قضايا
أنور ساطع أصفري: التفكيك الدلالي للهوية لدى الإنسان
الهوية الإنسانية هي من فعل الفرد الكائن العاقل الذي يتأمل ويُفكّر، وتتجلّى هذه الهوية من خلال مواقف الإنسان الذاتية، ومن خلال المصالحة مع ذاته، المنسجم مع بديهيات الحكمة والعقلانية.
إن الهوية لا تعتمد نهائياً على أية مظاهر جسمية، ومن هنا ندرك أن أي اختلال لأي شخص في الذاكرة أو في قدرته على التفكير قد يتسبب في تشويه أو تبديل ماهيّة هوية الذات، بمعنى أن هذا التغيير يمسّ العقل وليس البدن.
فمن خلال فكره والمواقف التي يحققها هكذا إنسان تُبنى الهوية، التي لا تنفصل عن اندماجه وتفاعله مع مجتمعه.
ومن هنا ندرك أن مفهوم الهوية يعني تطابق الذات البشرية مع ذاتها، بمعنى أنها مستقرة ليست قابلة للتغيير.
لذلك قال الفيلسوف ديكارت " أنا أُفكّر إذن أنا موجود ".
لذلك نقول أن الفعل وأن العقل هو المحور الأساسي لمفهوم الهوية. طبعاً واجهت الهوية الكثير من التحديات، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتطور والتكنولوجيا، يستطيع الإنسان أن يتمثّل في هوية جديدة له، أكثر تعقيداً أو أكثر تنوّعاً، ومن هذه الرؤية نرى أن الإنسان يستطيع أن يظهر في أكثر من هوية ويتفاعل مع الآخرين بأكثر من وجه من خلال مواقع مختلفة.
كما أن الغزو الثقافي أثّر بشكلٍ أو بآخر على ماهيّة الهوية، حيث أن العالم تشابك وتداخل في كل شيء، وأثّر كثيراً على الهوية المستقرة، وأصبحت قابلة أكثر من أي وقتٍ مضى، ومعرّضة للتشوّه من خلال تأثّرها بالثقافات الأخرى.
الفلسفة بشكلٍ عام تُعرّف الشخص بأنّه ذات عاقلة حرّة واعية تُدرك نفسها ومحيطها ومتأمّلة وذات أخلاق، الفيلسوف كانط قال عنه " كائنٌ أخلاقي "، لذلك نقول أن الأخلاق هي التي تحدّد الإنسان كإنسان.
ومن هذا المنطلق يُعرّف الفيلسوف جون لوك الشخص " بكونه كائناً مفكراً عاقلاً قادراً على التعقّل والتأمل.
والفيلسوف لوك " يرى أن الهوية لأي إنسان لا تُبنى فقط على العقل، بل على الذاكرة واستمرارية الوعي، فالشخص هو نفسه طالما يستطيع أن يتذكّر أفعاله وأفكاره عبر الزمن، ممّا يجعل الذاكرة العامل الأساسي في تحديد الهوية ".
وأيّاً كانت الأمور فإن مفهوم الهوية تتجلّى من خلال العلاقة بين الفرد والآخرين، ومن خلال الحوار المتبادل بينهم، ومن هكذا جدلية يكتسب الفرد الشعور الفعلي بالوجود وبالقيمة، وبالتالي تتجسّد مكانته في مجتمعه. ويجدر بنا أن ننوّه بأن مسألة الهوية تُعتبر معقّدة، أمام آراء الفلاسفة المختلفة، لكنها كمجمل وقواسم مشتركة، هي عملية مستمرة تتأثّر بعوامل منها داخلية وأخرى خارجية، وكلها ترتبط بالذاكرة وبالفعل وبالثقافة والمجتمع.
الهوية هي الوعي الذاتي بكلِ تأكيد، ولكن هذا لا ينفي علاقتها أو تأثّرها بالمحيط والمناخ الاجتماعي والثقافي.
العلاقة مع الغير يجب أن تكون ملتزمة بالأخلاق وبالقيم، وأن تقوم على التعاطف والتراحم، وبذلك نكون ومن خلال هذه العلاقة أوفياء من باب رد المعروف الذي قدّمته لنا الإنسانية.
ونأخذ بعين الاعتبار بأن هناك كثيرون يُعانون من أزمة الهوية، ويجهلون من يكونون حقاً، أمام هذه المتغيرات المتسارعة، وآخرون أيضاً تبنّوا هوية جديدة مختلفة عن هويتهم الأم، وهذا هو السبب الرئيسي المُسبب للضياع والانفصام والانفصال عن الذات.
إن الوضوح مطلوباً وخاصّة عندما نتحدث عن الهوية، لذا نرى أن الهوية هي ليست قضية فلسفية، بل هي مسألة إنسانية بحتة، ترتبط مباشرةً بمدى وكيفية فهمنا لأنفسنا وللمحيط القريب والبعيد، والعالم من حولنا. ومن خلال ارتباطنا بالهوية ودراسة ما هيّتها، نتعلم بكل ثقة كيف نتحوّل أو نكون أكثر إدراكاً ووعياً بأنفسنا، وكيف نتحاور ونتفاعل ونتعامل مع الآخرين، مع الالتزام بأدبيات الحوار واحترام التنوع والاختلاف.
الهوية دائمة التطور، فهي لا تنضب من التأملات والسمو.
الهوية جزء أساسي من حياتنا اليومية، وهي البوصلة التي تُوجّهنا، وتقيّم مواقفنا.
والتفكير في هويتنا بشكلٍ جاد يجعلنا نفهم أنفسنا وما يدور حولنا بشكلٍ أفضل، وبالتالي نستطيع أن نتفاعل مع الآخرين بكلِ وعيٍ وإدراك.
إنها الهوية التي كانت ولا تزال وستبقى محور إهتمام الإنسان على مر التاريخ.
لا ننكر أن هناك كثيرون ممّن تنكّروا حتّى لهويتهم، ومحيطهم وفكرهم بكل أسف.
الحرية جزء من وجود الإنسان، وهي أي الحرية تجعل الإنسان مشروعاً حراً قادراً على بناء مستقبله، وقادراً على الإختيار، وتحمّل مسؤولية اختياره، التي تجعله شخصاً يتمتع بكامل وعيه وإدراكه.
لذا الواقع لم يعد محتملاً، الرياح تهبُّ كما يحلو لها، وكثيرٌ من الناس أرى اليأس في وجوههم، حتّى الطرقات لم تعد تحتمل الثقل المفروض عليها، كما أن التجاعيد انتشرت على وجوه الناس، وكلّ الألوان باتت باهته كلوحةٍ تشكيلية مشوّهه.
الحوارات التي أسمعها فقدت معناها، حتّى المشاعر تلاشت وتهشّمت وأصبحت عبارة عن مصطلحاتٍ ليس إلاّ.
حتّى الإحساس المكتسب للدفاع عن الحقوق فقد معناه وأصبح وجهة نظر، تماماً مثل حقّ الرأي أو حق الرفض. أصبح البشر يطعنون في حقوق بعضهم البعض، إن كان في التفكير أو الإعتقاد، وانتشرت الأفكار المشحونة وتميل إلى الإنتصار على حساب هدف التنوير.
لا ألوم أحد، لكني آمل من الشباب أن يشعروا بشيءٍ واحد، أن يتذكروا آبائنا وأجدادنا وأسلافنا، نحن في عصر الانهزام، فقدنا هويتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، وأصبحت كل الانتصارات بلا طعم أو رائحة.
ولكن يجب أن أجد لذاتي موقع قدم، ولو بكلمةٍ واحدة في هذه الحياة. كل العالم يركض ليطارد ذاته بلا هدفٍ منشود، وأصبح الإنسان يركض فقط، ليس هروباً أو خوفاً من شيء، لكنه بدون توقّف يركض.
انسابت الهوية وانصهرت في أكواب الصالات المخملية، تختفي اللغة، يلحق بها التاريخ كما التراث. أرى أدباء العروبة يتلعثمون في لغتهم الأم، إلى أين نحن نمضي ؟، نسير حفاة على رمالٍ خبّأت لنا ألغاماً، تفجّر ثقافةً مُندسّة في شعوبنا في كل لحظة، تركنا كل شيء، تركنا العلم، تركنا العزة والكرامة، تركنا التاريخ والأدب، تركنا الفكر، ومن ثُمّ تركنا حدودنا للآخرين !. والهوية تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.
لكن المواقف والانهيارات السلبية في جسد الأمة، تخلق رجالاً أشدّاء، كدائرةٍ مُحكمة، كي لا تكون النهايات بليدة وبلهاء. أفيقوا، استيقظوا جميعاً بغير ترددٍ أو خوف، وتأكّدوا أنكم تستطيعون التمسك من جديد بمشاعركم واحاسيسكم البريئة من المكسب، وأسرعوا للاحتفاظ بهويتكم، أنتم الأساس، ولا تتبعوا أو تُقلّدوا أحد، أنتم التاريخ، وأنتم اللغة، وأنتم الهوية والشجاعة.
***
د. أنور ساطع أصفري