قضايا

علي الطائي: رسائل أدبية (1): حينما تتجسَّدُ الكلمةُ إنساناً

أَي صَدِيقِي،

 اِعْلَمْ أَنَّ الكَلِمَةَ إِذَا تَجَسَّدَتْ إِنسَانًا، تَحَوَّلَتْ إِلَى تَجْرِبَةٍ تَتَنَفَّسُ. لَيسَتْ جَسَدًا يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، بَلْ كِيَانًا يُعِيدُ تَشْكِيلَ الوَاقِعِ مِنْ حَولِهِ. الكَلِمَةُ التِي تَنْبِضُ بِالحَيَاةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ صَوْتٍ يُسْمَعُ، بَلْ هِيَ فِكْرَةٌ تَنْمُو كَدَوَّامَةٍ، تَبْدَأُ صَغِيرَةً ثُمَّ تَتَوَسَّعُ لِتَبْتَلِعَ مَعْنَى الوُجُودِ ذَاتَهُ. هِيَ ذَاكَ الحُضُورُ الصَّامِتُ الذِي يُثْقِلُ الفَضَاءَ، حَيْثُ لَا يُدْرِكُ المَرْءُ وُجُودَهَا إِلَّا حِينَ يُخْتَبَرُ أَثَرُهَا العَمِيقُ.

الكَلِمَةُ حِينَ تَتَجَسَّدُ إِنسَانًا، تَكُونُ الجَدَلَ المُتَوَاصِلَ بَيْنَ الأَنَا وَالآخَرِ، حَيْثُ تَتَصَارَعُ فِي دَاخِلِهَا مَفَاهِيمُ الحُرِّيَةِ وَالقُيُودِ، الحَقِيقَةِ وَالوَهْمِ. تَتَجَلَّى كَمِرْآةٍ تَعْكِسُ تَنَاقُضَاتِنَا البَشَرِيَّة: تُعَرِّي زَيْفَ الأَقْنِعَةِ وَتُوَاجِهُ الذَّاتَ بِجُرْأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا سِوَى مَنْ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ الصِّدْقِ.

إِنَّهَا الحَيْرَةُ المُتَجَسِّدَةُ، ذَلِكَ السُّؤَالُ الذِي لَا يَجِدُ إِجَابَةً نِهَائِيَّةً، لَكِنَّهُ يَفْتَحُ أَبْوَابًا نَحْوَ مَزِيدٍ مِنَ التَّسَاؤُلَاتِ.

هِيَ اللايَقِينُ الذِي يمنَحُ الحَيَاةَ مَعْنَاهَا، تِلْكَ اللَّحْظَةُ التِي تُدْرِكُ فِيهَا أَنَّ الثَّبَاتَ مُجَرَّدُ وَهْمٍ، وَأَنَّ التَّحَوُّلَ هُوَ الحَقِيقَةُ الوَحِيدَةُ.

 حِينَ تُصْبِحُ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، تُولَدُ فِي قَلْبِهَا الفَجْوَةُ التِي تَفْصِلُ بَيْنَ المَعْنَى وَاللُّغَةِ. لَيْسَتْ مُجَرَّدَ وَسِيطٍ لِنَقْلِ الأَفْكَارِ، بَلْ هِيَ التَّجْرِبَةُ التِي تَكْشِفُ عَجْزَ الكَلِمَاتِ ذَاتِهَا عَنْ احْتِوَاءِ الحَقِيقَةِ.

إِذَا كَانَتِ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، فَهِيَ الغُرْبَةُ المُسْتَمِرَّةُ التِي تَسْكُنُ بَيْنَنَا. لَيْسَتْ غُرْبَةَ المَكَانِ، بَلْ غُرْبَةَ المَعْنَى، ذَلِكَ الشُّعُورُ بِأَنَّ الوُجُودَ ذَاتَهُ لُغْزٌ لَا يَنْكَشِفُ. الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدَةُ تَحْمِلُ فِي مَلَامِحِهَا أَلَمَ المَعْرِفَةِ، ذَلِكَ العِبْءَ الذِي يَجْعَلُهَا تُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ إِجَابَةٍ تَلِدُ سُؤَالًا جَدِيدًا.

هِيَ الرِّحْلَةُ التِي لَا تَنْتَهِي، حَيْثُ كُلُّ خُطْوَةٍ تُقَرِّبُنَا مِنَ الفَهْمِ، لَكِنَّهَا تَزِيدُ المَسَافَةَ عَنِ اليَقِينِ.

الكَلِمَةُ-الإِنسَانُ لَا تَمْشِي بِخُطًى مُعْتَادَةٍ، بَلْ تَسِيرُ فَوْقَ حَبْلٍ مُشَدُّودٍ بَيْنَ الفَنَاءِ وَالخُلُودِ. هِيَ لَحْظَةُ التَّوَازُنِ المُسْتَحِيلَةِ، حَيْثُ تَقِفُ عَلَى حَافَّةِ الهَاوِيَةِ دُونَ أَنْ تَسْقُطَ، لِأَنَّ سُقُوطَهَا يَعْنِي انْطِفَاءَ المَعْنَى، وَوُجُودَهَا يَعْنِي اسْتِمْرَارَ الحَرَكَةِ الدَّؤُوبَةِ نَحْوَ اللَّانِهَائِيِّ.

فِي وَجْهِ الكَلِمَةِ-الإِنسَانِ، تَرَى خَرَائِطَ الزَّمَنِ: خُطُوطٌ تُظْهِرُ انْتِصَارَاتِ الرُّوحِ وَانْكِسَارَاتِهَا. لَيْسَتِ الجَمَالَ السَّطْحِيَّ الذِي تَأْلَفُهُ العَيْنُ، بَلِ الجَمَالَ المُرْبِكَ الذِي يُشْعِلُ فِيكَ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُمْنَحُكَ إِجَابَاتٍ.

عَيْنَاهَا لَيْسَتْ نَافِذَةً إِلَى الرُّوحِ، بَلْ هُمَا هَاوِيَةٌ تَنْجَذِبُ إِلَيْهَا، حَيْثُ تَرَى انْعِكَاسًا لِمَا تُخْفِيهِ أَعْمَاقُكَ أَنْتَ.

حِينَ تَتَحَدَّثُ، لَا تَسْمَعُ صَوْتًا، بَلْ تَشْعُرُ بِذَبْذَبَاتٍ تُحَرِّكُ أَرْكَانَكَ. حَدِيثُهَا لَيْسَ جُمَلًا مُكْتَمِلَةً، بَلْ شَظَايَا مِنَ المَعَانِي تَتَّحِدُ لِتَخْلُقَ لُغَةً جَدِيدَةً، لُغَةً لَا تُقَالُ بَلْ تُحَسُّ. عِنْدَمَا تَصْمُتُ، يَكُونُ صَمْتُهَا نِدَاءً. لَيْسَ الفَرَاغَ بَلْ حُضُورًا يُعِيدُ تَشْكِيلَ الهَوَاءِ مِنْ حَوْلِهَا.

حِينَ تَتَمَثَّلُ الكَلِمَةُ بِإِنسَانٍ، لَا تَبْقَى مُجَرَّدَ كِيَانٍ يَسْتَهْلِكُ الزَّمَنَ، بَلْ تُصْبِحُ صَانِعَةً لَهُ. هِيَ الفِعْلُ الذِي يُحْدِثُ تَغْيِيرًا، لَيْسَ بِسَطْوَةِ القُوَّةِ، بَلْ بِعُمْقِ التَّأْثِيرِ.

إِنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى أَنْ تَزْرَعَ الشَّكَّ فِي أَرْضِ اليَقِينِ، وَأَنْ تُزِيلَ ثِقَلَ المَعَانِي المُتَكَلِّسَةِ لِتُفْسِحَ المَجَالَ لِأَفْكَارٍ جَدِيدَةٍ تَنْبِضُ بِالحَيَاةِ.

الكَلِمَةُ-الإِنسَانُ تَعِيشُ فِي مُفَارَقَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ؛ فَهِيَ تَشْتَاقُ لِلثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُدْرِكُ أَنَّ الثَّبَاتَ مَوْتٌ. تَجِدُ قُوَّتَهَا فِي الضَّعْفِ، وَوُضُوحَهَا فِي الغُمُوضِ. هِيَ ذَلِكَ الهَامِشُ الذِي يَتَحَدَّى المَرْكَزَ، الظِّلُّ الذِي يُرَافِقُ النُّورَ، لَكِنَّهُ لَا يَنْتَمِي إِلَيْهِ.

الكَلِمَةُ التِي تَتَمَثَّلُ بِإِنسَانٍ لَا تَعِيشُ لِنَفْسِهَا، بَلْ تَحْمِلُ عِبْءَ أَنْ تَكُونَ جِسْرًا بَيْنَ العَوَالِمِ. هِيَ الوَسِيطُ بَينَ المَادِّيِّ وَاللَّامَادِّيِّ، بَيْنَ المَرْئِيِّ وَالمَخْفِيِّ. وُجُودُهَا دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عُمْقِ الحَيَاةِ، لِتَحْطِيمِ القَوَالِبِ التِي تَسْجُنُ الأَفْكَارَ، وَلِلْتَحَرُّرِ مِنْ قُيُودِ اللُّغَةِ التِي تَجْعَلُنَا نَعْتَقِدُ أَنَّنَا فَهِمْنَا بَيْنَمَا نَحْنُ غَارِقُونَ فِي الجَهْلِ.

هِيَ مَنْ تُذَكِّرُكَ أَنَّ الإِنسَانَ لَا يُقَاسُ بِمَا يَمْلِكُ أَوْ يَفْعَلُ، بَلْ بِمَا يَحْمِلُ مِنْ مَعَانٍ تَتَجَاوَزُ ذَاتَهُ. هِيَ الكِيَانُ الذِي يُعِيدُ تَعْرِيفَ الإِنسَانِيَّةِ، لَيْسَ كَمُجَرَّدِ وُجُودٍ بَيُولُوجِيٍّ، بَلْ كَطَاقَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى صُنْعِ الوَاقِعِ وَتَغْيِيرِهِ.

وختامًا، يا صديقي،

حِينَ تُصْبِحُ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، تُصْبِحُ فِكْرَةً خَالِدَةً تَتَحَدَّى الفَنَاءَ. لَيْسَتْ كَائِنًا عَابِرًا، بَلْ كِيَانًا يَعِيشُ فِي كُلِّ مَنْ يَتَأَمَّلُهُ. هِيَ أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ لِتَسْمَعَ صَوْتَ المَعْنَى فِي دَاخِلِكَ. هِيَ أَنَا حِينَ أَكْتُبُ هَذِهِ الكَلِمَاتِ، مُحَاوِلَةً أَنْ أَقْبِضَ عَلَى المُسْتَحِيلِ. هِيَ نَحْنُ، فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُحَاوِلُ فِيهَا فَهْمَ الحَيَاةِ بِمَا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الإِدْرَاكِ.

وتقبَّل مني أجملَ التحيات.

***

بقلم: د. علي الطائي

3-1-2025

في المثقف اليوم