراء الوجود وهو يعلم أنّ الطمأنينة إن وُجدت، ليست إقامةً دائمة، وانما ظلٌّ يمرّ ويختفي قبل أنّ يمسكه بيده.

لعلّ ما يتكشّف في أفق النهاية هو أنَّ الإنسان يُساق إلى الألم والفقد لأنّ الوعي ذاته لا يُولد إلَّا تحت وطأة السؤال، والسؤال لا ينبثق إلّا حين تتصدّع الأشياء من حولنا، لا لمجرد أنَّه قدر محتوم. لذلك يبقى الجرح علامة على أنَّ الحياة ليست حيادًا، وأنَّ الكائن البشرّي لا يُريد أنَّ يمرّ مرور الغياب. فالألم محاولة يائسة لتثبيت أثر فيه؛ محاولة للقول إننا كنّا هنا، وإننا شعرنا وتألّمنا وفقدنا، وإن هذا الدم الذي يسيل هو إعلان عن أننا ما زلنا نحاول أنَّ نفهمه. وهكذا يصبح الخلاص حركة أبدية بين السقوط والنهوض، بين الإقامة والارتحال، بين سؤال يحمل جرحه، وجرح يبحث عن معنى يليق بأنَّ يُحمل. وفي هذا العبور، ربما لا نجد الحقيقة كاملة، لكننا نجد ما يُبقينا أحياء: أنَّ نواصل السير، ولو على حافة العتمة وأغشيتها، حاملين بصيص المعنى الذي لم ينطفئ بعد.

***

د. حيدر شوكان سعيد.

جامعة بابل- كلية العلوم الإسلاميَّة- قسم الفقه وأصوله.

 

في المثقف اليوم