قضايا

ثامر عباس: سبل تطور الوعي التاريخي بين مفهومي "الاستمرارية" و"السيرورة"

لعله من قبيل تكرار القول؛ ان المجتمعات ذات الخزين التراثي المتقادم والانجاز الحضاري المتراكم، غالبا "ما تميل الى ترجيح كفة (الاستمرارية) التاريخية على كفة (السيرورة) في مضمار نشر (الوعي) بأحقاب تبلور تاريخها ومراحل تمظهر حضارتها ليس فقط على صعيد نخبها الفكرية والسياسية والإيديولوجية الحاكمة فحسب، بل وكذلك على صعيد مكوناتها السوسيولوجية وجماعاتها الانثروبولوجية المحكومة، وذلك بصرف النظر عن تجانس الرؤى وتوافق المصالح بين تلك النخب من جهة، وبين تلك المكونات والجماعات من جهة أخرى. إذ ان معيار النجاح ومقياس النجاعة في هذا المضمار يقوم على (قدرة) الطرف الأول في تسويغ مواقفه وتبرير ممارساته (تحقيق الهيمنة) من جانب، ومن جانب ثان، (استعداد) نفسي و(قبول) ذهني من لدن الطرف الثاني، حيث التماهي الإيديولوجي والخضوع السياسي مع السرديات التاريخية الرسمية التي تروجها السلطة . 

ولغرض تبرير الاحتكام لهذه الضرورة وتسويغ الاستجابة لمتطلباتها، حري بنا، قبل ذلك، الإشارة الى الفرق / الاختلاف ما بين دلالات كل من مفهوم (الاستمرارية) من جهة، وبين نظيره مفهوم (السيرورة) من جهة أخرى. حيث ان الكثير من الكتاب والباحثين لا يراعون هذه الفروق والاختلافات بينهما، إن لم يميلوا الى المماثلة بين كلا المفهومين كما دلت الكثير من الوقائع والمعطيات. ففيما يتعلق بالمفهوم الأول؛ فهو يتضمن معنى ان مسار التاريخ هو مسار (خطي) غير قابل للارتداد أو الانحراف أو الانقطاع. أي أنه مسار (تصاعدي) يبدأ من الجزء الى الكل ومن البسيط الى المركب، وإذا ما حصل خلل ما في هذه (الاستمرارية) لسبب ما، فان ذلك لا يخرج عن كونه تعبير عن ظرف طارئ أو عارض مؤقت، حيث لا تلبث تلك الاستمرارية أن تستأنف حراكها باتجاه آفاق التقدم والتطور. هذا في حين يشي المفهوم الثاني بمعنى؛ ان مسار التاريخ هو مسار مشحون بالتناقضات والمفارقات والصراعات التي من شانها تغيير طبيعة (الحدث) أو ماهية (الواقعة) أو نمط (الظاهرة) من حالة / وضعية الى أخرى، وفقا "لاشتراطات الظروف الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والأنساق الثقافية والديناميات النفسية والسياقات التاريخية. بحيث يصعب التكهن أو التنبؤ بما ستؤول إليه النتائج والحصائل الناجمة عنها.

ولسنا هنا في وارد تقديم الدلائل وسوق البراهين التي تثبت ان الغالبية العظمى ممن ولجوا حقول التاريخ وتعاطوا مع مواضيعه ومباحثه، كان خيارهم يرتكز على مفهوم (الاستمرارية) بشكل تلقائي، رغم كونهم محاطين بهذا الكم الهائل من النكسات والانكسارات والانهيارات، التي لا تفتأ تقضّ مضاجعهم وتقلق سكينتهم وتثير حيرتهم. ذلك لأن تركيبة (الوعي التاريخي) التي تمثلوا منطقها واستلهموا منهجيتها واستمرأوا قيمها، حالت دون تمكينهم من الوصول الى مكامن الأسباب الفعلية والدوافع الحقيقية المسؤولة عن صيرورة تلك الأحداث والوقائع والظواهر على هذا النحو المليء بالفواجع والمكتنز بالكوارث. ذلك لأن الإصرار على التمسك بمفهوم (الاستمرارية) التطورية يتعارض جذريا "مع منطق (السيرورة) الجدلية، حيث ينبغي توقع حدوث (الارتداد) أو (الانقطاع) أو (الانحراف) في كل لحظة وعند كل منعطف.

ولعل ما يفرض علينا مراعاة هذه الضرورة والاحتكام الى منطقها، هو ان التاريخ لا يعدو أن يكون سجلا "شاملا" يحتوي متنه على كل ما اجترحته – وستجترحه - البشرية عبر مسارها الطويل؛ من أفعال وأقوال، من علاقات وتصورات، من حروب وصراعات، من ثقافات وحضارات. بمعنى أنه صنيعة إنسانية بامتياز ساهم في تكوينه عاملين أساسين هما؛ الأول وهو (الإرادة) الذاتية، والثاني وهو (الوعي) الاجتماعي. وحيث ان الإرادة تسيرها الأهواء المتقلبة والنوازع المتصارعة التي يحركها بندول المنافع والمصالح، مثلما ان الوعي مرهون بمستوى النضج المعرفي والإدراكي للمجتمع الذي تتحكم فيه الخلفيات والمرجعيات والأصوليات. بات من الحكمة التخلي عن تصور ان حركة التاريخ تعتمد خلال مسارها على مفهوم (الاستمرارية) التصاعدية، الذي غالبا "ما يفضي لارتكاب الأخطاء في تقييم الأحداث ويقود للفشل في تحليل الوقائع من جهة، والاحتكام الى مفهوم (السيرورة) الجدلية الذي من شأنه ليس فقط منحنا القدرة على فهم واستيعاب ما يجري في الواقع المعاش من تناقضات اجتماعية وتقاطعات سياسية وصراعات إيديولوجية فحسب، بل وكذلك يمهد أمامنا منحى الآفاق المستقبلية التي يمكن توقعها والاستعداد لها، بأقل الكلف المادية والبشرية والمعنوية التي يمكن استثمار رصيدها لاحقا"، كمرتكزات لتسريع عمليات التقدم العلمي والتطور الاجتماعي والرقيّ الحضاري .       

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

في المثقف اليوم