قضايا
طه جزاع: بابلونيكا

دأب معظم مؤرخي الحضارات القديمة من الغربيين على إبراز عظمة الحضارتين الإغريقية والرومانية في ميادين الفلسفة والقانون والطب والفلك والرياضيات والجغرافيا والهندسة، وغير ذلك من العلوم والآداب، كما شددوا على تأثير هاتين الحضارتين في شعوب الشرق، غير أن هذه النظرة، المنبثقة عادةً من تعصب ثقافي للمركزية الغربية، سرعان ما تهاوت أمام الكشوفات التاريخية والآثارية التي أكدت أصالة الحضارات الشرقية، وفي مقدمتها حضارة العراق القديم، ولاسيما تلك الحضارة المزدهرة التي نشأت على أرض بابل . في دراسته المعنونة " برعوشا – بيروسُس حامل الفكر البابلي إلى العالم" يسلط الدكتور حسين الهنداوي، صاحب " الفلسفة البابلية "، الضوء على شخصية تحتل مكانة علمية استثنائية، هو المؤرخ وعالم الفلك والرياضيات الذي اشتهر عند الغربيين باسمه اللاتيني " بيروسُس".
يرى الهنداوي أن " برعوشا" هو الاسم الأقرب بالعربية إلى "بيروسُس" الذي اشتهر به في الغرب " نظراً إلى عدم عثورنا إلى الآن على وثيقة بابلية أو عربية أو شرقية قديمة تشير إلى اسمه الأصلي"، ويُرجَّح أن أصله باللغة الأكدية هو " بعل ريشو"، ويعني " يرعاه بعل "، ويقابله في العربية : مرعي، أو محفوظ، أو مبارك، أو محروس. ولهذا " المبارك المحروس" يعود الفضل في توثيق تاريخ العالم القديم بمنهج مبتكر "سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكُتّاب اليونانيين والرومان"، لكن إنجازه الأهم كان في نظرياته الفلكية المبتكرة، والأكثر أهمية هو كتابه الموسوعي "بابلونيكا"، أي" التاريخ البابلي"، بأجزائه الثلاثة، حيث ابتدع فيه منهجاً جديداً لم يسبقه إليه المؤرخون، بمن فيهم هيرودوت، المؤرخ اليوناني الشهير الملقب بأبي التاريخ. فهذه الموسوعة التاريخية التي ألّفها برعوشا باللغة الإغريقية بين عامي 290 و 270 قبل الميلاد، تُعدّ مدوّنة شاملة للتاريخ البشري وحضاراته، تبدأ من بدء الخليقة وتنتهي بوفاة الإسكندر المقدوني في بابل عام 323 قبل الميلاد. وقد اعتمد برعوشا "على مصادر ونصوص مسمارية أصلية وموثقة تمكّن من الوصول إليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق"، بحسب تعبير الهنداوي.
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي