نصوص أدبية
سعاد الراعي: آريس..

آريس.. هدية النور الذي انبثق من صمت الانتظار
مهدات لولدي فرات
***
لم أكن أعلم أن الشوق يمكن أن يُترجم إلى فرحٍ يؤلم القلب لشدة ما يحتمل. لم أتصوّر أن لهفة اللقاء قد تتحوّل إلى غصةٍ من الفرح النابض، يتخبّط في الصدر كطائر حبيس، جناحاه من لهفةٍ ودموع.
اليوم، جاءتنا البشرى كنسمةٍ تتسلل إلى القلب في ظهيرة دافئة، كنسمة هاربة من صدر السماء. لم تقرع الأبواب، بل تسللت إلينا همسةً دافئةً، تحمل في كفّيها اسماً سلسًا كالعسل، سهل النطق، عميق الأثر: "آريس".
"وُلدً آريس..."
حفيدٌ ثانٍ… من ابني الثاني. يا لهذا الترتيب الساحر، كأن الحياة ترتّب أفراحها على مهلٍ، تخشى أن تهبنا كل النعيم دفعةً واحدة، خشية أن تتسع قلوبنا فرحًا فتنفطر.
قلت لنفسي: تدور بنا الحياة، نعود كما بدأنا، ولكن بأدوار جديدة.
كان حينها قلبي بين نسمة ربيعٍ ناعمة، وجمرةٍ متّقدة. لا يعرف أين يسكن فرحه، ولا كيف يروض هذه العاطفة الجارفة. أريد أن أراه... أن أعدّ أصابع قدميه الوردية... أن أضع أذني على صدره لأسمع موسيقى أنفاسه الأولى، أن أطمئن أن الحياة قد غنّت له أول أنشودتها.
فهو هناك، في مدينة بعيدة، في حضن والديه، في اللحظات الأولى التي لا تُقاطع. ويحيط بها ستار اللحظة الخصوصية، وتعب المخاض، وانشغال الروح بالجديد القادم.
ونحن هنا، نحاول أن ننتظر بصبر من لم تُخلق فينا له القدرة.
نتفهم... نرأف بهما وبأنفسنا... ننتظر.
كنا نتحرّق شوقًا لصورة... مجرد صورة. وجه الصغير ينام، يدٌ تقبض على إصبع أبيه، قدم وردية ملفوفة بسوار المستشفى. كنا نترقّب، نحاول ألا نثقل اللحظة عليهم. نُداري شوقنا كما يُدارى السر الجميل في القلب.
جلست قرب النافذة، أعدّ الساعات ببطءٍ مُتعمّد، كأنني أخاف أن أتجاوز لحظةً ما دون أن أكون مستعدة لها.
أغمضتُ عينيّ... وإذا بي أراه. ليس آريس، بل أباه. يعود بي الزمن، سبعة وثلاثون عامًا إلى الوراء، لطفل خرج إلى الدنيا مبكرًا، قبل موعده بأسبوعين، تمامًا كما فعل ابنه اليوم. أتذكر ظهيرة الثالث من تشرين الأول، حين فاجأني نزول الماء بلا مقدمات. لم أشعر بألم، بل فقط بدهشة مبللة بالدموع. وحين وصلنا إلى المستشفى، وُلد فرات.
أتذكر يديّ المرتعشتين حين حملته أول مرة، ووجهه الصغير المتورد كزهرة صباح. لم أكن أصدق أنه لي، من دمي، من عمري. كان الزمن كله يتكوّر في حضني آنذاك، واليوم... ها هو، رجل، أب، يحمل ابنه في يديه، ويهاتفنا مطمئنًا. أتذكر يدي المرتجفتين وهما تمتدان نحوه، كأنني ألامس معجزة. كان صغيرًا هشًا، وكنت أمًا، مذهولة، كأن الزمن كله قد تكوّر في حضني آنذاك.
كان شبيهًا بي، قالوا يومها. واليوم يقولون إن آريس يشبه أباه. فهل أجد فيه ظلالي أيضًا؟ نبرةً من صوتي؟ لمحةً من عينيّ؟ ضحكةً وُرثت عني دون أن يعرف أنها كانت لي؟
ننظر إلى الهواتف، نراجع الرسائل، ولا شيء بعد. أحدّث نفسي: "صورة واحدة فقط يا بني... حتى وإن كانت باهتة، مشوشة، مرّت عبر أثير العالم كله… أريد أن أراه، فقط أراه".
ثم... جاءت اللحظة.
“وصلت الصورة”.
توقفت الدنيا في بيتنا. كل شيء صمت، وكأن العالم بأسره انحنى ليرى هذا المولود الجديد. بأيدٍ مرتعشة، فتحنا الصورة.
وهناك، كان آريس. ملفوفٌ كهديةٍ سماويةٍ لا تُقدّر، كأن الملائكة قد سلّمته إلينا من بين السحاب.
وجهه ساكنٌ كنسيم الفجر، نائمٌ في حضن وسادة من نور، كأن الله قد أرسله ليملأنا من جديد بالأمل.
بكيت فرحا... بكيت كما لم أفعل منذ زمن. دموعٌ من فرحٍ خالص، لا تشوبه سوى رعشة الحب.
كل المسافات انهارت بيننا، كل المدن، كل الجدران، اختُصرت في صورة.
مددت يدي نحو الشاشة، كأنني ألمسه، أضمّه، أُخبره من وراء الأثير: "ها نحنو، جدتك وجدك، نعدّ الأيام حتى نراك. لا تعرف كم نحبك، وكم انتظرناك، وكم من الدعاء طرزنا به اسمك قبل أن تُولد".
آريس... لم تكن مجرد حفيد. كنتَ بدايةً جديدة، ضوءًا آخر يتسلل إلى فسحة العمر، وردةً أزهرت في فصلٍ لم نكن نحسب له أن يزهر من جديد.
كنتَ هدية... هدية من نور.
***
سعد الراعي