نصوص أدبية

سنية عبد عون: صبي القُمامة

لن تتهاوى نجمة الصباح

رغم غيابها عند الغروب

ولا أماني المتعبين

 يخرج مبكرا صبي القُمامة.. أبن العشرة أعوام.. عند سماعه صوت المؤذن وبعد تناوله لكسرة خبز وكأس شاي يرتدي أسماله البالية.. لا تتوضح ملامح الوانها لكثرة اتساخها.. حافي القدمين.. تميل خصلات شعره المبعثرة لشقرة باهتة يحمل كيسه الكبير ليجمع فيه ما ترميه بعض الأسر في المدينة المجاورة لقريته.. يقصدها كل يوم سيرا على الاقدام..

جدته هي الأخرى كانت تجمع القُمامة.. ولكن شاخ جسدها وضعف بصرها لذا تكتفي بما يعود به الحفيد بعد أذان الغروب.. تجود بعض سيدات الحي بمنحه بقايا طعامهن.. كوجبة عشاء لذيذة له ولجدته.. الا ان الجدة تلفعت بصبرها وأوجاع روحها من أجله..

جدته لأبيه قد سجلت اسمه (مظلوم) في الوثائق الرسمية

 مظلوم.. الذي لم يرَ والده أبدا بل قامت جدته بتربيته.. وهو لم يبلغ سنته الأولى عند وفاة أبيه.. وقد تم تزويج أمه مكرهة لشيخ عجوز.. وقد أبدى هذا الشيخ رفضه القاطع لولدها مظلوم..

تعلق الفتى بجدته لأبيه رغم ظروفهما القاسية لكنهما تعودا على ذل الحياة ومرها وشظف العيش..

 المت بجدته حالة من الأعياء وعلى أثرها أصيب الفتى بالكآبة والسأم وأخذ يجهد نفسه بالعمل كي يجلب لها الدواء والغذاء دون ان يتناول هو سوى النزر القليل..

.. وبينما هو يتجول في أحد الأحياء الراقية في المدينة اذ يبهره بيتا مغلفا بالرخام المستورد.. ترتفع دكاته المرمرية عن الشارع العام.. فتدفعه قدماه الى اعتلاء الدكة الاولى فالثانية والثالثة.. يضع أصبعه دون ان يفكر على جرس الباب.. جفل الصبي وارتعدت أوصاله وهو يسمع من يقول له.. من أنت.. ؟؟ دون ان يرى أحدا.. !!

أنا مظلوم..

وماذا تريد.. ؟؟

عيناه شاخصتان نحو أعلى المبنى..

ينفتح الباب ويندهش مظلوم.. انه لم يحدث صريرا وأزيزا مثل باب دارهم..

يقابله وجه صبي بعمره.. ماذا تريد.. ؟؟

مظلوم.. أ.. أ.. أ.. لا أدري.. !!!

يسمع مظلوم صوتا نسائيا من الداخل.. هل هو الفلاح الذي طلبناه..

مظلوم.. بصوت خفيض نعم نعم

تخرج سيدة الدار وهي في غاية الوقار والجمال.. لكنك ما زلت صغيرا.. ؟ وما أدراك بشؤون ترتيب الحدائق وتنظيفها.. ؟؟

مظلوم.. في حالة ارباك شديد لكني مستعد لأي عمل تطلبين سيدتي وبالتجربة ستكونين راضية عن ترتيب حديقتكم..

سيدة الدار.. طيب لنجرب يا فتى ولكنك لن تتقاضى أجرا ان كان عملك رديئا..

مظلوم.. انا موافق

سيدة الدار.. غدا سيكون موعد استلام عملك.. ولا أود رؤيتك الا وأنت بكامل قيافتك وترتيبك ونظافتك..

تفرح الجدة بهذا العمل الجديد فعلى الأقل يتخلص حفيدها من أوساخ القُمامة ولن يلتقي مع أولاءك الصبيان الذين يسخرون منه ويرفضون ان يلعب معهم..

 في اليوم الثاني تقدم مظلوم واعتلى دكات المنزل الثلاث واضعا اصبعه على زر الجرس بإرادة لم يعهدها بنفسه من قبل

يخرج الصبي ويسمح له بالدخول.. تفاجأت سيدة الدار بهذا الفتى الجميل والأنيق ذو الملابس الجديدة التي ابتاعها مما يدخره من مصروفه ثم انه أغتسل بالصابون تحت حنفية دارهم وأمام دهشة جدته واستغرابها وهي التي كانت تحثه على الاغتسال دون ان يبالي بكلامها..

سيدة المنزل وهي مندهشة.. هل انت مظلوم.. ؟؟

نعم يا سيدتي جئت لاستلام عملي في حديقة داركم

 تتساءل السيدة مع نفسها عن السر الذي يغلف حياة هذا الصبي المسكين ولماذا ترميه الأقدار ان يترك دراسته ويتجه للعمل رغم صغر سنه.. فأشفقت عليه من السؤال..

يدخل مظلوم الى حديقة المنزل ويبذل أقصى جهده كي تبدو الحديقة على ما يرام.. يكسر الاغصان الزائدة ويجمع الحشائش الميتة ويركنها في احدى الزوايا.. ثم ليقوم بنقلها الى خارج الدار والمرأة تتابع عمله من نافذة المطبخ.. ثم يسقي شجيرات الحديقة بعناية فائقة وكأنه مزارع قديم.. يحاول تنظيف ما حول نخلة صغيرة الا ان أعذاقها متدلية لوفرة أثمارها ونضجها بأشهى أنواع التمر.. دون ان يمد يده..

وهي ما زالت تراقبه و قد أدهشتها رغبته بالعمل وسرعة خطواته وتفانيه.. والأشد غرابة أمانته وهو بهذا العمر ثم أنه لم يطلب منها مبلغا ماليا محددا..

وعند موعد الغداء بعثت له بما لذ وطاب من أصناف الطعام مع ولدها.. وقد تحدثت عنه لزوجها فنصحها ان تبقيه على عمله دائما

وجد الفتى صعوبة كبيرة ان ما يراه حقيقة وخيل له انه في عالم الأحلام والخيال وقد حصل على فرصة جيدة للعمل مع توفر وجبة غداء لم يرَ مثلها في حياته.. !!

انبهر الفتى بنوع الطعام وتعدد أصنافه.. لكنه تمنى ان تأكل جدته معه وتساءل مع نفسه.. يا ترى ماذا تأكل الجدة الان وهي لم يتم شفاءها بعد..

طرق باب المطبخ وطلب الأذن من السيدة ان يذهب الى جدته كي تأكل معه وأخبرها بمرض الجدة وحاجتها لهذا الطعام

سيدة الدار.. لكن بيت الجدة بعيد عنا..

مظلوم.. سوف استأجر دراجة هوائية ثم أعود بدون تأخير

سيدة الدار.. نظرت له بعين العطف وشعور الأمومة التي فقدها مبكرا وتمنت بداخلها ان تحضنه وتضمه لما يحمله من حنان تجاه جدته لكنها راعت مشاعر الفتى فربما لم يتعود عليها بعد

.. أجابته.. رافقتك السلامة.. ولكن بإمكانك ان تأخذ دراجة ولدنا

شعر بسعادة غامرة وهو يسابق الريح.. ولأول مرة يحدثه قلبه ان بإمكانه ان يتعلم القراءة والكتابة مع الصبي أبن السيدة.. فقد وجد فيه الصديق الطيب..

دخل مبتهجا بما يحمله للجدة من أصناف الطعام وستفرح الجدة كثيرا وتسترد عافيتها.. فتح غطاء الأناء وأخذ يشم رائحة الطعام ثم

نادى بأعلى صوته جدتي.. جدتي.. أحضرت لك طعاما لذيذا

لكنها لم تجبه أبدا.. أصيب الفتى بصدمة قوية وسقط الاناء من بين يديه وهو يجدها دون حراك..

آه يا جدتي لماذا كُتب علينا ان نجمع قُمامة الآخرين وكان ذلك سببا لمرضك ولموتك..

وقد يكتب التأريخُ

عن قرابين الفقر والجوع

وعن سراق الأمل المطعون

 لا توقظوا عمق أسئلتي

ودعوني أغفو بأحلامي الكاذبة

***

قصة قصيرة:

سنية عبد عون رشو

 1 / 10 / 2024

 

في نصوص اليوم