اخترنا لكم
السيد ولد أباه: محمد جابر الأنصاري ونقد الواقع العربي
رحل المفكر البحريني البارز والصديق العزيز محمد جابر الأنصاري الأسبوع الماضي. آخر مرة التقيت به كانت قبل سنوات في بيروت، على هامش أحد مؤتمرات مؤسسة الفكر العربي، وقد بدت عليه أوانها نذر الشيخوخة والمرض وإن كان ما يزال محتفظاً بروحه المرحة وعمقه الفكري الذي لا خلاف حوله.
كان الراحل نموذجاً فريداً من بين المفكرين العرب من حيث الاهتمام وطبيعة المنهج والتوجه. لم يسع إلى بناء مشروع لقراءة التراث على غرار مفكرين بارزين عاصرهم مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي والطيب تزيني.. رغم اهتمامه الواسع بالمسألة التراثية واطلاعه الدقيق على نصوص التقليد العربي الوسيط. لقد توجه الأنصاري إلى ما أسماه نقد الواقع العربي بدلاً من الاكتفاء بالوقوف عند البنية الفوقية للمجتمع العربي، أي التراث والفكر.
ما استوقف اهتمامَه هو ما عبّر عنه في عنوان أحد كتبه «التأزم السياسي عند العرب»، أو بعبارة أخرى مظاهر الخلل التاريخية والمجتمعية العميقة في علاقة العرب بالمسألة السياسية ماضياً وحاضراً. لم يغب تاريخ الأفكار عن منهجية الأنصاري في مقاربة الإشكالات السياسية للمجتمع العربي، بل كان من أهم قراء العلامة ابن خلدون مؤسس «علم العمران البشري» ومن أكثر مستخدمي نظريته الشهيرة في العصبية والدولة، والتي اعتبر أنها تصلح لتفسير مظاهر الخلل في نمط الاجتماع السياسي العربي القديم. بيد أن الجوانب الفكرية لم تكن لتطمس لديه المحددات الاجتماعية الجذرية، من قبيل تضارب البنيات العصبية والدولة من حيث هي كيان سياسي مستقر، وانقطاع الحياة السياسية العربية مكانياً وزمانياً، وضعف الثقافة السياسية الجامعة والائتلافية.
ورغم أن الأنصاري حافظ على انتمائه العروبي القوي، فإنه في كتابه المهم «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» فنّد الأطروحة السائدة حول المؤامرة الاستعمارية الهادفة إلى تجزئة الأمة الواحدة، مبيناً الجذورَ التاريخية والموضوعية لأغلب الدول الوطنية العربية القائمة حالياً، ومطالباً الفكر القومي العربي بتجاوز طوبائية الوحدة الاندماجية العضوية الفورية التي طبعت الأيديولوجيات القومية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين.
وهكذا يدعونا الأنصاري إلى غرس قيم المواطنة المدنية الحديثة التي يَعتبر أنها مقوم البناء السياسي المنشود عربياً، بما يعني مصالحة العرب مع السياسة وبناء كيانات قادرة لأول مرة على التعبير عن الهوية الجماعية المشتركة، دون سلطوية قمعية مانعة لتشكل الدولة التعاقدية الحرة، وإن كانت المحطة الديمقراطية نتيجة تاريخية متأخرة للبناء السياسي الموضوعي كما تبين التجربة الأوروبية الحديثة. ولا شك في أن الأنصاري قدّم أهم قراءة للفكر السياسي العربي المعاصر في كتابه القيِّم «الفكر العربي وصراع الأضداد»، والذي عالج فيه الكتابات الأيديولوجية والفكرية العربية في العصر الحاضر من منظور الاتجاه إلى التوفيقية واللاحسم في النظر إلى القضايا الجوهرية للمجتمع العربي.
وقد استوقفني في هذا الكتاب، كما ذكرتُ مرة للمؤلف الراحل، قراءته العميقة وغير المسبوقة لمشروع ميشيل عفلق الفكري والسياسي الذي تميز ضمن كتابات القوميين العرب المعاصرين بالرصانة والجدية والاطلاع الواسع على أدبيات الفكر الغربي. وفي العنوان الفرعي الطويل الذي أعطاه الأنصاري لكتاب «الفكر العربي وصراع الأضداد» وردت المقولة التالية «كيف احتوت التوفيقية الصراع المحظور بين الأصولية والعلمانية والحسم المؤجل بين الإسلام والغرب.. تشخيص حالة اللاحسم في الحياة العربية والاحتواء التوفيقي للجدليات المحظورة». وكما هو واضح من هذا العنوان الفرعي، فإن المؤلف يرى بأن الفكر العربي المعاصر لم يستطع حسم الجدل الذي ولّدته الثنائيات الكبرى التي استأثرت باشتغاله مثل العقل والإيمان، التراث والمعاصرة، القومية والقطرية، الرأسمالية والاشتراكية، الحرية والعدل، والشرق والغرب.. إلخ.
وعلى عكس الانطباع الأولي، لا يقف الأنصاري ضد مسلك التوفيقية الذي يراه حتمياً ولا مناص منه ولو مؤقتاً، لكنه ينتقد ما يفضي إليه هذا التوجه من العجز عن حسم القضايا الجوهرية التي يطرحها الواقع العربي. في السنوات الأخيرة غاب صوت محمد جابر الأنصاري الذي أقعده المرض وأنهكته الشيخوخة، وكم كنا بحاحة إليه في لحظات فارقة من التاريخ العربي.
لكن أفكاره الثاقبة ساهمت دون شك في قراءة واستكناه المسار الراهن للمجتمعات العربية. ونحن نودعه اليوم، نرى الحاجة ماسة إلى الاحتفاظ بروحه النقدية الملتزمة ومنهجيته الجامعة بين التشخيص الموضوعي والبناء التركيبي المفتوح على الأمل والمستقبل. رحم الله محمد جابر الأنصاري، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
***
د. السيد ولد أباه
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 5 يناير 2025 23:45