قضايا
هاني جرجس عيّاد: حين يتعدّى التعلّم حدود الكتاب

دور التكنولوجيا في إعادة تشكيل الفصل الدراسي
شكّل الكتاب المدرسيّ لعقود طويلة محور العملية التعليمية وأساسها، باعتباره المصدر الرئيس الذي تُستمدّ منه المعارف وتُنظَّم حوله المناهج. لكن مع التحوّلات التكنولوجية المتسارعة والانفتاح على مصادر معرفية متعددة، لم يعد الكتاب المدرسيّ وحده قادرًا على تلبية احتياجات المتعلّمين في بيئة تعليمية تتسم بالتغيّر المستمر والتنوع المعرفي. لقد بدأت ملامح جديدة تظهر داخل الفصول الدراسية، حيث تتداخل الشاشات مع الأوراق، وتتنافس المنصات الرقمية مع الصفحات المطبوعة.
في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري: هل ما زال الكتاب المدرسيّ هو المصدر الأساس للتعلّم؟ أم أن المشهد التعليمي بات يتطلب إعادة نظر في طبيعة الأدوات التعليمية ودور المعلم والطالب على حد سواء؟
يناقش هذا المقال تحوّل دور الكتاب المدرسي، ويستعرض تطوّر مصادر التعلّم في ظل التكنولوجيا، متناولًا أبرز التحديات والفرص التي فرضها هذا الواقع الجديد على العملية التعليمية.
تحوّل دور الكتاب المدرسيّ في زمن التكنولوجيا التعليمية
لم يعد الكتاب المدرسيّ يحتل موقعه الحصري في قلب العملية التعليمية كما كان في السابق. فقد أصبح اليوم جزءًا من منظومة أوسع تشمل مصادر رقمية وتفاعلية متعددة، كالمواقع التعليمية، والمنصات الإلكترونية، والمحتوى المرئي، وتطبيقات التعلم الذكي. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة لتطور حاجات المتعلمين وتزايد الاعتماد على الوسائط التكنولوجية داخل الفصول وخارجها.
ورغم استمرار استخدام الكتاب في المدارس كمرجع أساسي لتنظيم الدروس وتقييم التحصيل، إلا أن أدواره التقليدية بدأت تتقلص تدريجيًّا لصالح بيئات تعلّم أكثر مرونة وتفاعلية. فقد أصبح المعلمون يلجؤون إلى مصادر خارجية لتوضيح المفاهيم، وإثراء المحتوى، وتكييفه مع اختلاف مستويات الطلاب واهتماماتهم.
في هذا الإطار، لم يعد الكتاب المدرسيّ المصدر الوحيد للمعرفة، بل أصبح أحد المكونات ضمن منظومة تعلّم أوسع تتطلب من الطالب قدرًا أكبر من التفاعل والبحث والاختيار.
ويُشير "براون" وآخرون (Braun et al., 2020) إلى أن الكتاب المدرسي لم يَعُد يُستخدم باعتباره المرجع الوحيد للدرس، بل تحوّل إلى نقطة انطلاق يُبنى عليها المحتوى من خلال موارد متعددة الوسائط، الأمر الذي يدفع المتعلّم إلى أن يكون مشاركًا فاعلًا لا متلقيًا سلبيًا. هذا التحوّل لا يُضعف من أهمية الكتاب المدرسي، بل يُعيد تعريف وظيفته ضمن بيئة تعليمية تفاعلية تجمع بين الثبات البنيوي والتكيّف الرقمي.
المصادر الرقمية: بدائل أم مكملات للكتاب التقليدي؟
في ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة، لم تعد المصادر الرقمية مجرّد أدوات مساندة، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في بناء المعرفة لدى المتعلمين. ومع ذلك، فإن السؤال المطروح ليس حول استبدال الكتاب المدرسي، بل حول كيفية دمج هذه المصادر الرقمية بطريقة تُعزّز من فاعلية التعلّم.
ففي الواقع، لا تزال الكتب المدرسية تحتفظ بمكانتها كمرجع منظم وموثوق، يُسهم في تنظيم المادة العلمية وفق تسلسل منطقي ومعايير تعليمية معتمدة. إلا أن الاعتماد الحصري عليها لم يَعُد كافيًا لمواكبة احتياجات الطلبة في بيئة معرفية مفتوحة وديناميكية.
تشير تقارير منظمة اليونسكو (UNESCO, 2023) إلى وجود زيادة ملحوظة في استخدام التكنولوجيا التعليمية داخل المدارس، حيث يعتمد المعلمون على المصادر الرقمية إلى جانب الكتب المدرسية لتعزيز العملية التعليمية وتوفير مواد تعليمية متنوعة تلبي احتياجات الطلاب المختلفة. كما يلجأ الطلاب بشكل متزايد إلى الإنترنت والموارد الرقمية كوسائل مساعدة لفهم الدروس وإتمام المهام الدراسية، مما يعكس تحولًا تدريجيًا في أساليب التعلم نحو بيئة تعليمية أكثر تكاملًا وتفاعلية.
فالبيئات التعليمية الأكثر نجاحًا اليوم هي تلك التي تُوظّف الكتاب الورقي كمحور ثابت، وتربطه بمصادر رقمية متعددة تُثري التجربة التعليمية وتُتيح للمتعلمين فرصًا أوسع للفهم والتفاعل والمشاركة.
الفصل الدراسي في العصر الرقمي: أدوات، أساليب، وتحديات
مع تسارع تطوّر التكنولوجيا واندماجها في النظم التعليمية، أصبح الفصل الدراسي في العصر الرقمي فضاءً تفاعليًا يعتمد على أدوات متعددة مثل الألواح الذكية، والحواسيب المحمولة، والأجهزة اللوحية، ومنصات إدارة التعلم، إلى جانب البرامج التعليمية المتخصصة. لم يعد المعلم المصدر الوحيد للمعرفة، بل تحوّل إلى موجّه ومنسق، يسعى إلى توظيف هذه الأدوات لإثراء العملية التعليمية وتحفيز التفكير النقدي لدى الطلبة.
في هذا السياق، تغيّرت الأساليب التربوية لتصبح أكثر انفتاحًا وتنوعًا، حيث تعتمد على التعليم المتمركز حول المتعلّم، والتعلّم القائم على المشاريع، والتقييم التكويني المستمر. هذه الأساليب تهدف إلى تعزيز مشاركة الطلاب ورفع مستوى استقلاليتهم في التعلّم، مما يُسهم في بناء مهارات ذاتية وتنظيمية تُعد ضرورية للنجاح في العصر الرقمي.
من بين التقنيات الحديثة التي غيّرت بشكل جذري تجربة التعلم داخل الفصول الرقمية، يبرز دور الواقع المعزز (Augmented Reality) والواقع الافتراضي (Virtual Reality). إذ يُتيح الواقع المعزز دمج المحتوى الرقمي مع البيئة الحقيقية للطالب، مما يعزز من فهم المفاهيم المعقدة عبر تجارب تفاعلية واقعية. أما الواقع الافتراضي، فيوفر بيئات تعليمية غامرة تتيح للمتعلمين الانغماس في مواقف تعليمية تحاكي الواقع أو تفوقه، مما يزيد من دافعية التعلم ويحفز التفكير النقدي والإبداعي. استخدام هذه التقنيات يُسهم في تنويع مصادر التعلم ويُعزز التفاعل بين المعلم والطالب، لكنه يطرح أيضًا تحديات هامة تتعلق بالبنية التحتية وتدريب الكوادر التعليمية.
تتعمّق التحديات الرقمية في التعليم الرقمي لتشمل جوانب متعددة، أبرزها ضعف البنية التحتية التكنولوجية في العديد من المدارس، خاصة في المناطق النائية، حيث تفتقر الأجهزة والاتصال بالإنترنت إلى المستوى المطلوب لضمان تجربة تعليمية فعّالة. إلى جانب ذلك، يُعاني كثير من المعلمين من نقص التدريب الكافي الذي يؤهلهم لاستخدام التقنيات الحديثة بفعالية ضمن العملية التعليمية، مما يحدّ من الاستفادة الحقيقية من هذه الأدوات ويُفقدها بعدًا بيداغوجيًا جوهريًا. كما يطرح الاستخدام المكثف للتكنولوجيا مخاطر محتملة على التفاعل الإنساني المباشر داخل الفصل، حيث قد يؤدي الاعتماد الزائد على الوسائل الرقمية إلى تقليل فرص التواصل الوجهي وتطوير مهارات الحوار والتفاعل الاجتماعي الضرورية للمتعلمين. لذلك، تُبرز الحاجة إلى تحقيق توازن مدروس بين توظيف التقنيات الرقمية والحفاظ على القيم التربوية الأساسية لضمان بيئة تعليمية شاملة ومستدامة.
التكنولوجيا وديناميكية التفاعل بين المعلّم والمتعلّم
ساهم إدماج التكنولوجيا في تغيير طبيعة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، حيث تحوّلت من علاقة تقليدية قائمة على التلقين إلى علاقة أكثر تفاعلية وشراكة. فبفضل الأدوات الرقمية، بات بإمكان المعلّم متابعة تقدم الطلبة بشكل آني، وتقديم تغذية راجعة فورية، وتصميم أنشطة تعليمية تراعي الفروقات الفردية، ما يعزّز من فعالية التعلّم.
في هذا السياق، يُعدّ التفاعل الرقمي عاملًا مهمًا في تحسين التحصيل الدراسي، إذ يُمكّن المتعلمين من طرح الأسئلة، والمشاركة في النقاشات الصفية عبر المنتديات والمنصات الرقمية، والمساهمة في بناء المعرفة بشكل جماعي. كما أن دور المعلّم لم يعد مقتصرًا على نقل المعرفة، بل توسّع ليشمل التوجيه، والتحفيز، وتيسير الوصول إلى مصادر التعلم المتنوعة.
ومع ذلك، تظل هناك حاجة إلى تنمية المهارات التواصلية الرقمية لدى الطرفين، إلى جانب ترسيخ ثقافة التفاعل الإيجابي عبر الوسائط التكنولوجية، بما يضمن بناء بيئة تعليمية قائمة على الحوار والمشاركة الفعالة، وليس فقط على استخدام الأدوات التقنية.
هذا وقد أظهرت دراسة حديثة لـ "ياسين" وآخرون (Yaseen et al., 2025) أن الطلبة الذين شاركوا في بيئات تعليمية مدعومة بالأدوات الرقمية التفاعلية قد أبدوا مستويات أعلى من التحصيل الأكاديمي، ومعدلات مشاركة أكبر مقارنة بالطلبة في الصفوف التقليدية. وقد بيّنت الدراسة أن استخدام تقنيات التعلم التكيفية، والتغذية الراجعة الشخصية، والأدوات التفاعلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ساهمت في رفع دافعية المتعلمين، وتعزيز شعورهم بالانخراط في العملية التعليمية. كما أكدت نتائج الدراسة على أهمية دور المعلم كمنسق للتفاعل الرقمي، مما يستدعي توفير تدريب مهني مستمر له، لضمان تحقيق الاستفادة القصوى من الإمكانات التقنية في تطوير التعلم والتعليم.
نحو بيئة تعلّم مرنة ومتعددة المصادر
مع التوسع المستمر في استخدام التكنولوجيا الرقمية، تتجه النظم التعليمية نحو خلق بيئات تعلم مرنة ومتعددة المصادر تتيح للمتعلمين خيارات واسعة ومتنوعة تلبي احتياجاتهم الفردية. تُعتبر هذه البيئة التعليمية قادرة على الجمع بين المصادر التقليدية كالكتب الورقية، والمصادر الرقمية التفاعلية، والتقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي، مما يوفر فرصًا أوسع للتفاعل والفهم العميق.
تتيح بيئات التعلم المرنة للمتعلمين التحكم في وتيرة تعلمهم، واختيار الوسائل التعليمية التي تناسب أساليبهم المعرفية، كما تُمكّن المعلمين من تصميم تجارب تعليمية مخصصة تتناسب مع تنوع مستويات الطلاب واهتماماتهم. هذا التنوع يُعزّز من تحفيز الطلاب ويُسهم في تطوير مهاراتهم الذاتية والتنظيمية.
ومع ذلك، يتطلب بناء هذه البيئات المرنة استثمارًا في البنية التحتية التكنولوجية، وتوفير برامج تدريب مستمرة للمعلمين، وتطوير محتوى تعليمي متكامل ومتجدد. كما تستدعي ضمان العدالة في الوصول إلى التكنولوجيا بين جميع الطلاب لتفادي توسيع الفجوة الرقمية.
في هذا الإطار، تُبرز أهمية التشاركية بين مختلف الجهات التعليمية والتكنولوجية لتحقيق بيئة تعليمية شاملة ومتوازنة تجمع بين الابتكار والفعالية.
***
إجمالًا، يتّضح أن التحوّلات التكنولوجية قد أعادت رسم معالم العملية التعليمية، وأعادت النظر في الدور التقليدي للكتاب المدرسي، الذي لم يَعُد المصدر الأوحد للمعرفة، بل أصبح جزءًا من منظومة تعليمية أكثر شمولًا وتفاعلية. ورغم ما تتيحه التكنولوجيا من فرص غير مسبوقة للتعلّم، إلا أن نجاح هذه البيئات يعتمد على إيجاد توازن مدروس بين الأدوات الرقمية والموارد التقليدية، وعلى تمكين المعلمين وتطوير مهاراتهم التربوية والتقنية. إن بناء بيئة تعليمية مرنة ومتعددة المصادر لا يتطلب فقط أدوات وتقنيات، بل رؤية تربوية واضحة تُعلي من قيمة التفاعل، وتضمن تكافؤ الفرص، وتعزّز من دور الطالب كفاعل رئيسي في مسيرة التعلّم.
***
أ. د. هاني جرجس عيّاد
..................
المراجع
1- Braun, A., März, A., Mertens, F., & Nisser, A. (2020). Rethinking Education in the Digital Age. STOA, European Parliament.
2- UNESCO. (2023). Technology in education: A tool on whose terms? Global Education Monitoring Report.
3- Yaseen, H., Mohammad, A. S., Ashal, N., Abusaimeh, H., Ali, A., & Sharabati, A. A. (2025). The Impact of Adaptive learning Technologies, Personalized Feedback, and Interactive AI Tools on Student Engagement: The Moderating Role of Digital literacy. Sustainability, 17(3).