قضايا

صائب المختار: منهج الشك عند ديكارت.. تأملات وعبر

لست فيلسوفاً ولا أدّعي معرفتي بالفلسفة، ولا أريد إن أضيّع نفسي في متاهات الفلسفة فأغرق في أعماق محيطاتها السحيقة، ولا أبغي سيرة ديكارت الذاتية فهي متوفرة بسهولة لمن يريدها. لكن حصل لي فضول أن أتعرّف على مبدأ الشك الذي اتخذه ديكارت منهجاً له ليصل به إلى معرفة الحقيقة. سمعت كثيراً عن هذا المبدأ وقرأت كثيراً عنه، فهو يتردد بكثرة في النقاشات ومؤلفات الكتّاب والمثقفين، لكنني لم ألحظ أن الكثير منهم اعتمد مبدأ الشك كمنهج له للوصول إلى الحقيقة كما يقول ديكارت، ولم ألحظ أحداً يوصي باستعمال الشك كمنهج للوصول إلى اليقين. ساقني فضول المعرفة للخوض في دراسة المنهج الشكّي لديكارت لأفهم كيف يمكنني أن أستخدمه كمنهج لي ينير طريقي للمعرفة، وما هي الدروس والعبر التي يمكن أن أستخرجها من هذا المنهج لتدلني على الطريق الصحيح.

ما هو منهج الشك عن ديكارت

رينيه ديكارت (1596-1650) الملقب بأبو الفلسفة الحديثة. كان فيلسوفاً وفيزيائياً بالإضافة إلى براعته في الرياضيات. وهو صاحب المقولة المشهورة "أنا أفكر، إذاً أنا موجود".

اشتهر ديكارت باستعماله الشك للوصول إلى اليقين في معرفة حقيقة كل شيء. وقد اعتمدت فلسفة ديكارت العقلانية على اتخاذه مبدأ الشك المنهجي، الذي يمكن من خلاله أن يتوصل إلى اليقين ومعرفة الحقيقة، فهو بذلك يبدأ بالشك وينتهي بالحقيقة. وعُرف عنه أنه يُعتبر رائد الشك المنهجي في العصر الحديث، فقد وضَع ديكارت جميع المعتقدات والآراء الفكرية وغيرها موضع الشك، وأثبت إمكانية وجود الخطأ فيها.

يقول ديكارت؛ "إن الإنسان يحتاج أن يضع الأشياء جميعاً موضع الشك قدر ما في الإمكان لكي يصل إلى حقيقة الأشياء"، وبما إن معظم العلوم المعرفية يتم الحصول عليها عن طريق الحواس (السمع والبصر واللمس)، ولأن الحواس قد تكون خاطئة وخادعة، فيمكن بذلك أن تصوّر لنا صورة غير حقيقية للأشياء التي نراها أو نسمعها، لذلك ينبغي أن نشك فيها. فخداع البصر مثلاً يجعلك ترى الأشياء البعيدة أصغر كثيراً من حجمها الحقيقي، وإذا اقتربت من هذه الأجسام البعيدة فستراها بحجمها الحقيقي. فالشمس التي نراها في السماء تبدو صغيرة جداً نسبة إلى حجمها الحقيقي الهائل الكبير كما تؤكده لنا المعلومات العلمية الصحيحة.  وكذلك خداع السمع، فقد تسمع صوتاً تعتقده يعود لشيء ما، لكنه في الواقع مغاير تماما للحقيقة. ويقول ديكارت أيضاً إنه "من الحكمة ألّا نثق في الذي خدعنا ولو لمرة واحدة". ولما كان من الممكن أن تخدعنا حواسنا، كان علينا أن نتشكك فيما نعرفه لنعرف اليقين، ولذلك فإن إدراك الشيء لا يعتمد على الحواس بل على الفكر. وحتى في حقائق الحساب والهندسة التي لا يمكن الشك فيها، مثلاً مجموع إثنين زائد ثلاث هو خمسة وإن المربع يتكون من أربعة أضلاع وهي حقائق أكيدة لا تقبل الشك، لكن من الممكن أن يكون هناك شيطان ماكر أوحى لي بهذه الأشياء وأوهمني بها.

ما الذي حذا بديكارت أن يتخذ الشك منهجاً له لمعرفة حقيقة الأشياء؟ يبرر ذلك ديكارت في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى فيقول "ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحةً، وأن ما بنيته من ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزعزعة والاضطراب لا يمكن أن يكون إلاّ شيئًا مشكوكًا فيه جدًا ولا يقين له أبدًا. فحكمت حينئذ بأنه لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد من بدء بناء جديد من الأسس. (ديكارت، التأمل الأول).

يبدأ ديكارت رحلته في منهجية الشك بالسؤال عما هي الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشك، فيقول "يجب النظر إلى كل ما يمكن أن يوضع موضع الشك، على أنه زائف"، على ألاّ يشمل هذا كل معتقد لا يمكن الشك فيه ولو لوهلة، فلا نشكك في الأشياء التي نتصورها بوضوح تام على أنها حقيقة مثل الجزء أصغر من الكل. والمقصود هنا أنه لا يقبل أي شيء على إنه حقيقي دون أن يشكك فيه ليتيقن من حقيقته، وهو بهذا يعتبر الشك برهان عقلاني للتأكد من حقيقة الأشياء والأفكار. وفي الحقيقة فإن ديكارت حاول أن يشكك بوجوده ليصل إلى اليقين، لكنه استنتج أن شكوكه هذه هي التي أثبتت أنه موجود من حيث "أنه يشك فإنه يفكر ولأنه يفكر فهو إذن موجود" فقال (كلما شككت ازددت تفكيراً فازددت يقينا بوجودي).

والشك عند ديكارت نوعان؛ النوع الأول هو، الشك المنهجي، وهو الشك العقلاني المدرَّب، وهو ليس عشوائياً وإنما هو برنامج فكري حَدَسي تحليلي يهدف للوصول إلى اليقين، وبذلك يكون الشك المنهجي هو الوسيلة والطريق للوصول إلى الحقيقة. والنوع الثاني من الشك، والذي أسماه بالشك الفلسفي أو السفسطائي (الخالي من المنطق العقلاني)، والذي هو عبارة عن شك لغرض التشكيك في الأشياء وإحداث الفوضى وليس الهدف فيه الوصول إلى الحقيقة أو اليقين، وهو نوع من الشك الهدّام المدمر لأنه يحدث الفوضى ويضيّع الحقيقة، فهم كما يقولون " أنا لا أدري، ولا أدري أنني لا أدري" ولذلك يجب تجنبه.

ويُميّز ديكارت في منهجه الشكي بين المعرفة الحدسية (الحَدَس أو البديهي) والاستقراء أو الاستنتاج. فالحَدَس أو البديهة؛ هو إدراك عقلي مباشر لشيء ما دون الحاجة لإثباته بدليل، لذلك فهو حقيقة كاملة. فالشمس تشرق من الشرق بديهة لا تحتاج إلى برهان. ويقول في كتاب القواعد " إننا لا نتحدث عن حَدَس عقلي إلاّ إذا كانت الجملة مفهومة بوضوح وتميّز وكانت مفهومة في مجموعها لأول وهلة وليس بالتدريج".

قدم ديكارت الدليل العقلي الذي يثبت وجود الإله عن طريق منهج الشك واستعمال الحَدَس العقلي والاستنباط الفكري، فقال: لكي أثبت أن الله موجود عليّ أولاً أن أشكك في وجوده فأنكر أنه موجود، فإذا كان الحال كذلك فإنه سيثير تساؤلات عندي، منها؛ إذا كان الله غير موجود فمَن خلقني؟ هناك احتمالين؛ أن أكون أنا خالق نفسي أو أن تكون الطبيعة هي التي خلقتني. فإذا كانت الطبيعة هي الخالق، فيجب أن تكون متحلّية بصفة الكمال، لأن الشيء الناقص الضعيف لا يمكن أن يكون خالقاً. ولما كنّا نعرف أن الطبيعة لا تتمتع بالكمال المطلق، فإذن لا يمكن أن تكون هي الخالق. وكذلك بالنسبة لي؛ فإذا كنت أنا خالق نفسي فيجب أن أكون كاملاً في كل شيء، لكني أعرف أنني لست كاملاً، لذلك فإن الله الكامل القوي الكريم يجب أن يكون هو الخالق، وإن وجودي هو دليل الإثبات على وجود الله الخالق.

من هذا يتضح لنا أن منهج الشك الديكارتي منهج عقلاني يخضع للمنطق والحدس والاستنتاج العقلي للوصول إلى حقيقة الأشياء.

منهج الشك عند الغزّالي

على الرغم من أن ديكارت يعتبر الرائد والمؤسس لمبدأ الشك إلاّ أن الإمام أبو حامد الغزّالي (ت 1111م) كان قد سبقه في اعتماده المنهج الشكي في أبحاثه، وقد سبقه بخمسة قرون.  وقد اتخذ الغزّالي الشك منهجاً للوصول إلى حقيقة الأشياء وشكك في الأشياء التي نعرفها. كما اعتبر أن الحواس قد تخدعنا، وعرّف الشك بنوعيه المنهجي والسفسطائي كما عرّفه ديكارت لاحقاً.

يعتبر كتابه "المنقذ من الضلال" ملخص لسيرة الغزّالي الذاتية، ويتضمن شرحاً لمنهج الشك الذي اشتهر به. وقد ذكر على سبيل المثال خداع الحواس فقال " وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته". وقال أيضاً "فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة. والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً، موجوداً معدوماً، واجباً محالاً، وهذا عليه اتفاق العقلاء من كل ملة ونحلة".

والملاحظ أن هناك تشابه واضح بين المنهج الشكي عند ديكارت وعند الغزّالي. فكلاهما يعتمد مبدأ الشك للوصول إلى اليقين. وكلاهما يعتبران أن المعلومات التي حصلنا عليها في صغرنا من مجتمعنا واعتبرناها حقيقية إنما هي في الحقيقة خاطئة وتحتاج إلى تدقيق وتمحيص. وكلاهما يعتبر أن الحواس هي مصدر المعلومات وأنها قد تكون خادعة، يقول الغزّالي " من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال". وكلاهما تحدّثا عن الخِداع في النوم والأحلام واليقظة والخيال. وقد أثار هذا التشابه في المنهج عندهما تساؤلات عند بعض المفكرين في أن ديكارت قد يكون استقى منهجه في الشك من خلال كتب الغزّالي، لكن لا يوجد دليل على ذلك، ولم يذكر ديكارت معرفته بالغزّالي، وقد يكون هناك مجرد توافق فكري بين الإثنين أدي إلى تشابه المنهج.

 طه حسين ومبدأ الشك

اتخذ طه حسين الشك منهجاً له في حياته الفكرية. تَمَثَل ذلك بوضوح في كتابه "في الشعر الجاهلي" حيث كتب يقول "لست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك. أريد ألّا نقبل شيئاً مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلاّ بعد بحث وتثبيت، فإن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان". عَمَدَ طه حسين إلى التشكيك بوجود شعراء الجاهلية الكبار، أصحاب المعلقات، وأنكر وجودهم، واعتبر أنهم صناعة المسلمين بعد نزول القرآن، فاختلقوا وجودهم واختلقوا أشعارهم ليرفعوا من شأن اللغة العربية ولغة القرآن. ولا يهمنا هنا فحوى الكتاب ولا موضوع الحوار لكن يهمنا فكرة استعمال العقل لمنهج الشك كوسيلة لكشف الحقيقة، ونتائجه المفيدة.

وفي كتابه "الفتنة الكبرى (عثمان) " استعمل طه حسين مبدأ الشك أيضاً كمنهج له ليشكك في صحة رواية معروفة حدثت في زمن الخليفة عثمان (رض)، عندما حدث نزاع بين الصحابيين الجليلين سعد ابن أبي وقاص (والي الكوفة) وعبد الله ابن مسعود (راعي بيت المال) بسبب استدانة مالاً من بيت المال ولم يُعاد في الموعد المحدد للسداد مما جعل الخليفة يقيله من منصبه، ويشرح طه حسين سبب الشك في صحة الرواية؛ فيذكر إنه من غير المعقول أن إثنين من كبار الصحابة ومن أوائل المسلمين وأصحاب قيم عليا يحدث بينهم ما روي عنهم (وقد يمكن اعتبار هذا التبرير كنوع من مبدأ البداهة التي ذكرها ديكارت). لكن طه حسين صحح الرواية بأن الفاعل قد يكون هو الوليد ابن معيط الذي كان يتعاطى الخمر ولا يتردد بفعل الموبقات وليس الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص (وقد يمكن اعتبار هذا القول كنوع من مبدأ الاستنتاج والاستنباط التي ذكرها ديكارت). وهذه أمثلة على استعمال الشك للوصول إلى اليقين.

تأملات وعبر

أولاً- مما تقدم ذكره، يمكننا أن نستنتج أن الشك يمكن أن يكون منهجاً عقلانياً سليماً وإيجابياً في البحث عن أصل المعلومة، وخطوة تمهيدية للوصول إلى حقيقة الأشياء، خصوصاً إذا ما استعملنا طريقة التفكير النقدي الذي يقضي بأن لا نقبل شيئاً إلاّ إذا كان له تبرير عقلي واضح ومميّز بالاعتماد على الحدس والبديهة والتحليل والاستنتاج.

ثانياً- إن الشك المنهجي يحتاج إلى تدريب وتمرين للعقل لغرض تكوين مَلَكة النقد والتحليل، فالمنهج هو عبارة عن مجموعة قواعد مؤكدة وبسيطة تكوّن منهجاً عقلياً يعتمد الشك العقلاني مروراً بالبداهة للوصول إلى اليقين ويحتاج إلى المران والتدريب المستمر للعقل. يقول ديكارت "لا يكفي للمرء أن يكون عنده عقل بل يجب أن يحسن استخدامه".

ثالثاً- يجب الابتعاد واجتناب استعمال الشك السفسطائي الفلسفي الذي يكون بلا هدف ولا منهج، ولأنه يحدث الفوضى والبلبلة.

رابعاً- على الرغم من أن ديكارت قد اشتهر بأنه مؤسس ورائد الشك المنهجي، إلاّ أن الأمانة العلمية تحتّم علينا أن نصحح الخطأ في هذه المعلومة، بأن نعلن بصوت عالي أن أبو حامد الغزّالي هو أول من استعمل وتحدث عن منهج الشك الفلسفي وليس ديكارت كما هو شائع.

وختاماً، ونحن نعيش في عالم تتزاحم فيه المعلومات المشوشة والمغشوشة والكاذبة، فإنه يتوجب علينا أن نكون حذرين في انتقاء المعلومة الصحيحة، وقد يكون الشك العقلاني طريقاً لذلك. وقد قيل أيضاً أن "العالم يشكك والحليم يتأنى والجاهل يؤكد"، فلننهج نهج العلماء وننبذ الجهالة.

***

د. صائب المختار

 

في المثقف اليوم