قضايا
سجاد مصطفى: ولادة اللاممكن

مقدمة: ميلاد المعجزة بين إرادة الإنسان والقدرة الإلهية
أيها القارئ، هل وقفت يومًا أمام حقيقةٍ تتحدى حدود فهمك، فتسقط كل قواعد اليقين أمامها؟ هكذا كانت ولادة عيسى بن مريم (عليهما السلام)، معجزة لا يُحاصرها زمانٌ ولا مكان، ولا تخضع لقوانين الطبيعة، لكنها تُجبر العقل على التوقف والتأمل.
مريم، وقد اعتزلت العالم، واحتجب قلبها عن زوابع الحياة، صارت رمزًا للوعي المنعزل، للتساؤل الصامت، وللقرب من القدرة المطلقة. وفجأة يظهر لها الروح، في صورة بشر سوي، فتسأل: «أنّى لي غلام ولم يمسسني بشر؟». هنا يظهر الطباق بين المعتاد وغير المعتاد، بين الممكن والمستحيل، بين العقل والقدرة الإلهية. يقول الفيلسوف العراقي محمد مهدي الزبيدي: «المعجزة ليست فعلًا محسوسًا فحسب، بل تجربة فكرية تختبر حدود العقل قبل الإيمان». ويؤكد توماس أكويناس من الغرب: «المعجزة انكسار للطبع الطبيعي بإرادة فوق الطبيعة، لإيقاظ الفهم لا لإرهابه». هنا يتقاطع الشرق والغرب، ليكون العقل في مواجهة مباشرة مع اللاممكن الذي يصبح ممكنًا بأمر الله. إن ميلاد عيسى ليس مجرد حدث خارق، بل مرآة تعكس التناقضات الوجودية للإنسان: بين الرغبة في الفهم وبين الانقياد للقدرة العليا، بين اليقين المادي والوعي الذي يتجاوز المادة. وكما يقول الفيلسوف العراقي عبد الأمير الجمّال: «حين يواجه العقل الظاهرة الخارقة، لا يتراجع، بل يُستحث على إعادة بناء فهمه للوجود والقدرة». فلتتأمل إذًا، أيها القارئ، كيف يصبح المعجز اختبارًا للوعي، ورمزًا للتمرد على الجمود العقلي، ومفتاحًا لإدراك حدود الممكن والمستحيل. إن ولادة عيسى ليست مجرد حدث، بل درسٌ خالد في فلسفة العقل والقدرة، في نقد الثوابت، وفي مواجهة الإنسان لحدوده الذاتية.
إنها لحظة تتقاطع فيها الأبدية مع الزمن، والقدرة مع التساؤل، والمستحيل مع العقل البشري. ففي قلب مريم، الملتجئ إلى عزلة الروح وصفاء النفس، يولد السؤال قبل الجواب، والتساؤل قبل المعجزة، فتتحول لحظة الحمل إلى حقل للتأمل الفلسفي، ومساحة لتجربة حدود الإدراك. أيها القارئ، تأمل معي هذا الصراع الدائم بين ما يفرضه الواقع المادي وما يتيحه الفعل الإلهي: هل العقل يقف عاجزًا أمام القدرة المطلقة، أم أنه يُستدعى ليعيد تعريف الممكن والمستحيل؟ وهنا يكمن النفي والإثبات في آن واحد: نفي محدودية الإنسان أمام إرادة الله، وإثبات قدرة العقل على التفاعل مع الظواهر الخارقة عبر الفهم العميق والتأمل النقدي. كما يقول الفيلسوف العراقي عبد الأمير الجمّال: «لا تهدم المعجزة العقل، بل تهبه أفقًا لفهم ما وراء الطبيعة، وإدراك أن حدود الممكن مرنة بإرادة الخارج عن الزمان». ويصادف هذا ما يؤكد عليه كانط من الغرب: «العقل لا يستطيع أن يقيس القدرة الإلهية، لكنه مدعو لأن يهيئ نفسه لاستقبال المعنى وراء الظواهر». إن ولادة عيسى إذًا ليست حدثًا معزولًا في الزمان، بل رمزًا خالدًا للتساؤل والوعي والفهم، ومثالًا حيًا على التفاعل بين العقل والقدرة المطلقة. إنها لحظة يختبر فيها الإنسان حدود إدراكه، ويقف أمام حقيقة جوهرية: أن المعجزة ليست مجرد خرق للواقع، بل رسالة فلسفية تحرر الفكر من القيود، وتعيد بناء العلاقة بين الممكن والمستحيل، بين الطبيعة والإرادة المطلقة.
الولادة كرمز فلسفيأيها القارئ، تأمل معي لحظة الولادة؛ فهي ليست مجرد عملية بيولوجية، بل رمزًا لصراع الإنسان مع حدود الواقع والزمان، وحوارًا دائمًا بين المادي والمقدس. ولادة عيسى بن مريم (عليهما السلام) تمثل نموذجًا تجريبيًا لفهم المعجزة: حدثٌ يخرق المعتاد، لكنه في جوهره معركة العقل مع المستحيل، والوعي مع القدرة المطلقة.
إن العقل البشري، المعتاد على قوانين السببية والتكرار، يجد نفسه أمام طباق صارخ: بين السببية الطبيعية وغياب الأب، بين المألوف والمعجز، بين المحدود واللامحدود. وهنا يبرز دور المعجزة ليس كأمر خارق يُسلب العقل، بل كـ محرّك للتساؤل، ومفتاح لفهم ما وراء الطبيعة.
يقول الفيلسوف العراقي محمد مهدي الزبيدي: «الولادة المعجزة ليست خرقًا للواقع فقط، بل اختبار للفهم البشري، وتحفيز لإعادة النظر في حدود الممكن». ومن الغرب، يؤكد توماس أكويناس: «المعجزة لا تهدم العقل، بل توقظه ليقف على حافة المجهول، حيث يلتقي الفهم بالإيمان».
وبذلك، تصبح الولادة رمزًا فلسفيًا قائمًا بذاته: تساؤل مستمر عن طبيعة القدرة، تحدٍ للقيود المادية، ومثال حي على أن الوعي يمكن أن يتجاوز حدود المألوف، ويستشرف المعنى في قلب الحدث الخارق. إنها دعوة للعقل أن يُعيد بناء تصوراته، وأن يواجه المستحيل بعين الفهم لا الخوف
المعجزة كاختبار للوعي إن المعجزة، حين تُفهم فلسفيًا، لا تقف عند حدود الخارق للعادة، بل تتحول إلى مرآة تقف أمامها العقول لتختبر حدود إدراكها وفهمها للوجود. ولادة عيسى (عليه السلام) من مريم بلا أب ليست مجرد حدث مادي، بل تحدٍ مباشر للعقل الجمعي، وإثبات حي لوجود الممكن المطلق خارج قيود الطبيعة. يقول الفيلسوف العراقي عبد الأمير الجمّال: «حين يواجه العقل الظاهرة الخارقة، لا يتراجع، بل يُستحث على إعادة بناء فهمه للوجود والقدرة». وهو ما يذكرنا بما أكده الفيلسوف الغربي إيمانويل كانط: «العقل لا يقيس القدرة الإلهية، لكنه مدعو لأن يُهيئ نفسه لفهم المعنى وراء الظواهر».
هنا يظهر التوازي بين النفي والإثبات: نفي محدودية الإنسان أمام القدرة الإلهية، وإثبات إمكانية العقل على الفهم حين يواجه المستحيل. فالوعي الذي يختبر المعجزة ليس وعيًا سلبيًا ينتظر الحدث ليصدق، بل وعيًا نشطًا يحلل، يتساءل، ويعيد بناء تصوراته عن الممكن والمستحيل. وهكذا تصبح المعجزة اختبارًا فلسفيًا للوعي: محكًا لقدرته على التمييز بين الواقع والرمز، بين المادي والمجازي، وبين التسليم الأعمى والفهم الناقد. إنها دعوة للعقل أن يقف بثبات أمام الحدث، لا ليقف مذهولًا، بل ليقف متأملًا، محاكيًا للإبداع الإلهي في فهم القوانين التي تتجاوز حدود الطبيعة.
المقارنة الرمزية: عيسى وآدم
إن القرآن يأخذنا في رحلة فكرية تتجاوز السرد التاريخي المباشر، حين يقارن خلق عيسى بخلق آدم:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران 59)
هذه المقارنة ليست مصادفة، بل رمز فلسفي يعكس المعنى العميق للقدرة المطلقة والإرادة الإلهية. فكما خُلق آدم بلا أب ولا أم، ليكون نقطة انطلاق للبشرية كلها، كذلك وُلد عيسى بلا أب، ليكون اختبارًا للوعي البشري في مواجهة المعجزات، وللتفكير في حدود الممكن والمستحيل. هنا يظهر الطباق بوضوح: القدرة المحدودة للعقل البشري مقابل القدرة المطلقة للإرادة الإلهية، المألوف مقابل المعجز، الظاهر مقابل الباطن. كما تتجلى الاستعارة في العلاقة بين الاثنين: كلاهما رمز لبداية جديدة، كلاهما اختبار لفهم الإنسان لحدود الطبيعة، وكلاهما يضع الإنسان أمام حقيقة أن الخلق ليس محكومًا بما نراه طبيعيًا. يقول الفيلسوف العراقي عبد الأمير الجمّال: «كما يختبر خلق آدم إدراك الإنسان لمصدر وجوده، يختبر خلق عيسى حدود فهم الإنسان للمعجزات والإمكان المطلق». ومن الغرب، يتفق توماس أكويناس على أن: «المعجزة ليست خرقًا للمنطق، بل دعوة للعقل ليقف على حافة الممكن المطلق». وبذلك، تصبح المقارنة الرمزية بين عيسى وآدم أكثر من مجرد سرد قرآني، بل تجربة فلسفية متكاملة، تُعيد تشكيل العلاقة بين العقل والقدرة الإلهية، بين الواقع والرمز، وبين الإنسان واللامحدود. إنها دعوة مستمرة للتأمل، وإعادة بناء الفهم، ومواجهة حدود الممكن والمستحيل بعين الفكر المدرك لا بالذهول الأعمى.
إن الربط بين ولادة عيسى وخلق آدم لا يقتصر على التشابه الخارجي في كون كلاهما وُلِد بلا أب، بل يمتد إلى معنى فلسفي أعمق عن أصل الوجود ودور الإرادة الإلهية في تحديد الممكن والمستحيل. آدم يمثل البداية الكلية للوجود البشري، وهو اختبار لإدراك الإنسان لمصدر وجوده؛ وعيسى يمثل بُعدًا متقدمًا للوعي الإنساني، اختبارًا لمقدرة العقل على فهم المعجزات، وتحديًا للثوابت المادية.
هنا يظهر الطباق بين الطبيعي والخارق، بين المألوف والمعجز، بين المحدود واللامحدود. فالإنسان معتاد على أن الولادة مرتبطة بالسببية المادية، لكن كلا المثالين يخرقان هذه القاعدة، ليعلّما أن الوجود ليس محكومًا بما نراه ضروريًا، وأن العقل مدعو لأن يتجاوز حدود التجربة المادية. كما أن هذا الربط يُظهر استمرارية الفعل الإلهي كقوة تتجاوز الزمن والسببية: خلق آدم هو البداية الأولى، خلق عيسى هو إعادة إنتاج المعنى في سياق إنساني آخر، بحيث تصبح المعجزة رمزًا متجدّدًا للتأمل العقلي، وتجربة فلسفية لفهم العلاقة بين القدرة المطلقة والوعي المحدود.
يقول الفيلسوف العراقي محمد مهدي الزبيدي: «المعجزة، حين تُفهم فلسفيًا، تصبح اختبارًا للعقل قبل أن تكون حدثًا محسوسًا، وفرصة لإدراك أن حدود الممكن ليست ثابتة». ويؤكد كانط أن العقل لا يقيس القدرة الإلهية، لكنه يُهيأ لاستقبال معنى الظواهر الخارقة، ليقف بين المعقول واللامعقول، متأملًا في الغموض الذي يكشفه الفعل الإلهي.
وبهذا، تصبح المقارنة الرمزية بين عيسى وآدم نموذجًا فلسفيًا خالدًا، يضع الإنسان أمام حقيقة أن الخلق ليس محكومًا بالقوانين الطبيعية وحدها، وأن المعجزات ليست مجرد أحداث خارقة، بل دعوة للعقل والوعي لإعادة تعريف حدود الممكن، واستكشاف عمق العلاقة بين الإنسان والقدرة المطلقة.
الخاتمة: المعجزة كدرس فلسفي خالد
إن ولادة عيسى بن مريم ليست مجرد حدث تاريخي أو ظاهرة خارقة، بل نص فلسفي متكامل يضع الإنسان أمام حدود فهمه، ويستحثه على إعادة النظر في العلاقة بين الممكن والمستحيل، بين الطبيعة والإرادة المطلقة، وبين العقل والقدرة الإلهية. إنها لحظة تتجاوز الزمان والمكان، فتجمع بين التفكير والتأمل، بين التساؤل والإدراك، بين الواقع والرمز، لتصبح درسًا خالدًا في فلسفة القدرة، والوعي، والتساؤل المستمر. إن المعجزة هنا ليست خرقًا للواقع فحسب، بل دعوة مستمرة للبحث النقدي، وتمحيص المعتقدات، وإعادة بناء الوعي الجمعي على قاعدة العقل والفهم. وكما يؤكد الفيلسوف العراقي محمد مهدي الزبيدي: «حين يُقرأ الحدث بعقل متأمل، تتحول المعجزة إلى نافذة لفهم حدود الإمكان، وفرصة لإدراك المعنى العميق للوجود». أيها القارئ، تأمل في هذا: المعجزة ليست لإنكار العقل، بل لإيقاظه، ليست لتقييد الفهم، بل لتوسيع أفقه، ليست لإخضاع الإنسان، بل لتحفيزه على إعادة النظر في مفاهيم الممكن والمستحيل، في قدرة الإرادة، وفي عمق العلاقة بين الإنسان والخالق. وهكذا، تبقى ولادة عيسى بن مريم رمزًا خالدًا للتأمل الفلسفي، ومفتاحًا لفهم الوعي الإنساني في مواجهة القدرة المطلقة، لتكون المعجزة درسًا لا ينتهي، يرافق الفكر ويستنهض العقل في كل عصر وزمان.
إن ولادة عيسى بن مريم ليست مجرد حادثة تاريخية عابرة، ولا ظاهرة خارقة تُروى لتثير الدهشة، بل هي نص فلسفي متكامل يحاكي العقل البشري في أعمق أسئلته عن الوجود، والقدرة، والوعي، والحدود. إنها لحظة يتقاطع فيها الممكن مع المستحيل، والزمان مع الأبدية، والعقل البشري مع القدرة الإلهية المطلقة. فالولادة المعجزة تُجبر العقل على التوقف أمام نفسه، فتعيد صياغة مفاهيمه عن الطبيعي وغير الطبيعي، عن المألوف والمعجز، عن المحدود واللامحدود. إنها تجربة عقلية قبل أن تكون حدثًا محسوسًا، ودعوة للتأمل النقدي قبل القبول الأعمى. وكما يؤكد الفيلسوف العراقي عبد الأمير الجمّال: «المعجزة تختبر العقل قبل الإيمان، وتحرره من قيود المألوف، لتستدعي إعادة بناء تصوراته عن الممكن والمستحيل».
ومن المنظور الغربي، يصرح كانط بأن العقل لا يقيس القدرة الإلهية، لكنه مُهيأ لاستقبال معنى الظواهر الخارقة، ليقف بين المعقول واللامعقول، متأملًا في الغموض الذي يكشفه الفعل الإلهي، وفي الحكمة التي تحمله المعجزة للعقل المتفتح. وهنا يظهر الطباق بين التسليم والبحث، بين الحدث الملموس والتأمل الرمزي، بين الواقع والرمز، بين الإيمان والفهم.
إن المعجزة، بهذا المعنى، ليست فقط خروجًا عن قوانين الطبيعة، بل إعادة تعريف للعلاقة بين الإنسان والخالق، بين الواقع والوعي، بين المعرفة والإدراك. إنها درس خالد في فلسفة القدرة والوعي، يُذكّر الإنسان بأن حدود الممكن ليست ثابتة، وأن العقل مدعو لأن يختبر اللاممكن بعين الفهم المدرك لا بالذهول الأعمى. أيها القارئ، فلنقف معًا أمام هذا الحدث: أمام المعجزة التي لا تقتصر على كسر القوانين الطبيعية، بل تفتح أمامنا آفاقًا لا نهائية للتأمل، وتمنحنا فرصة لمراجعة تصوراتنا عن الحقيقة والوجود والقدرة المطلقة. إن ولادة عيسى بن مريم هي رمز خالد لإعادة بناء الوعي، ونموذج دائم للجدل بين الممكن والمستحيل، بين العقل والإرادة، بين الإنسان والقدرة الإلهية. وفي النهاية، تظل المعجزة مرآة للعقل المتأمل، ومفتاحًا لفهم أعماق الوعي الإنساني، وحقيقة أن الفهم لا يتوقف عند حدود الطبيعة، وأن التساؤل الفلسفي هو الطريق إلى إدراك معنى المعجزات والحكمة الإلهية التي تحمله لكل زمان ومكان
***
الكاتب سجاد مصطفى حمود