قضايا

إبراهيم برسي: اللغة كقيد.. هل يمكن للإنسان التفكير خارج حدود لغته؟

في البدء، كانت اللغة، أو هكذا توهِمُنا السردية المؤسسة لهذا الوعي الذي نقبع داخله ككائنات لغوية، مسجونة داخل إطار لا مرئي من المفاهيم والرموز والتراكيب.
نحن لا نفكر إلا عبر اللغة، لكن هل نفكر بها أم تفكر هي بنا؟ أين تنتهي حدودنا ككائنات واعية، وأين تبدأ سلطة اللغة كجهاز مفاهيمي هيمني يعيد إنتاج وعينا داخل قفص رمزي غير مرئي؟
يبدو هذا السؤال، للوهلة الأولى، ضربًا من الميتافيزيقا، لكنه في جوهره يتعلق بالبنية التحتية للمعرفة والوجود. فالإنسان، منذ لحظة تشكّله ككائن اجتماعي، خضع لمقولات اللغة، صار جزءًا من نسيجها، يعيش داخلها بوصفها فضاءً للوجود، وليس مجرد أداة تواصل.
حين قال فيتجنشتاين: “حدود لغتي هي حدود عالمي”، لم يكن يدافع عن اللغة بوصفها جسرًا نحو العالم، بل كان يشير إلى هشاشة هذا الجسر، إلى كونه قيدًا أكثر مما هو وسيلة. نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما تسمح لنا بنيتنا اللغوية برؤيته.
اللغة لا تعكس الواقع، بل تصنعه، تحدده، تعيد تشكيله ضمن سردية مسيجة بحواجز من العلامات والإشارات والأطر الرمزية. وإذا كانت اللغة بهذه السطوة، فهل يمكن للإنسان أن يختبر وعيًا يتجاوزها؟ أم أن كل محاولة لفعل ذلك ليست سوى إعادة إنتاج لنفس البنية اللغوية ضمن سياقات مختلفة؟
هنا يصبح السؤال أكثر تعقيدًا: هل يمكننا اختراق هذه الحواجز، أم أننا محكومون بالتفكير داخل دوائر مغلقة لا نملك تجاوزها؟
المعنى ليس بريئًا، بل هو منتَجٌ ريعيٌّ يُعاد إنتاجه في مصانع الأيديولوجيا، حيث تتحول المفاهيم إلى أدوات ضبط، وحيث يتلاشى الخيال لصالح التكرار، ويُختزل اللايقين في يقين لغويٍّ مصطنع. لا عجب إذن أن تعيد المجتمعات إنتاج ذاتها عبر نسق لغوي مغلق، يحدد ما يمكن التفكير فيه، وما يجب استبعاده، وما ينبغي أن يظل مجهولًا حتى لا يهدد استقرار البنية السائدة.
إن خطورة اللغة تكمن في كونها ليست مجرد وسيلة تعبير، بل أداة تشكيل، وأداة قمع ناعم تتسلل إلى الوعي دون أن يشعر بها الإنسان، فيتحرك داخلها بوصفها بديهة، دون أن يدرك أنه يتحرك وفق إملاءاتها.
ما نسمّيه “المعنى” ليس إلا توافقًا اجتماعيًا، ترسّب عبر تاريخ طويل من القمع الناعم الذي تمارسه اللغة على المخيلة. رولان بارت أدرك هذه اللعبة حين فكك النصوص وكشف أنها ليست سوى أنظمة دلالية مغلقة، تتحرك داخل فضاء سلطوي يحدد ما يمكن أن يُقال، وما يجب أن يُنسى.
لكن السؤال الأهم ليس فقط كيف تعمل اللغة، بل: من يملكها؟ من يحدد “المسموح والممنوع” داخل هذا النظام الدلالي؟
اللغة، في نهاية المطاف، ليست ملكًا محايدًا، بل تخضع لمعادلات القوة. إنها جهاز رمزي يشفر الواقع وفق مصلحة أولئك الذين يملكون سلطة تعريف الأشياء، وإعادة إنتاج السرديات وفق ما يخدم مصالحهم.
في عالم خاضع لهيمنة السوق، تتحول اللغة إلى آلية إنتاج، ويصبح المعنى نفسه سلعة يتم ترويجه وفق مقتضيات رأس المال الثقافي. المفردات تتغير، والدلالات يُعاد ضبطها، وكل ذلك ضمن اقتصاد لغوي خفي يحدد كيف نفكر، وبماذا نحلم، وكيف نرى أنفسنا.
المعاني التي تبدو وكأنها نابعة من ذاتيتنا ليست سوى انعكاس لسرديات تم تلقينها لنا منذ الطفولة، عبر المؤسسات التعليمية، وعبر الإعلام، وعبر الدين، وعبر التاريخ الرسمي.
إنها “أدلجة للواقع”، كما أشار ألتوسير، حيث يتحول كل خطاب إلى جهاز أيديولوجي، لا يصف العالم، بل يعيد تشكيله وفق مصلحة الفاعلين الأقوى في المشهد الثقافي والسياسي.
وهكذا، يتم تحويل اللغة إلى وسيلة إعادة إنتاج للوعي القائم، لا كأداة للتفكير الحر، بل كآلية تقنين للخيال، حيث يصبح من المستحيل التفكير خارجها دون أن نجد أنفسنا، بطريقة ما، مقيدين بها.
لكن إذا كانت اللغة تحدد حدود وعينا، فهل يمكن تجاوزها؟ هل يمكننا أن نفكر خارج هذه البنية الرمزية، أن نخترق الجدار اللغوي نحو فضاء أكثر رحابة، وأكثر انفتاحًا على اللايقين؟
السؤال يبدو عبثيًا للوهلة الأولى، إذ كيف يمكن للإنسان أن يفكر دون أن يستخدم أدوات التفكير ذاتها؟ كيف له أن يتجاوز اللغة وهو داخلها؟ يبدو الأمر كمن يحاول القفز خارج ظله، لكن هذا لا يعني استحالة إيجاد شروخ في البنية اللغوية.
جاك دريدا، وهو من فكك النصوص حتى تعرت من أوهامها، لم يكن يسعى إلى استبدال نص بآخر، بل إلى كشف هشاشة النصوص ذاتها، إلى فتح ثغرات في جدران اللغة، حيث يمكن للمعنى أن ينزلق، أن يتسرب خارج النسق.
وربما يكون الفن هو السبيل الوحيد لفعل ذلك، لأن الفن لا يحتاج إلى لغة مستقرة، بل يتلاعب بها، يعيد تشكيلها، يكسر نسقها، ويفتح فيها شروخًا صغيرة تتسرب منها احتمالات جديدة للمعنى.
السينما، الرسم، الموسيقى، كلها أشكال من التفكير خارج اللغة، مقاومة صامتة ضد عنف الدلالة، محاولة مستمرة لاستعادة سيولة الوعي من قبضة العلامة اللغوية.
هل يمكن للوحة تجريدية أن تعبر عن شيء لا يمكن للغة أن تقوله؟ هل يمكن لمقطوعة موسيقية أن تحمل في أنغامها معنى لا يمكن ترجمته إلى كلمات؟
ربما لا يكون الفن وسيلة للهروب من اللغة، لكنه بالتأكيد محاولة لتفكيك سلطتها، لخلق فضاء يتسرب فيه المعنى دون أن يُعتقل داخل قفص الدلالة القهرية.
في ضوء ذلك، تبدو اللغة وكأنها منفى، كما قال جورج شتاينر.
فنحن كائنات لغوية، محكومون بهذا السجن الرمزي، غير قادرين على استعادة وعينا الأول، الصافي، قبل أن تلوثه الكلمات.
لكن ربما لا يكون السؤال عن إمكانية الهروب من اللغة، بل عن كيفية استخدامها ضد ذاتها. كيف نحول الكلمات إلى شفرات تفكك ذاتها؟ كيف نكتب لا لنؤكد، بل لنشكك؟ كيف نعيد تشكيل اللغة، لا كأداة تكرار، بل كأفق للانفلات؟
إن اللغة ليست بريئة، ولا محايدة، ولا شفافة. إنها قوة، نظام، سلطة، قيد ناعم يخترق وعينا ويعيد تشكيله. لكنها، في الوقت ذاته، تحمل في داخلها بذور الانفلات، وإمكانية الانزلاق، واحتمال الخروج عن النسق.
داخل هذا القيد، هناك ثغرات، هناك احتمالات للخروج، هناك لحظات يتمرد فيها الخيال على الجملة، حيث تنفجر الكلمات من داخلها، وحيث يتحول النص إلى مسرح للفوضى الجميلة.
أن تفكر يعني أن تتجاوز لغتك، أن تبحث عن مناطق غير مسماة، عن ظلال لم تصلها الكلمات بعد.
ربما لا يمكننا الهروب من اللغة، لكن يمكننا على الأقل أن نرفض أن نكون مجرد نسخ مكررة داخل سردياتها الجاهزة.
إن مقاومة اللغة من داخلها، تفكيكها، إعادة تشكيلها، واللعب بها، كلها أفعال تنطوي على لحظة تحرر، حتى وإن كانت لحظة عابرة، وحتى وإن لم تكن كافية للخروج الكامل من هذا القيد.
لكن في النهاية، أليس الوعي نفسه إلا محاولة دائمة للتمرد على حدوده؟
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

في المثقف اليوم