قضايا

ريبيكا روث غولد: استكمال مكتبتي.. والتر بنجامين وأنا

بقلم: ريبيكا روث غولد

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

كتب والتر بنجامين عام 1931 في مقالة له بعنوان "تفكيك مكتبتي" يقول: "قمت في رحلة ترانزيت بشراء مختارات لا يمكنني نسيانها".

تخيل بنجامين في مقالته أن هاوي الكتب جاسوس يؤدي مهمة استطلاع أدبية. وتابع يقول: “الهواة موهوبون ولديهم غرائز تكتيكية. وتعلمهم خبراتهم أنهم حينما يحتلون مدينة أجنبية، قد يكون أصغر متجر أثريات حصنا، وأبعد متجر قرطاسية نقطة استراتيجية".  تختصر مجموعة كتب بنجامين حياته البدوية وهو يتنقل بين ريغا ونيبال وميونيخ ودانزغ - غدانسك حاليا، وموسكو وفلورنس وبازل ثم باريس.

يقول هاوي الكتب بحنان: "كم من مدينة كشفت نفسها لي خلال التجوال الذي قمت به بحثا عن الكتب". ثم يتخيل كيف أن الكتب المكتشفة في حوانيت الأثريات تعيد ترميم الحياة التي مزقتها الحروب.  بتجميعها معا على رفوف شخص واحد، يعتقد بنجامين أن الكتب تقدم أكثر من محتوياتها: فهي محكومة بعمر مقتنيها، والمكتبة الشخصية تحمل علامات كل محطة مر بها القارئ خلال حياته. 

ومحطات بنجامين: ريغا ونيبال وميونيخ ودانزغ وموسكو وفلورنس وبازل وباريس هي بالنسبة لي بريستول وتبليسي ودوشانبي وديلهي وحيدر آباد وأصفهان ودمشق ويريفان وغروزني. في كل مدينة من هذه المدن، البعيدة جدا عن الممرات المطروقة في الميتروبولات الأوروبية التي آوت روح بنجامين البدوية، اقتنيت الكتب التي حددت وأكملت معنى حياتي.

وحان الآن وقت الافتراق عن مجموعتي، فهي كبيرة جدا ومتنوعة ولا تتسع لها أي مكتبة منزلية.

لو أخذت هذه المجلدات كلا على حدة - الأخوان غريم بالشيشانية، نسخة مع رسومات ملونة من ذهب جاوا القديم، عمارة الأندلس، أول نص أنوثي بالأوردو - ولكنه لا يصل إلى رؤية متماسكة. إن نظرت إلى كل هذه الكتب ترى أنها محطات طريق روحي.

مع أن الكتب المتنوعة تتكلم قليلا وهي بين الرفوف كما تفعل موضوعاتها، كانت في بيتي تقف معا مثل مؤلفيها، أخوة في رحم واحد.

هل آخر وداع يأتي أثناء البيع، أم التبرع، أو إعادة التدوير؟. عموما أيامي معها معدودة. بعد مرور عام على حنيني إلى كتبي. راعيها يستكمل أخيرا انتقاله المنتظر عبر العالم. قد تبقى هناك بقية حياتها. وإذا عادت إلى بلد مسقط رأسها، سيكون للزيارة فقط.

وهكذا ستغادر مكانها من البيت وتلك البلدة المسماة يونكرز وهي على أطراف نيو يورك. كتب بطلها الأدبي ريشارد ييتس أفضل رواياته هنا، ولكن المؤلفين الذين أغنوا رفوفها لا يمكن أن يتقمصوا، ناهيك أن يسكنوا، هذا الهدوء المحدود والغريب. يصر هيدغر أن مكاننا هو اللغة، وهي "في نفس الوقت بيت الكينونة وبيت الكائنات البشرية". وإذا أخذت كلامه بمعناه الحرفي تفهم منه أن كتبي هي خلاصة وجودي. وحتى حينما لا تكون قريبة مني فيزيائيا، تمنحني الكتب الاستقرار والتي كانت في حياة سابقة تدل على معنى البيت. وخلال تنقلي في فلسطين، وإيران، والهند، أتذكر أمكنة كتبي على رفوف يونكرز فترتب حياتي وتمنحها اتجاهها. الماضي يعيش في الحاضر، بوضوح أكبر، وشكرا للذاكرة البصرية. ولدى عودتي أعتبر أن بيتي المهجور هو مخزن لروحي الضائعة والشكر يعود للنظام الذي فرضته كتبي.

هذه الكتب جنود في حرب غير دامية. فقد سكنت في المساحة الذهنية التي طبعت أغلفتها ذهني في أفضل فترة من هذا العقد. وخلاله كسبت درجة الدكتوراة، وحصلت على أول عمل لي، ثم تزوجت زواجا فاشلا، وبعد ذلك حملت وولدت عدة مخطوطات سوف تشق طريقها إلى عالم الكلمات.

كنت دائما غريبة في يونكيرز، أجلس في شقة مزدحمة، وأصحو  في منتصف الليل بسبب ضجيج السيارات المسرعة، مراهقون يستمتعون في عطلة الأسبوع متحررين من قيود المدرسة - وهم يجتاحون الطريق الإسفلتي مثل أمواج المحيط حين ترتطم بالصخور. كنت أستمتع بالغموض الذي توفره المطبوعات الصديقة. وكانت تقدم الحماية والمأوى من الوهم، وتؤثث بيتي وسط التشرد الداخلي الذي أعيشه. 

بعد تجميعها على الرفوف في شقة يانكيرز، شهدت هذه الكتب ممرات وسيطة أكثر مما يقدر أن يشاهده أي إنسان. ولم تحتمل عمرها المديد ولم أحترم دائما قيمتها. وعوضا عن أن أحتفظ بها من مسافة، مثل بائع كتب غير مهتم وينظر لها كبضاعة لها قيمة في السوق، أو مثل مصمم ديكور داخلي يفكر بشكل الكتب على الرف، قمت بالاعتداء على كتبي بعاطفة جياشة. خنقتها بالقراءة المكثفة، وبرسم خط تحت العبارات، وتلوين غيرها، والتهميش عليها، وبإضافة إشارات على الأغلفة أو ثنيها وطيها إلى الخلف بعكس اتجاه الكتاب. وبمضاعفة العلاقة الحميمة.

بعكس العديد من المكتبات لا تتواجد كتبي للعرض ولكن للاستهلاك. وحينما أكتب كلماتها على روحي، أضع نفسي بين صفحاتها. ومعظم الأفكار في مرحلة اليفاعة، غير ملموسة اليوم، ولكنها تنظر لي من وراء  أطوار نفسي السابقة. 

هل الكتابة الممحوة والملغاة صالحة؟

أخبرتني عاشقة ولهانة للكتب في إحدى المرات بعد تقديم أطروحة الدكتوراة الخاصة بها، كيف أنها مزقت نسختها من جمهورية أفلاطون، على أمل تحرير نفسها من الفيلسوف الإغريقي الذي خصصت له أفضل سنوات عمرها في المدرسة. وحينما استيقظت في اليوم التالي من ثورتها الليلية، أسرعت فورا بالبحث عن بائع كتاب وافق أن يجمع أشلاء الجمهورية الممزقة، لقاء مبلغ ثقيل.  وتابعت حياتها مع نفس  الجمهورية، وفي النهاية نشرت أول كتبها عن النص الذي مزقته. وبعد أن ندمت على ثورتها الأولى، لم تخف هذه المحبة المتعصبة للكتب  وتضاعف إخلاصها للفيلسوف الإغريقي.

للتعويض عن سلوكي العنفي، ضمدت أطراف أولادي الذين تبنيتهم بأشرطة لاصقة، وأملت أن الورق سيصحح الفراغات عاجلا ويلصق الجروح النازفة. هذا الحب الذي يتناوب بين الرقة والاعتداء، ظهر على نحو أكمل مع كتبي أكثر من أي شيء آخر مر علي في حياتي. اعتنيت بأوراقها الهشة بعاطفة متطرفة.

وبما أنني بلا أطفال أصبحت الكتب التي أمتلكها حيوات لم أعشها. أنا أم ألد النصوص، وأتمنى أن أعطي أولادها الفرصة التي لم تتوفر لها وهم يقلبون المستقبل المتخيل الذي سيتحقق يوما ما. أنا أم حريصة جدا. قال بنجامين: “الامتلاك علاقة خاصة جدا بين الشخص والشيء". هذه الفكرة تبدو إنكارا  للنقد الماركسي بشأن الاستهلاك، إن لم تكن لتمرير علاقة الممتلك - والمملوك وبها أنهى أطروحته عن الامتلاك: “لم تر الحياة فيه، بل هو من يحيا فيها".

بضم نفسه لفئة الشخص الغائب،  تحول بنجامين إلى كتاب  لأنه أحب الكتب وجمعها، يقول: “بنيت واحدا من بيوته، كانت الكتب  حجارة البيت، أمامك، والآن سيختفي في الداخل". هذا التصريح يدمج مقالة بنجامين في الكتاب الذي سيصبح (باللغة الإنكليزية) إضاءة، وتجميعا لمقالاته بعد موته، وقامت بالعمل حنة أرندت. بعد وفاة بنجامين حققت الإضاءة شهرة أكبر مما يمكن لبنجامين أن يتنبأ به لنفسه. مثل تجميع الورق الذي وجدت فيه روحي المتشردة ملجأ آمنا، لا يمكن لكتب بنجامين أن تتوقع حيوات كاتبها فيما بعد الموت.

يعرف بنجامين المؤلفين بأنهم من يكتب الكتب لأنهم "غير راضين عن الكتب التي يمكنهم اقتناؤها ولكنهم لا يرغبون بها". كان ناقدا لكل شيء مر في طريقه، وتناسب كتابات بنجامين أسلوب المقالة أكثر من الكراريس.

وحينما كتب "تفكيك مكتبتي" توقف بنجامين عمليا عن نشر الكتب. والتفاتته نحو الأنواع التي لا يمكن حصرها بين دفتي كتاب واحد كانت إحدى عواقب ميوله الجمالية للأجزاء، بالمقارنة مع الكل الأصلي.

لم يخدم كراسان أكاديميان لبنجامين - مفهوم النقد في الرومنسية الالمانية 1920، وجذور الدراما التراجيدية الألمانية 1928،  كاتبهما جيدا خلال حياته. والأسوأ رفض جذور الدراما التراجيدية الألمانية، حينما قدمه بنجامين على أنه أهم عنصر في استمارته عام 1925 ليشغل منصب Privatdozent   في قسم الأدب الألماني في جامعة فرانكفورت.

قال الأستاذ الذي رفض دراسته الهامة  عن التفجع والعدمية في الأدب: "لا يمكننا توظيف النفس" (مبدأ فلسفي التزم به بنجامين وسلفه هيغل). تم نسيان الأستاذ، لكن أطروحة بنجامين المرفوضة فرضت المزيد من التأثير كل عام.

مثل بنجامين ومثل كل الأرواح الشاردة، الأفكار مثل النفس يمكنها أن تكون أقرب للتجوال في العالم ولا تستوعبها مؤسسة، ولكن يبقى لها رفوف في الحياة تدوم أكثر من مناوئيها المعروفين. واللحظة التي أسرت مخيلة هواة الكتاب هي البركة الواقية التي ترافق الفيلسوف الجوال. وتعلقه بالأشياء الدقيقة التي أهملها الآخرون، بالنفايات الناجمة عن الإنتاج الميكانيكي، والطبعات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة. والكتب الشعبية المبلولة، والكتب ذات الأغلفة الفنية ولكن المهترئة، يصبح هاوي الكتب من تراث الحداثة النمطية، ويحرص على تنظيم الفوضى ويحقن الحياة بالفوضى. ووجوده غير "المرحب به" يكون، مثل الحضارة نفسها، ولا سيما حينما يقيم الهواة مستقبلا جديدا على أنقاض ماض منسي منذ زمن بعيد. طيف بنجامين بين هواة شراء الكتب في المدن المحاصرة - لتكن باريسه أو مدينتي غزة أوغروزني - هو بحث عن مواد وآثار من عصور سابقة، ودليل على أن الحياة مترابطة معا ومتشكلة من أجزاء قد تجد مرسى لقلقها في عالم يتكون من الكتب.

10 آب 2024

***

..........................

* ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould  أكاديمية وقاصة أمريكية. تعمل أستاذة في جامعة لندن / كلية الدراسات الإفريقية والاستشراق. من أهم مؤلفاتها: شعر السجون في الأدب الإيراني، إلغاء فلسطين، وغيرها.

* الترجمة عن موقع ميديوم بإذن من الكاتبة.

في المثقف اليوم