قضايا

مصطفى غلمان: تأثير قانون القوة في مجتمع الشبكة

(ما مدى قدرتنا على تصور مستقبل جماعي يتجاوز الإمكانيات الرهيبة للحاضر؟)... جاك دريدا.

(كل عام ينقضي يأخذ معه جزءًا منا، وتظل الذكريات المفقودة تلاحقنا، وكأننا نعيش في غياهب الحنين، حيث لا شيء يعود كما كان)... محمود درويش.

من البدهي أن تكون عملية الاتصال والوصول في مجتمع الشبكة اليوم، فارقة ثقافية اجتماعية موقوتة، تعيش مرحلة التعايش الحذر، أو ما يسمى ب"مرحلة الكتلة الحرجة"، أولا لأنها انخلقت من عوائد تقليدية نمطية، ليست لها جذور إعلامية ذات أسس أخلاقية ومهنية متينة، وثانيا لأنها انبرت عن فواعل نخبوية محدودة، تشكل كتلة النخب المعلوماتية والثقافية والاجتماعية جزءا من مكوناتها.

من هذا المنطلق، كان الوصول إلى الشبكة بكفاياتها المحدودة والمنمطة، يشغر جانبا من الفهم لا يتعدى المسلكيات الأولية للاتصال، ما جعل من مسألة التوجيه والامتداد في المجتمع يأخذ منعطفا محذورا في انتشار المعلومات وضبطها واستيعابها.

وفي بؤرة تطور المجال واختراقه لحواجز البث التكنولوجي والانتشار المتسارع للشبكات الإعلامية والثقافية والاجتماعية، صارت الأغلبية المتأخرة متساوقة ومتطلبات العصر الجديد، وصار من السهل الحكم على الانتشار إياه، يأخذ أبعادا، خصوصا في بنية اقتصاد الهواتف المتنقلة، التي أضحت تغزو العالم الثالث بشكل مخيف، يسائل مصير قلقنا المشروع حيال بروز مشكلات "عدم المساواة البنيوية في مجتمع الشبكة".

وصورة عكسية متباينة، حيث يعيش مجتمع الرفاهية في العالم الآخر، وضعا أقل توجسا وتعاندا، حيث تنحصر استعمالات الشبكة في الحدود المعقولة للترفيه والتسلية وملء الوقت الشائط، رغم امتلاكها لأدوات الترديد والتعبئة، حيث إن عددا منها يعيش عبر مسافات نائية على إيقاع استخدام علاقاته وفق أساليب الحياة المتنقلة، وبمهارات تتقاطع فيها درجات التعلق والتفاعل والاكتراث.

صحيح أن الفضاءين، يتخلفان في معايير مركزية تحليل مثل هذه الظواهر، فنوازع تبيين الشبكة في الأولى غيرها في الثانية، وهما معا يشكلان علامات استقطاب وتداخل كبيرين، ويحيلان على مديات تنظيمية وقيمية متقاطعة، كما هو الشأن بالنسبة لقياس درجات الاحتكار والقابلية، ووقوعهما ضمن مفاهيم معقدة في "الاقتصاديات الرأسمالية" مثلا، والتي تحتاج منا وقفة ليس هذا وقتها.

ولعل أكثر التحليلات معقولية وتجردا، ما ذهبت إليه نظرية تأثير قانون القوة (تأثير ماثيو)، التي تشير إلى أن "التوزيع الذي يوجد به عدد صغير من الجهات الفاعلة التي لها روابط قليلة فقط، غير متكافئ يزداد عادة في الشبكات، ما يزيد الأثرياء ثراء".

ومن الإنصاف ها هنا إعادة تجسيد مقولة ابن خلدون التي تشير إلى أن أطوار البناء البشري تقوم على أضلع خمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، في تقاطعها مع (تأثير ماثيو)، مع التمييز المنهجي لمفهوم "الجيلية" وعلاماتها واستتباعاتها في بنية المجتمع القديم والحديث.

لكن، وبإزاء هذه التدافعية الفكرية بين ماثيو وابن خلدون، ثمة ما يؤسس طفرة الوثوقية الجديدة في العالم التكنولوجي، الذي يجعل من التأثير قوة قاهرة لاستدامة التقليد وإنعاش الهدم الحضاري والثقافي على حساب تخلف العقل وتداعيه. فالبناء والعناية الماضيين، ينحرفان تحت واقع (التأثير) الاستبدالي المراوح لقوة التكنولوجيا والاقتصاد والإعلام، وهيمنة السياسات الرقمية المدعومة من أجهزة التجسس والعسكرة والسلاح.

فهل تشحن ثقافة الشبكية الجديدة، أنفاق الشك غير المستقرة، والمتناقضة أحيانا، كأمور مسلم بها، بعبارة دريدا؟ أم أن عالما آخر، أكثر عدوانية من ثقافة الترحال الافتراضي، سيتشكل بإيقاعات فتاكة ومروعة، ستحيل الصداقة الإنسانية والتعايش الكوني، إلى كابوس "فناء الروح" و"موت الرحمة" ؟.

***

د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

في المثقف اليوم