قضايا
صائب المختار: تكذيب مقولة حرق كتب ابن رشد هو بداية سقوط الاندلس

هل صحيح أن حرق كتب ابن رشد كان بداية لسقوط حضارة الاندلس؟ هي مقولة ذُكرت تعقيباً على حادثة حرق كتب ابن رشد من قبل الحاكم يوسف ابن ابي يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور، امير دولة الموحدين التي حكمت بلاد المغرب والاندلس (1121م – 1269م). والهدف من هذه المقولة هو إضفاء حالة الجهل والتخلف على الحضارة الإسلامية كونها لا تُقّدر العلم ولا العلماء. قرأها المثقفون وكتبها المؤلفون وصدقها الناس، وأصبحت مقولة صحيحة ومقبولة في الثقافة والعقول العربية. وقد أصبحت من الامثال التي يَحتذي بها كل من يحاول أن يثبت فشل او انحطاط الثقافة الإسلامية. إن هذه المقولة هي محضّ كذب وافتراء، قالها ويقولها الكارهون للحضارة الإسلامية وصدقها الذين يجهلون تاريخ الحضارة الإسلامية واحداثه عن غير قصد.
أحاول، في هذا المقال، أن اسرد الحقائق التاريخية حول تلك الحادثة وما جانبها من ملابسات غيّرت مفهوم هذا الحدث من واقعة عادية معروفة، إلى واقعة مأساوية دمرت حضارة مُشرقة، عالية المقام بين حضارات التاريخ، على الرغم من أنّ هناك الكثير من الأحداث المشابهة لها في التاريخ العام للبشرية لم تفسّر بنفس الأسلوب والمعنى.
تعتبر ظاهرة حرق الكتب ظاهرة عامة وشائعة في التاريخ. وليس غريباً أو مأساوياً أن تحرق كتب تحتوي على أفكارا لامعة ومهمة للبشرية. التاريخ مليء بمثل هذه الحوادث. معظم حوادث حرق الكتب يفعلها اشخاص معروفون، ولهم سلطة سياسية كالحكام مثلاً، أو مثقفين معروفين ومشهورين. وتحرق الكتب بسبب محاربة الأفكار المكتوبة فيها، مثل الأفكار الدينية أو الفلسفية أو الثقافية، وغير ذلك مما لا ينسجم مع أفكار أو سياسات الشخص الذي يحرق الكتب. وقد يعتبرها البعض معارضة للتعليمات الدينية أو الأخلاقية، فيأمر بحرقها.
يخبرنا التاريخ أن ثورات حدثت في المجتمعات البشرية أو تداول سلطات، تلتها عمليات حرق الكتب أو حرق المكتبات كوسيلة تطهير ثقافي للتخلص من أفكار او أيديولوجيات معينة كانت منشرة ومؤثرة في المجتمع قبل قيام ثورة ما أو أي حادث مشابه، مما أوجب التخلص من الكتب لإحلال مبادئ الثورة الجديدة. وقد تٌمارس السلطة الجديدة ثقافة الإلغاء الفكري لكل منهج أو فكر يخالف أو يعارض مبادئ السلطة الحاكمة. يخبرنا التاريخ أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210و 1215وأعيد تدريسها في عام 1231ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة وذلك بقرار من البابا. ويخبرنا عن إعلان الكنيسة الكاثوليكية في عهد "البابا باولو الرابع" عن "قائمة الكتب الممنوعة" سنة 1559 لأنها "هرطقة" ضد الإيمان والأخلاق… ومن بينها كتاب الأمير لميكيافيلي. وقد وضع دانتي في كتابه المشهور "الكوميديا الإلهية"، ابن رشد في الجحيم بسبب كفره واعتزاله، وذَمَّته أيضاً وبشدة الكنيسة الكاثوليكية.
وكذلك احرق النازيون في عام 1933 أكثر من 25 ألف كتاب لا يتماشى مع الفكر الألماني النازي. وقديماً، قام اليونانيون بحرق الكتب، فقد ذُكر أن جالينوس (لقّب بابي الطب) قام بحرق كتب الفلاسفة الأطباء التي تعارض آرائه واعتبرها غير صحيحة، واتٌهم الاسكندر الكبير بحرق كتب الديانة المجوسية بعد أن قضى على مملكة فارس، وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة. هذه الأمثلة وغيرها توضّح لنا أن ظاهرة حرق الكتب شائعة في التاريخ، ومع ذلك لم نسمع عن حادثة مشابه لحرق كتب ابن رشد أصبحت مأساوية ومدمرة للحضارة كما يصوره البعض ممن يتقولون به.
لم يكن ابن رشد العالم الوحيد في الحضارة الإسلامية الذي أحرقت كتبه، فقد أحرقت كتب الغزالي في قرطبة، وابن حزم الاندلسي وابن طفيل، ولم تهوَّل هذه الاحداث مثلما حدث لمحنة ابن رشد. وهناك الكثير من احداث حرق الكتب وتدمير المكتبات في التاريخ العام ابتداءً من أقدم حقب التاريخ وحتى التاريخ الحديث والمعاصر، ولا يسع المجال لذكرها جميعاً، لكن الأمثلة تشير إلى أن ظاهرة حرق الكتب ظاهرة عامة وشائعة ولا تعكس محاربة الحضارات أو الشعوب للعلم والعلماء، بل أفعال شخصية يقوم بها افراد متسلطون.
ولنطّلع على قصة حرق كتب ابن رشد كما ذكرت في كتب التاريخ، وليس كما شُوّهت القصة في المصادر الإعلامية. وأشير إلى كتاب "المثقفون في الحضارة العربية" للدكتور محمد عابد الجابري الذي أجرى بحثاً مستفيضاً ومفصّلاً عمّا اسماه (نكبة ابن رشد) لما فيه من معلومات وتحليلات مهمة ومفصّلة.
كان لابن رشد منزلية عالية في الحضارة الإسلامية عامة وفي المجتمع الاندلسي بصورة خاصة. فهو من عائلة معروفة بالعلم والورع والتقوى، تَقلّد مناصب رفيعة سياسية وقضائية. كان عالما وفيلسوفاً مقرباً ومقّدراً من قبل الحكًام والامراء، شغل منصب القضاء في اشبيلية عام 1169م، ثم في قرطبة عام 1171م، واشتهر ذكره الطيب بالأخلاق والعلم والتقوى. ومازالت ولحد الآن، منزلته رفيعة ومحترمة في المجتمع العربي والعالمي وليس في ذلك أي شك. في عام 1164م، طلبه الأمير ابي يعقوب يوسف، ثاني خلفاء دولة الموحدين في المغرب للعمل في دولته، وقرّبه إليه، وأجزل له المناصب والعطايا والاحترام لمكانته العلمية. بعد وفاة الأمير ابي يعقوب يوسف استلم الحكم ابنه الأمير يوسف ابن ابي يعقوب المنصور، وسار مسيرة ابيه في اعلاء مكانة ابن رشد العلمية والاجتماعية. لكن الوشاة الحاقدون على ابن رشد والغيورون منه، والمتشددين في الدين الذين يعتبرون الفلسفة زندقة، وشوا عند الأمير يوسف واستطاعوا إقناعه بأن ابن رشد فيلسوف زنديق، فصدقهم الأمير وامر بحرق كتبه ونفيه الى أليسانا، قرية قرب قرطبة، عام 1194م، علماً إن الأمير المنصور أمر بحرق كتب ابن رشد الفلسفية فقط ولا يشمل الامر الكتب العلمية مثل كتب الطب والرياضيات والفلك. وبعد سنتين من إصدار الأمر الأميري (بدأت الازمة عام 593 وانتهت عام 595 هجري) عَرِف الأمير يوسف حقيقة الدسيسة التي أعدت بحق ابن رشد فندم وألغى امره الذي أصدره بحق ابن رشد، فأعاد له منزلته ومكانته التي كان يتمتع بها قبل الوشاية، إلاّ أن وقع المحنة كان كبيراً على ابن رشد فاعتزل الناس، ثم توفي بالمغرب عام 1198م عن عمر يناهز 73 سنة.
يمكننا أن نستنتج مما تقدم، أن حرق كتب ابن رشد لم يتم بسبب كره الجمهور للعلم أو للعلماء، ولا بسبب انحطاط الثقافة والفكر للمجتمع، كما يراد أن يروّج لها، بل إنه كان بسبب عوامل شخصية وفردية من بعض الناس الحسّاد والحاقدين معززة بقرار جاحد وساذج من حاكم الدولة. وهذا ما حدث ويحدث كثيراً في مثل هذه الحالات.
ويمكننا أن نستنتج أيضاً، أن القول " بأن حرق كتب ابن رشد كان بداية انحطاط وسقوط حضارة الاندلس" هو قول خاطئ وغير صحيح. ذلك أن حضارة الاندلس لم تبدأ بالانحدار أو السقوط بعد هذا التاريخ أو بعد هذه الحادثة. إن سقوط الحضارة الإسلامية (سواء الاندلسية أو العباسية) يسير بنهجين مختلفين:
النهج الأول هو الانحطاط السياسي، وهو الذي يبدأ اولاً في انهيار الحضارات ولا يكون مصحوباً بالضرورة بانحطاط ثقافي.
والنهج الثاني هو الانحطاط الثقافي، الذي يحدث في الغالب كنتيجة للانحطاط السياسي.
الدولة العباسية، على سبيل المثال، وصلت حضارتها إلى القمة في سلّم الحضارة والتمدن، وكانت بغداد من أحسن وأرقى المدن في تاريخ الحضارات وأجملها. وحسب سُنّة التاريخ انحطت الدولة العباسية، وكان الانحطاط اولاً سياسياً (وليس ثقافياً). بدأ انحطاط الدولة العباسية في زمن الخليفة المتوكل على الله، عاشر الخلفاء العباسيين، حكم عام 847م – 864م. بعد أن استفحل المماليك الاتراك بالسلطة، الذين كانوا يمثلون جيش الدولة العباسية، لم يتمكن الخليفة المتوكل من السيطرة عليهم، لأنهم أخذوا يعثون فساداً، فقاموا بقتل الخليفة المتوكل والتخلص منه لأنه أراد التخلص منهم، ونصّبوا ابنه المعتصم الذي كان على خلاف دائم مع والده المتوكل. تعتبر هذه الفترة من تاريخ الدولة العباسية بداية انهيارها السياسي وليس الثقافي، ذلك لأن الناس في ذلك الزمان لم يهتموا بالسياسة ولا بالحكم أو الحكام، وإنما كان اهتمامهم ينصب على حياتهم الاجتماعية والدينية والثقافية. ثم حكم البويهيون الدولة العباسية منذ عام 934م وسيطروا سيطرة تامة على الحكم فيها وانتشر فيها الظلم والرشوة والفساد. في عام 1037م دخلت الدولة العباسية في حكم السلاجقة، ولم يكونوا هؤلاء أفضل من سابقيهم بل استمر ضعف الخلفاء العباسيين وانتشار الظلم والمفاسد، وكانت أوضاع الدولة العباسية في تهور وانحطاط مستمر إلى أن احتلها المغول في عام 1258م، فدمروا المكتبات واحرقوا الكتب وقضوا على الدولة العباسية قضاءً تاماً، فحصل الانهيار الثقافي، حيث ترك العلماء بغداد هربا من وحشية المغول وخوفاً منهم، وهاجروا إلى الشام ومصر وغيرها من الدول الإسلامية، فانتهت العلوم والثقافة في بغداد بسقوط بغداد. ومن المعروف ان الحضارة الإسلامية العباسية وصلت ذروتها خلال القرون الثالث والرابع والخامس الهجري، والتي تقابل قرون الانحطاط السياسي (وليس الثقافي). ومن المعلوم أيضاً أن سقوط الدولة العباسية على يد المغول أذَنَ بانتهاء حضارتها.
وأما ما حصل للدولة الاندلسية من انهيار سياسي، فإنه لم يكن مصحوباً بانهيار ثقافي كما يعتقد البعض، وهو مشابه لقصة الدولة العباسية. بعد احتلال الاندلس في عام 711م بدأت معالم الحضارة تبرز فيها، وأخذت تتعالى بمرور الزمن حتى أصبحت منافسة للدولة العباسية ثقافياً وحضارياً، وكانت منارة للعلم والتحضّر عند الأوروبيين. بدأ الانهيار السياسي لدولة الاندلس في عام 1030م عندما سقطت الدولة الاموية في الاندلس وتقسمت الدولة إلى دويلات صغيرة متعددة. استقلت كل من هذه الدويلات وحَكَمها حاكم من أبنائها. سميّت هذه الحقبة الزمنية بملوك الطوائف. وكانت هذه دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة، تعادي وتحارب بعضها البعض، وبذلك ضعفت الدولة الاندلسية وتمكن الاسبان من استرداد المناطق التي كانت تحت حكم المسلمين، واحدة تلو الأخرى. ولم تكن فترة ملوك الطوائف، مصحوبة بانهيار ثقافي أو حضاري، بل استمر التقدم والتطور الحضاري فيها. فالفترة التي عاش فيها ابن رشد هي فترة ملوك الطوائف في الاندلس ودولة الموحدين في المغرب. وعاصره فيها الكثير من العلماء المشهورين كابن طفيل وابن عربي وابن باجة وغيرهم. وعندما سقطت غرناطة بيد الاسبان، الجهلة والمتعصبين دينيا، في نهاية القرن الخامس عشر (القرن التاسع الهجري) انتهت حضارة الاندلس.
وكذلك أؤكد، أن الحضارة الإسلامية لم تنهار بعد حرق كتب ابن رشد ولا بعد وفاته، إذ ظهر الكثير من علماء الاندلس بعد وفاة ابن رشد. نذكر على سبيل المثال، ابن عربي وابن سبعين وابن البيطار وابن النفيس وشمس الدين الذهبي وابن كثير وابن الاثير وابن الشاطر وابن تيمية والامام القرطبي والسيوطي، وآخرون كثيرون لا يتسع المجال لذكرهم، ولم يكن ابن خلدون آخر العلماء المسلمين (توفي عام 1406) بل ظهر بعده أيضاً علماء مسلمين مشهورين ومعروفين. لذلك فإن القول "أن حرق كتب ابن رشد يمثل انهيار حضارة الاندلس" لا أساس له من الصحة، بل فيه تجني على الحضارة الإسلامية، ويمكن اعتباره محاولة للانتقاص والتقليل من قيمة واهمية الحضارة الإسلامية في تاريخ البشرية.
والخلاصة: إن حرق كتب ابن رشد لم يكن بسبب كره المسلمين للعلم والعلماء كما يدعي المغرضون، بل انه تمّ بأمر من حاكم البلاد الذي أخطأ بتصديقه كلام الواشين وأصدر الأمر بمعاقبة ابن رشد. وبعد عامين فقط علم الحاكم حقيقة الوشاية وألغى أمره بحق ابن رشد وأعاد له كل ما يستحق من امتيازات واحترام وحقوق، وانتهت المحنة، ولم تنهار الحضارة الاندلسية، بعدها بل استمرت الاندلس كمنارة للعلم في تلك الحقبة لما يزيد عن قرنين من الزمان بعد حادثة حرق الكتب. فلماذا يُصر الكتّاب والمثقفين على تصوير الحادثة كأنها مأساة فريدة في التاريخ، وعلى أن حضارة الاندلس انهارت بسبب هذه الحادثة، علماً أنّ في تاريخ البشرية حوادث كثيرة مشابه لهذا الحدث إن لم تكن أكبر منها أثراً، ولم نسمع أحداً ينسب لها آثارا مدمرة على تراثهم كما هو الحال عندنا.
فلنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ونكشف عن الدسيسة والجهل في احداث التاريخ. الجميع يعلم أن المصادر التاريخية الشرقية والغربية تتفق على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة متميزة في تاريخ البشرية ولولاها لما حصلت النهضة في أوروبا.
***
د. صائب المختار