نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: عودٌ طريّ.هل يورق بعد كسر؟
«شعبي العزيز، غداً إن شاء الله ستخترق الحدود، غداً إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غداً إن شاء الله ستطؤون أرضاً من أراضيكم وستلمسون رملاً من رمالكم وستقبلون أرضاً من وطنكم العزيز"
إذا كانت هذه الكلمات هي انطلاق عبقرية، شرارة عزم وتصميم، يوم دعا ملك البلاد عقول المغاربة الواعية لتقتحم أرضا طال عنها غيابهم وهي قطعة منهم، مصير حاضرهم ومستقبلهم، وعليهم أن يصلوا معها الرحم ليسترجعوا خيرهم الذي نهبه مستعمر، وفيه يطمع جار نصاب حقير، لا يوقر حرمة أو يحترم جوارا، فإنها بالنسبة لي كطفلة كنتها لا تعي ما حولها،كانت لي فرحة طاغية هي ما يطول المحيطين بي، حبا في الصدور يجيش،ونشيدا على الأفواه يردده الصغار والكبار ..
هي فرحة وأدها في عيوني، وسفكها في صدري لئيم حقير، ذئب بشري، صورته لازالت تؤرقني بعذاب،تلازمني بذكرى لأخطر جريمة يمكن أن تلحق طفلة بريئة، عند الصدمة وبعد الصدمة،قلق لا يمكن أن يمحوه زمن،بوسواس قهري يلازم نفسها ..
عشرون عاما قد مرت كلكلا طاغيا ثقيلا ثانية بعد أخرى بلا نسيان حتى في أدق اللحظات من حياتي، إذ في كل لحظة لا أزداد إلا وعيا بما وقع، واحتقارا لذئاب بين الناس تحوم بِشَرٍّ ..
كانت الشوارع هتافات ونداءات عارمة من صغير وكبير، غبطة تكتسح الدروب و الطرقات، موظفين وعمالا، مثقفين وغير مثقفين، الدور والأحياء،الدكاكين والمتاجر، المعامل والمصانع، الجميع تغمره السعادة والاستعداد،والتضحية ما يملأ النفوس المؤمنة بقضية وطنية مقدسة قدم المغاربة عن بكرة أبيهم قسما سرمديا خالدا بعدم التنازل عنها، خلفا عن سلف،ومن المهد الى اللحد، ولئن تبدى توجس هيمن على بعض المتشككين فسرعان ما تبدد بحماس منقطع النظير حين طغى الإقبال على التسجيل للمساهمة في ثورة التحرير واستوعب الناس فلسفة المسيرة وأهدافها .
كنت أتمسك بيد أمي وأنا مشدوهة بما أرى من حولي، كانت السويقة القريبة من حينا والتي قلما تكون غاصة يوم الاثنين صباحا تعج بالزوار ولا حديث الا على المسيرة الخضراء التي ستنطلق بعشر سكان الوطن ذكورا وإناثا كما كنت أسمع دون أن أقدر العدد أو أستوعب ضخامته ..
قبل يومي هذا لم أكن أعرف معنى التحرش والاغتصاب،كنا أطفالا نلعب في الحي ذكورا وإناثا، نتجارى، نتسابق، نتعانق وقد نتخاصم لكن لا أحد يفكر في الإساءة لغيره، فبراءتنا تتجلى في كل مانقوم به كأطفال.. كما لا أحد يفكر في الإساءة الينا ..
كانت أمي منشغلة بباب السويقة في الحديث مع نسوة من الحي وأنا مشدوهة بحماس الشباب والأطفال الذين لا يتحدثون الا عن المسيرة،أو يرددون أناشيدها مع التلفزة والمحطات الاذاعية لا انتبه لخطواتي وهي تبتعد قليلا عن أمي ..
يد قوية ترفعني من إبطي الأيمن وتدخل بي تحت سقيفة، ترميني فوق أعمدة متلاشية ثم تشرع تخلع تباني ..
هول المفاجأة والصدمة صار رعبا هو ما أخرسني بصمت، فعل بي الرجل مافعل بعد أن وضع لصاقا على فمي، وأوثق قدمي مع يدي وما لبث أن تركني تحت دثار سميك من قلع ثم انصرف ..
كنت أسمع نداءات أمي ونسوة أُخَر، والكل عني يبحث ولا استطيع الرد،عيوني تدرف ماءها غزيزا، وأنفاسي مخنوقة داخل صدري .
لم يكن عمري يسمح لي بحركة قادرة على فك وثاقي ولا عقلي يستوعب ما يقع،طفلة في سنتها الأولى بالمدرسة، أتنفس فقرا في حي عشوائي، اسكن براكة قصديرية لا يمكن أن نلجها الا بعد القفزعلى قنوات مكسورة لمياه الصرف الصحي .. والدي به كسر في الركبة بعد سقوط من سرير بِناء لا يغادرحصيرة عليها هيدورة خروف هي فراشه بالليل والنهار، تشاركه فيها أمي أذا حان برد، لا يمكن أن أعرف نفسي هل كنت جميلة أم قبيحة فما ينتجه المحيط الذي أسكنه غير البشاعة،الفقر والقبح ..
خمسة أيام و الرجل يأتيني مرتين في اليوم، يقدم لي ماء وقليلا من اكل، يفعل بي ما يريد ثم يتركني لدموعي وغصات صدري ..
كلما بكيت وتوسلت، كان عقابي مزيدا من الاغتصاب، أتألم، وفي مكاني أتبول ..
سلوك متوحش، يضاعف قهري من ابتعادي عن أمي وأبي ..
ذات يوم بليل أتاني شاب غير الذئب الذي اغتصبني، حسسني بقليل من السعادة،بل بقوة السعادة وهو يفك رباطي، فقد توهمت وصول الفرج، تبسمت في وجهه، وضعني في شواري ثم رماني فوق حصان وانطلق ..
طول الطريق، فشلي، وتفتيت قوتي بعذاب الوضع ما جعلني أغفو الى أن سمعت صاحب الحصان يقول لي:
ـ أنت كنت بعيدة كثيرا عن بيتكم لهذا يلزم أن تركبي القطار مع أحد أعواني للعودة الى أمك ..
أستغربت،متى تم ترحيلي عن مكان كان قد رماني فيه الذئب الذي سرقني؟
يوم وليلة والقطار يدك الأرض الى أن وصلنا محطة قطار في قرية
أنزلني مرافقي، لكن ما توجست منه أني لم أكن وحيدة، كنا ست بنات وعشرة ذكور أترابا في نفس العمرنزلوا من عربات متفرقة، تم حشرنا مع دموعنا وغصاتنا في سيارة كبيرة يسوقها جندي صحراوي بلباس عسكري يغطي وجهه بلثام أسود لا تظهرمنه غير عيون تقذف شررا،كان يرافقه في القيادة جندي آخر مسلح ببندقية يرتدي نفس اللباس لا يختلفان الا في لون اللثام بين أسود وأزرق الى أن وجدنا نفوسنا نخترق صحراء شاسعة بعضنا قد غيبته نومة والبعض الآخر قد هده جوع ..
لا أحد منا كان يعرف اللهجة التي كان الرجلان يتكلمان بها غير أن كلمات كانت تتردد بتكرار على ألسنتهم، أم دريكة، بشار، تندوف ..
في هذه أنزلونا في مخيم، نصفنا كان غائبا عن وعيه، سقونا ماء وقدموا لنا حليبا وثمرا ..
غاب عنا الذكور وبقينا نحن الاناث وحدنا، لا نعرف لنا مصيرا بل لا نعرف حتى نفوسنا فنعي ماذا نريد وماذا يحاك ضدنا؟.. لكن التجربة التي لايمكن أن تنمحي من عقلي أننا صرنا بؤرة اغتصاب يومي،هوذا الذي كوَّن إحساسنا بالعار وشعورنا بالذنب والاحتقار، طفلات لاقدرة لنا على المواجهة ..
كنا جميعا والينا قد انضافت أخريات لا نبحث الا عن أمهاتنا ولا نتمنى الا لحظة بين أحضانهن، كنا نساق لمخيمات في الخلاء واحدة بعد آخرى صامتات،ويا ويل من قطرت دمعا أو شكت تعبا فمصيرها الضرب والاغتصاب العنيف لجنديين أو أكثر كل منهم يأتي صبية من جهة ..
ثلاث طفلات صغيرات منا قد فقدن الحياة تحت عنف الاغتصاب،
كل مخيم كنا نتلقى فيه أسئلة من رجال غلاظ شداد، وجوههم متجهمة عبوس، سباب وغضب، ويجب أن تكون الإجابة منا على شكل موحد حسب ما يتم تلقينه إلينا، كان يجب أن نحفظ أسماء قبائل ودواويروشيوخ لندعي أننا منهم خطفنا جنود مغاربة من بين أحضان أمهاتنا ورموننا على الحدود الجزائرية ..
خرجنا صغيرات ونسينا التفاصيل..
في بعض المخيمات كان يفرض علينا نسيان لهجة كلامنا والنطق بلهجة قالوا أنها لغة الصحراء الحرة واسمها الحسانية وعلينا أن ننسى لغة علمتها فرنسا لآبائنا وأجدادنا ..
بين حين وآخر كنا نحشر في سيارات رباعية الدفع ويتم تسفيرنا الى مسافة بعيدة عن تندوف ثم تقلنا في جوف الليل وتحت أجنحة الظلام طائرة عسكرية الى الجزائر العاصمة فيفرض علينا خلع ملابسنا والاستحمام بماء في صهاريج يتم صبه من الطائرة، والدخول عاريات الى أندية خاصة بالرعايا الفرنسيين و الشيوخ الضباط من الجزائريين للرقص والتعري والجنس، كان روادها شيوخا يعشقون النوم مع طفلات صغيرات .. كنا نقضي ليال بنهاراتها الى أن ينهار الشيوخ وينامون على أرائك هزازة، كانت كل من أرادت منا أن تنجو من الاغتصاب الجماعي بعد العودة الى المخيمات عليها أن تجني أكثر الأموال التي لم يكن لنا فيها أي نصيب ..كثيرا ماساءلت نفسي بعد أن كبرت ووعيت أكثر:
أية متعة يجدها الشيوخ في طفلات صغيرات هزيلات يؤرقهن الاغتصاب واليتم القسري ؟..
أكثرالفتيات صرن حاملات بدءا من الحادية عشرة من عمرهن، كان الوليد الذكر يؤخذ بعد الوضع مباشرة أما البنت فالى أن تبلغ الأربعين يوما .. حين يبلغ الأطفال الخامسة يساقون الى دولة اسمها كوبا عبر مطارات الجزائر، أما البنات فتوضع الذميمات مع الذكور للتدريب على الأعمال العسكرية محليا تحت إشراف ضباط من الجزائر وإيران أو البيع للامهات العاقرات أو يدفعن خادمات في البيوت الجزائرية أو يتم تصديرهن الى أوروبا الشرقية كما كان يتناهى الى أسماعنا، في حين فان الجميلات يتم الاحتفاظ بهن في تندوف ولا واحدة منا قد تعرف لها ابنا أوبنتا بل أصلا كنا لا نعرف لهم أبا ..
كانت تجربة قاسية، عنيفة، أزلية لانعرف متى قد تبتدئ ومتى ستنتهي، كانت السيطرة على مشاعرنا تتم بكل الطرق، بلاقيم ولا أخلاق، ولا كرامة إنسانية المهم ان ننضبط لما يريدون، ان نمتثل لكل سيطرة ترضيهم ولها قد خططوا شرعة ومنهاجا .. كوابيس مقيتة ومرعبة قد عشناها ..
ذات ليلة كنا نتهيا للاحتفال بانتصار ادعوا أن الجزائر قد حققته على المغرب في إحدى المؤتمرات وقد صادف زيارة بعض الشباب الذين كانوا أبواقا للدعاية الجزائرية في أمريكا الجنوبية، كان صحفي يتكلم الاسبانية ويعاني بتلعثم مع العربية يرافق أحدهم ما أن أبصرني حتى تسمر في مكانه وأطلق صفيرة إعجاب، يومها أدركت أني جميلة بل تأكدت من ذلك فكثيرات ممن كن معي ومن الجنود والشيوخ الفرنسيين الذين ناموا معي في الجزائر كانوا يتاسفون على جمالي الذي يذوي في الاغتصاب بين الهمج في تندوف..
تقدم الشاب مني، رفع يدي الى شفتيه وقبلها أحتراما ثم قال:
ـ أنت رائعة الجمال مارأيك لو ترافقينني الى وطني ؟
لم أتردد في القبول وكيف لي أن أرفض وأنا سأترك بؤرة نتنة؛
فكم من مرة توسلت شيخا اختلى بي أن يتبناني أو يحررني لأشتغل عنده خادمة حتى أنقد نفسي من وضع صار سياطا بالليل والنهار ..
مرة قال لي شيخ فرنسي:
ـ لوبقيت في إحدى المدن المغربية في الصحراء الغربية لكنت أحسن حالا، هنا الناس كراغلة أجلاف لا ذمة لهم ولا عهد
بكيت وقلت له:
أنا لا أعرف عما تتحدث عنه انا لست صحراوية أنا من مدينة في شمال المغرب
تنبه الشيخ الى عيون تراقبه عبر إحدى النوافذ فانكتم وشرع يقبلني
طلب مني الصحفي اسمي فزودته باسم منح لي بعد وصولي الى تندوف "أريام بنت المداح "
قال وعياناه تكادان تلتهمان وجهي:
ـ أذكريني جيدا سأعود اليك قريبا !! ..
ثم أخذ لي صورأ بآلة فتوغرافية كانت معه ..
بعد شهر كنت لأول مرة أحمل بطاقة وطنية وجواز سفر بولونيين تحت اسم "ماريا فرنانديز ثم أركب طائرة الى الاوركواي ..
وقد علمت من بعد أن عسكر تندوف قد قايضوني بمقالات يكتبها الصحفي ضد المغرب ويتم توزيعها على دول أميركا الجنوبية ..
إن المهم عندهم أن يذكر المغرب بسوء ويعلنون انهزامه ولو كذبا ..
أخيرا وجدت رجلا ينقدني من براثن القهر والفسق، وخيام الذل والعار، يحبني لذاتي كأنثى بجمال موهوب لم يحركه فيَّ ماضٍ مخٍز، تعلق بي وأقسم أن يمحو كل صورة اغتصبت طفولتي وخدشت براءتي، ساعدني على أن أعيش الحياة ..
لأول مرة أحسست أني أمارس دوري كأنثى،وأني حقا بين أحضان رجل يعاملني كامرأة، لاذئب ينهش جسدي ..
قدمني لطبيب نفسي مكنني من أن أستعيد بعضا من توازني وأخوض تجارب حياتي من جديد بعيدا عن الرذائل مستمتعة بوجودي معه دون إحساس بذنب أو عار مما مضى من حياتي ..
ـ عليك ان تحبي نفسك، ربما منك قد سقطت بتلات ورد فعليك أن تجدديها بإقبال على الحياة،أن تقبليها بكل براءة الطفولة التي يجب ان تستعيديها بلا أفكار رجعية.. ثقي أن عودك طري سيبرعم ويورق من جديد ..
تزوجني بعد ستة اشهر من إقامتي معه وكانت هديته مع خاتم زواجي همسة في مسامعي:
استعدي لنسافر الى وطنك بحثا عن والديك..
عانقته، ووجيب صدري يضرب كطبول الليالي في رمضان خلف أبواب المنازل التقليدية ..
هل أرتاح؟ وهل أدفن فترة من صباي بنسيان إذا ما دفنت وجهي في صدر أمي عند اللقاء؟؟ !!..
***
محمد الدرقاوي المغرب