اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: الأخلاق البانية

أدركت مجتمعاتنا، بعد تجارب مريرة مع واقع الناس، أن الاهتمامات الكبرى التي شغلت الفكر الإسلامي من قبل لم تكن تبوئ المسألة الأخلاقية المكانةَ التي كان حرياً أن تحظى بها. وقصّرت الدراساتُ الإسلاميةُ منذ القديم في البحثَ في القول الأخلاقي والتّنظير له رغم قوة هذا القول وغزارة كنوزه.

حقًّا جاء القرآن الكريم خزّاناً للقيم الأخلاقية، والسّنة وشخص الرسول الكريم مثال أعلى للأخلاق الإنْسانية، وكان أن ظهر في القرن الثّاني الهجري تيار يحيي قيم الزهد باعتبارها قيماً أخلاقية تُخَسِّسُ الحياةَ في أعين الناس، ما دامت هذه الحياة قد سمّيت ب«الدّنيا»، وما دامت هذه الدّنيا ليست سوى «لعب ولهو وتفاخر وتكاثر»، حيث وجدنا المقبل على الدّنيا وكأنه شخص غير أخلاقي، والأخلاقي الوحيد هو المقبل على الآخرة، وكأن الدّنيا والآخرة كالضّرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

في هذا السّياق كتب المحاسبي أول أعماله التي دشّنت القول الفلسفي في الأخلاق، إذا اعتبرنا أن ما كتبه هو حصيلة تجربة حياتية عميقة شاركه فيها من سُمِّي «سيّد الطّائفة» أبو القاسم الجنيد. قبل أن يأتي الغزالي ويكتب مصنّفه الضّخم «إحياء علوم الدين»، فيدمج المنحى الأخلاقي في نسيج الثّقافة الإسلامية كلّها، ويصبح كتابه يُتْلى في أرباع وأحزاب، كما كان يصنع به ابن حِرْزهم دفين فاس.

وظلّت الأخلاق بهذا المعنى شديدة الصلة بطرائق القوم، وكأنها من صفات الخاصّة، وإنْ عملت بعض الزّوايا على جعلها أخلاقاً مشتركة، لكن عدم ارتباط الأخلاق بالأفق المدني جعلها سجينة الأخلاق الميتافيزيقية، إذ للدُّنيا أهميّتها أيضاً، وهي أرض العمران، ولن يكون عمران إلا بالأخلاق البانية للعمران، والمسْعدة للمجتمع البشري في تفاعله اليومي التي تتضارب فيه المصالح ويقع فيه التّنازع. ربما لهذا السّبب لم تُعْرف أخلاق احترام الاختلاف، وأخلاق احترام الحرية الشخصية، وأخلاق الاعتراف، ولم تسُدْ أخلاق الحوار والتّعليل والإقناع والصّفح، ولا أخلاق التّسامح والسّلم الاجتماعي كثيراً، رغم بوارقها وإشعاعاتها في حقب تاريخية مهمة.

كان «كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس» لأرسطو مناسبة لتطوير النّظر الفلسفي الأخلاقي في هذه الموضوعات، وغيرها من الموضوعات التي تؤكد على قيم الضّيافة والاعتراف والحبّ والصّداقة، وهي القيم البانية للمجتمعات، وقد عرف المسلمون هذا الكتاب الفريد من نوعه في تاريخ الثّقافة الفلسفية عموماً، واستلهموه في نظرياتهم للسّعادة على الخصوص، وإن كانوا جعلوها سعادة ميتافيزيقية، ما عدا الفيلسوف الذي غرّد، على ما يبدو، خارج السّرب، واستلهم هذا الكتاب الفريد ليكتب كتاباً فريداً آخر في تاريخ الثقافة الفلسفية الإسلامية، أقصد أبو بكر ابن الصائغ، المعروف بابن باجة، وكتابه الفلسفي الطّريف، الذي وعد ابن رشد بقول شارح له، أقصد كتاب «تدبير المتوحد».

كان كتاب «تدبير المتوحد» نموذجاً لإبراز قيمة التّدبير الفكري في النّظر الأخلاقي، وهو الشّرط الأساس لتطوير النّظر الأخلاقي، لأنّ الفكر النظري، ولو في حقوله العملية، هو الفكر المنتج الوحيد على مستوى المعرفة، وعلى مستوى الوجود، وعلى مستوى القيم، وبدون فكر نظري قوي لن تكون هناك القيم البانية، تلك التي يكون أصلها ثابت ويكون فرعها في السماء.

وبما أن الإمارات قد أخذت على عاتقها، في جامعاتها ومنتدياتها بل ووزاراتها، عبء تجديد النظر الأخلاقي وجعله ركيزة أساسية في بناء الفلسفة الإسلامية عموماً، فهذا يُبشر بمستقبل علمي للأخلاق النّظرية أساساً عميقاً لأخلاق عملية بانية غير هادمة، مستقبل تصبح فيه الإمارات رائدة فلسفة أخلاقية تمتح من التراث الأخلاقي العملي الضارب في جذور الثقافة والتاريخ، مُضَمَّخًا بالإرث الفلسفي الأخلاقي الذي أبدعه العقل الفلسفي عبر العصور.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يناير 2025

 

في المثقف اليوم