قضايا

مجيدة محمدي: الأديب والبيئة.. حدود التأثير وإمكانات التخطّي

مقدمة: لطالما اعتُبر الأدب مرآةً صقيلة تعكس الواقع الإنساني بأبعاده المتعددة: التاريخية، الاجتماعية، النفسية، والرمزية. ومن بين أبرز الإشكالات التي شغلت النقّاد والمفكرين عبر العصور سؤالٌ جوهريٌّ مفاده: إلى أي مدى يُعدّ الأديب ابنًا لبيئته؟ وهل بمقدوره التمرّد على محدداتها، أم أن البيئة تظلّ نسغه البنيويّ ولبنته الأساس؟

هذا السؤال لا يستدعي إجابة ثنائية مغلقة بقدر ما يفتح أفقًا للتفكير في طبيعة العلاقة بين الأديب والسياقات التي تشكّله، ويضعنا أمام خيوط معقّدة تتداخل فيها الفلسفة مع النقد، والذات مع الجماعة، والواقع مع الخيال.

يهدف هذا البحث إلى معالجة هذا الإشكال من زاوية نظرية وتطبيقية، من خلال تحليل مفاهيمي، وتفكيك النظريات المهتمة بتأثير البيئة في الأدب، مع عرض دراسات تطبيقية لأدباء عرب وغربيين جسّدوا بطرق مختلفة هذه العلاقة الإشكالية، وصولًا إلى تأملات نقدية حول إمكانية تجاوز الأديب لبيئته دون القطيعة معها.

أولًا: التأطير المفاهيمي

1- مفهوم البيئة

يُقصد بالبيئة في هذا السياق المفهوم الواسع الذي يتجاوز الدلالة الجغرافية أو الطبيعية، ليشمل:

البيئة الثقافية: كمنظومة قيمية تتضمن الدين، اللغة، الموروث، الطقوس، الرمز، والإنتاج الرمزي.

البيئة الاجتماعية والسياسية: بما تحويه من بنى السلطة، الطبقات، أنماط العلاقات، النظم الاقتصادية.

البيئة النفسية: التي تتشكل في الطفولة وتمتدّ في اللاوعي، بما تحمله من تجارب شخصية وجراح حميمة.

البيئة التاريخية: بما تفرضه من ذاكرة جمعية وصراعات وطنية وأحداث مفصلية.

2 - من هو الأديب؟

لا يُختزل الأديب في كونه ناقلًا للواقع أو راوياً للأحداث، بل هو ذات مبدعة تُعيد تشكيل العالم بواسطة الأدوات الجمالية. هو كائن يتوسّل الفن ليعيد ترتيب الفوضى، ويحوّل الواقع المعيش إلى نصّ متخيّل يفيض دلالاتٍ. الأديب بهذا المعنى ليس ابن بيئته بالولادة فقط، بل بالحفر فيها أو الحفر ضدّها.

ثانيًا: النظريات النقدية حول تأثير البيئة في الأدب

1 - الواقعية الاجتماعية:

تُعدّ الواقعية الاجتماعية من أبرز المدارس التي تؤمن بأن الأديب يتشكّل ضمن شروط واقعه الاجتماعي. فبحسب جورج لوكاتش، "الرواية هي مرآة تسير على جانب الطريق"، أي أنها تعكس الصراع الطبقي، والتحوّلات السياسية، والانقسام الاجتماعي. فالأدب في هذا الإطار وثيقة مشبعة بديناميات الواقع لا يمكن فصلها عن السياق (Lukács, 1963).

2 - النقد الثقافي:

يمثل النقد الثقافي، كما نظّر له إدوارد سعيد وريـموند ويليامز، مقاربة ترى الأدب كموقع لصراع الخطابات، وكمنتَج محكوم بقوى الهيمنة الثقافية والسياسية. من هذا المنظور، لا يُمكن للكاتب أن يكون "خارج" بيئته، لأن اللغة ذاتها محمّلة بإرث السلطة والمركز، بل حتى محاولة التمرّد على البيئة تستبطن وجودها كسلطة يجب مقاومتها (Said, 1978؛ Williams, 1958).

3 - نظرية التلقي

تذهب نظرية التلقي، كما طوّرها هانز روبرت ياوس وولفغانغ إيزر، إلى أنّ المعنى لا يُنتج من النص فقط، بل من علاقة النص بالقارئ الذي يستقبله. هذا القارئ نفسه ابن بيئةٍ ثقافية واجتماعية، وبالتالي يعيد إنتاج البيئة حتى في فعل القراءة والتأويل (Jauss, 1982).

ثالثًا: دراسات تطبيقية – الأدباء العرب كنماذج

1 نجيب محفوظ: تأريخ الحارة والمجتمع المصري

في الثلاثية وزقاق المدق، تظهر الحارة القاهرية كمسرح مركزي تتحرك فيه الشخصيات. البيئة هنا ليست خلفية، بل هي بطل خفيّ يتحكم بمصائر الشخصيات. من السلطة الأبوية إلى صعود الوعي السياسي، فنرى نجيب محفوظ يشتبك مع بيئته لا بوصفها قدرًا بل بوصفها مادة جمالية يعيد إنتاجها (محفوظ، دار الشروق).

2 - الطيب صالح: الهجنة والصراع الهوياتي

في موسم الهجرة إلى الشمال، نشهد تماهيًا وصراعًا بين بيئتين: سودانية تقليدية، وأوروبية حداثية. مصطفى سعيد ليس مجرد مهاجر، بل جسد ممزّق بين مرجعيتين. البيئة هنا تظهر كعامل نفسي وهوياتي يُفرز أزمته ويغذي خيباته (الطيب صالح، دار العودة).

3 - محمد شكري: الهامش كبيئة روحية

في الخبز الحافي، يتكشّف الهامش الطنجاوي بكل بؤسه وحرمانه. البيئة ليست فقط حكاية بل أسلوب: لغة فجة، توتر نحوي، وقسوة سردية. إنها كتابة من العراء، حيث البيئة تحضر كألم لا كمشهد (شكري، دار الساقي).

4 - محمود درويش: المنفى كبيئة رمزية

درويش يحوّل فلسطين من جغرافيا إلى استعارة. في قصيدته "بطاقة هوية"، وفي دواوينه الكبرى كـ أثر الفراشة وسرير الغريبة، نجد أن البيئة ليست محض مكان، بل رمز للانتماء والضياع والهوية. الشعر عنده يُحوّل البيئة إلى ما يشبه النشيد الوجودي (درويش، دار العودة).

5 - محمود المسعدي: حين يتجلّى المجتمع في مرايا الذات المفكرة.

محمود المسعدي المفكر والروائي التونسي مشروع ثقافي وفلسفي كامل، ينهل من التراث كما يغترف من أسئلة الحداثة. إنّ ما يميّز كتاباته، على قلتها، هو أنّها تكتبُ المجتمع من زوايا غير مباشرة، وتنفذ إليه عبر التجريد، والرمز، والسؤال الوجودي. فالمجتمع عند المسعدي ليس جموعًا تتحرك في الشوارع، بل هو كائن ميتافيزيقي، يتلبّس الفرد ويشكّل وعيه، ثم يتجلّى من خلاله في النصّ.

في أعماله الكبرى، مثل حدث أبو هريرة قال... والسد وتأصيلاً على البداوة...، لا نجد وصفًا اجتماعيًا واقعيًا مباشرًا كما في الرواية الكلاسيكية، بل نقرأ مجازًا رمزيًا كثيفًا، فيه أصداء من القرآن الكريم، ومن الفلسفة الوجودية، ومن الأساطير، كلها تتعانق لتصنع رؤية للمجتمع لا تصفه بل تسائله.

رابعًا: هل توجد استثناءات؟

1 - أدباء المهجر

جبران خليل جبران: رغم مغادرته الجغرافيا العربية، ظل يحمل الشرق في لغته ورموزه وتجلياته الصوفية، حتى في كتابه الأشهر النبي، المكتوب بالإنجليزية (جبران، الهيئة المصرية العامة).

أمين معلوف: يكتب بالفرنسية عن شخصيات عربية، مما يدل على أن البيئة ليست حاضرة بمكانها بل بحمولتها الرمزية والنفسية.

2 - كتّاب الفانتازيا والرمز

فرانز كافكا: رغم الطبيعة العبثية لنصوصه، فإن بيئة براغ اليهودية والنظام البيروقراطي تظهر في كوابيسه الوجودية كظل كثيف (كافكا، دار المدى).

إيتالو كالفينو: نصوصه مثل مدن غير مرئية تبدو عابرة للبيئات، لكنها تستبطن تحولات ما بعد الحرب في إيطاليا، وقلق الحداثة الأوروبي.

خامسًا: البيئة كمحفّز لا كقيد

لا ينبغي النظر إلى البيئة باعتبارها سلطة قمعية فقط، بل بوصفها محفّزًا للخلق الفني. الأديب يكتب من داخل البيئة أو ضدّها، لكنه لا يكتب خارجها تمامًا. حتى التمرّد يفترض وجود سياق يُتمرَّد عليه. إن الإبداع في جوهره ليس فعل مطابقة للبيئة، بل فعل جدل معها، وتحويل لها عبر الرمز، والخيال، والتقنية.

سادسًا: العولمة وتحوّلات العلاقة بين الأديب وبيئته

1 - مفهوم العولمة وتحول المرجعيات

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح من الصعب الحديث عن بيئة "محلية" بمعزل عن التأثيرات العابرة للحدود. لقد مزّقت العولمة الجدران التقليدية التي كانت تفصل بين الثقافات، وأفرزت فضاءً رقميًا-رمزيًا جديدًا يتقاطع فيه المحلي والعالمي، الفردي والجمعي، الواقعي والافتراضي.

وفي هذا السياق، لم يعد الأديب مجرد ابن حارته أو أمّته، بل أصبح أيضًا ابن شاشة، وابن خريطة ثقافية متشظّية، يتنقّل فيها بين مرجعيات متعددة: الأدب العالمي، السينما، الموسيقى، وسائل التواصل، الفلسفة الرقمية.

يقول زيغمونت باومان في الحداثة السائلة: "أصبح الانتماء اختيارًا، والهوية بناءً متحركًا لا قالبًا ثابتًا".

2 - الأديب بين التجذّر والانخلاع

في ظل العولمة، يواجه الأديب تحدّيًا مزدوجًا:

من جهة أولى: تمارس العولمة نوعًا من التوحيد الثقافي، حيث تُغرق الأدب في نموذج السوق العالمي، وتدفع الكاتب أحيانًا إلى "تسليع" تجربته كي تُقرأ وتُترجم وتُباع.

من جهة ثانية: تمنح العولمة للأديب إمكانيات كبرى للتفاعل مع قضايا كونية: المناخ، الهجرة، الذكاء الاصطناعي، الفقر العالمي، الهويّات المركّبة.

هذا الوضع يفرض على الأديب المعاصر أن يختبر ذاته ككائن "هجيني"، يعيد التفكير في بيئته لا بوصفها وطنًا ضيّقًا، بل كبنية دلالية قابلة للتأويل والانفتاح.

3- نماذج أدبية من زمن العولمة

إليف شافاق (تركيا): تكتب بالإنجليزية عن قضايا الهوية، التعدد، والجندر في بيئة شرقية وغربية في آن. تقول: "اللغة ليست جغرافيا، إنها انتماء داخلي".

ربيعة ريّان (المغرب/فرنسا): توظّف الهجرة والهوية المزدوجة كمرآة لقراءة العالم، حيث لا تعود البيئة وطنًا بيولوجيًا بل سؤالًا فلسفيًا.

واسيني الأعرج (الجزائر): في رواياته الأخيرة، يحوّل المنفى والذاكرة والتاريخ إلى فضاء روائي عابر للحدود، حيث تلتحم بيئات متعددة في سردية مركّبة: عربية، أندلسية، فرنسية.

4 - الرقمنة والأدب

العولمة الرقمية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني، منحت الأديب قدرة أكبر على الوصول، لكنها حملت في ذات الوقت خطر التسطّح والتشظّي. صار الأدب أحيانًا يُكتب بوعي "الجمهور العالمي"، ما قد يؤدي إلى نوع من الاستلاب الرمزي، أو إلى "التطويع الذاتي" للغة والأسلوب كي يتلاءم مع توقعات السوق العالمية.

5 - من ابن البيئة إلى ابن العالَم؟

ليس المقصود هنا إعلان قطيعة مع البيئة الأصلية، بل الانتباه إلى أن الأديب المعاصر لم يعد يكتب من جغرافيا واحدة، بل من جغرافيا مركبة: جغرافيا الذات، وجغرافيا الذاكرة، وجغرافيا الشاشة.

وبذلك، لم تعد البيئة مفهومًا ضيقًا محصورًا في الإطار المحلي، بل أصبحت بنية سائلة، تتداخل فيها الهويات والمراجع والتجارب. البيئة اليوم لم تعد فقط "ما نُولد فيه"، بل أيضًا "ما نستهلكه"، و"ما نحلم به"، و"ما نتفاعل معه" حتى وإن لم نعشه جسديًا.

خاتمة

في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن الأديب لا يُولد في فراغ، ولا يكتب في العدم. البيئة تمنحه مادته الخام، لكنها لا تحدد بالضرورة مصيره الجمالي، بل تمنحه تحدّيًا وجوديًّا وفنيًّا في آنٍ معًا. التفاعل مع البيئة قد يأخذ شكل الاحتضان أو الرفض، وقد يتحول إلى لعبة تأويلية معقدة بين الذات والمجتمع، بين الداخل المتخم بالحلم، والخارج المثقل بالتاريخ والقيود. إن عبقرية الأديب لا تكمن فقط في تصوير الواقع أو التعبير عنه، بل في كيفية تحويل المحدّد إلى إمكان، والشرط إلى فضاء للتجاوز، والمعطى إلى أفق منفتح على التجديد والإبداع.

فالبيئة، بما تحمله من رموز وصراعات وتحولات، ليست سجنًا مغلقًا ولا قدَرًا محتومًا، بل نهرًا يمكن السباحة فيه، أو حتى السباحة ضده، بجرأة من يُدرك أنّ الحرية الأدبية لا تُمنح بل تُنتزع. وإنّ الأديب الحقّ، حين يتجاوز سلطة الانتماء الضيق، ويعيد تشكيل العالم بلغته ورؤيته، يصبح فاعلًا لا مفعولًا به، ومُشكِّلًا لا مُشكَّلًا فقط. هكذا، تتجلّى الأدبية كفعل مقاومة ضدّ التلقين، وكفنٍّ للانعتاق من أسر الجغرافيا والتاريخ، حيث لا تكون البيئة نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق نحو ما هو أكثر رحابة وعمقًا وإنسانية.

***

مجيدة محمدي – تونس

..........................

المراجع

محفوظ، نجيب. الثلاثية. القاهرة: دار الشروق.

الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت: دار العودة.

شكري، محمد. الخبز الحافي. بيروت: دار الساقي.

درويش، محمود. أثر الفراشة. بيروت: دار العودة.

سعيد، إدوارد. الاستشراق. بيروت: دار الآداب، 1978.

كليطو، عبد الفتاح. الكتابة والتناسخ. الدار البيضاء: دار توبقال.

ويليامز، ريموند. الثقافة و المجتمع  .

 

في المثقف اليوم