نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: كلنا تمساح واحد...

تعودت أن تجلس على صخرة عالية تأتيها مصطبرة على مشقة الصعود كلما وفدت على المدينة وضاقت بحركتها الفوضوية، خدوش بعد أخرى لا تزداد الا تفاقما من سلوكات بدوية: جهل، قسوة،انانية وتعد ممقوت، سمع يتلوث بصياحات وسلوكات بلا معنى، نزاعات لا تخمد لها نار في مكان الا وتشب في آخر..

"عليَّ قداختلطت الحناجر فماعدت أميز بين قريبها وبعيدها، إنسها وحيوانها" ..

تمد البصر بعد أن تتنفس بقوة فتعب ما استطاعت له قدرة من هواء

ـ "ليتني أمتلك إحساسا أقوى لأتذوق بطعم آخر هذا الواقع الذي يلفني وأمامي يكشف اختناق المدى .."

تشرئب برأسها الى الخلف، لا تملك قدرة على تبين من يتحرك خلفها، فالنمل ما يدب في كل الطرقات، حتى الشوارع ضاقت باستغلال للملك العمومي فصارت أشبه بأسواق البوادي النائية فوضى بلا نظام والغلبة للقوي المتجبر.. الكل قد ارتاح الى الأوساخ والاكتضاض وفوضى المرور، والكل يريد أن يهبر قطعة من أرض بلا حرج أو خوف من سلطة قد قدمت استقالتها ؛ حين تعود للنظر أمامها لا تجد غير ضباب كثيف من أراضي شاسعة نبتت عشوائياتها أكواخا بلا نظام يتبخر نداها بعد ليلة من رطوبة، ومرميات متنوعة حتى عادت مطارح للقمامة ..

ـ"أبخرة نتانتها تزكم أنوف الفارين،قلة تشكو وتتذمر " ..

لم تلجأ الى الصخرة الا بعد ان تلوث منها السمع والبصر واختنق الصدر، فرغم قوة الضباب الضاغط على نفسها فالحقيقة هي اهون مما يثقب مسامعها، ويكسر أضلاعها، يقدي بصرها بتناقضات ربما ألفها غيرها حتى صارت من جزيئات حقيقتهم اما هي بما شبت عليه وبه قد بنت مدماك النفس من صباها رهافة حس تتدثر بالأناقة وتكتحل بالجمال فقد ضاقت بما أمسى يقمطها ، فصارت لها أرقا، عذابا ولوعة وجود ..

صديقة من بلاد مشرقية توقفت عن زيارتها عاملتها بفكرة قاتلة تربى عليها العربي و في أبنائه قد دقها في عقولهم بوتد، متوارثة بإحياء يتسلمها خلف عن سلف:

" من الحزم سوء الظن.. كل انسان متهم وهيهات ان يثبت براءته"

قالت لها الصديقة مرة وقد أغرتها بمرافقتها الى أعلى الصخرة:

ـ "حقيقة لم ابلغها كما بلغها بعض من قومي من أينعت لهم رؤوس بعد أن صاروا أكثر امتلاكا لحكمة الاستقبال، أنا معك هنا كما حدث لي هناك تختلط علي إشكالات المعرفة لاني لم أعايشها كما تعايشينها انت هنا وعنها كنتُ أنا بعيدة خارج ذاتي .".

يوميا وهي تطل من أعلى الصخرة كانت تجد جثثا مرمية وعليها أثر من التعذيب فظيع، كانت تلاحظ أن قريبا من الساحة يوجد السجن المدني، ومركز الشرطة ومقبرة شاسعة قديمة، غير بعيد عنها فهناك المجزرة البلدية وسوق الجملة للسمك ..

الآن تدرك عقلية الانتقام كسلاح بدوي وجدت السلطة ضالتها فيه لما كانت تحكيه صديقتها ..

" إن التعذيب ظاهرة ممنهجة في سجون أوطاننا ووجود المجرزة ليس عبثا، هو تستر عما يتم التخلص منه ممن ماتوا تحت التعذيب مع بقايا وفضلات الذبائح ماينتهي بدفنه وما يطمس بحرق مع ما تحمله المستشفيات الكبيرة من بقايا العمليات الجراحية ..

كما لسوق السمك مهمته في طمس أكثر من رائحة،كلنا من المحيط الى الخليج تمساح واحد هو اثر ما يحدث في دواخلنا.."

عاودت النظر أمامها، متوهمة أنها ستلفي خضرة أو أثرا من جمال ولو في أصيص ورد في متجر او شباك قد يجذب نفوسا كما كانت المدينة تشد عقولا وصدورا، أفكارا وأنامل ساحرة جذبت الى نزهات ورحلات وعيونا بابداعات وأحاسيس خرَّقت نغمات وألحانا. لا شيء.. القبح إصرارهيمنة هو ما عاد يلتطم به البصروكأنه تخطيط ممن هجمواعلى المدينة في انتقام مدروس..فهم ما تعودوا من الاستعمارإلا أن يشحنهم في عربات لتأديب أهل المدينة كلما أعلنت المدينة العصيان على قرارات الحماية ؟ ..ذاك ماضيهم ..

تذكر إحدى رحلات السياحة حين كانت طالبة بالثانوي كيف كانت تتغنى بصدر الفرحة والاغتباط لما يسكن الضلوع من حب للمدينة وهي ترفل كعروسة بين بساتين تجللها الخضرة،وسقايات تغرد سقسقات،وأسواق راقية تعرض ما لذ وأغرى، وسكانها في نعيم يرفلون بلا خوف ولا تأويل ولا سوء ظن،أو خشية من تربص حاقد حسود:

حب الرمان في السما دار دوالي

مولاتو هايجة ومولاه زهواني

شوفوا الهايجة دايرة زوج حناني

والثالثة بالليكات

نهبطو للويدان

نشربو شي كيسان

نعنقو شي نهدان

الالا و الرمان سباني ؟

"ـ عاش آبائي وأجدادي،وقد فحصوا كل أموردنياهم،تأملوا الخالق في دواخلهم، وعوا حقيقته فزودهم بقدرة التحليل وكمال الذوق، وروح عالية من السكينة بلاغرور، امتلكوا حقيقة العالم بلاشر فعاشوا بساطة الواقع بلا تعقيد "..

تتنهد حسرة متراجعة الى نفسها:

ـ" زمن قد تستغرقه الحياة ليتعلم النمل الجديد أسرار حكمة الحضارة .. فنمل اليوم لم يقتنع الا بسياسة التسطيح وماعادت له بالتعمق قدرة،فالتعمق طريق الله، أما طريق الضحالة فمسارات لشيطان تملك وحقق وعده .."

"اغراهم بالقتل ففاقوا وصيته بلاخوف، ضربوا عرض الحائط بحكمة كم ظلت على كاهل من فروا من طغيان الشمال والشرق وبها قد تسلحوا لبناء حضارة كم عمرت وأينعت ولها صار في العالم صيت وهدير .."

 "الخوف من الله بداية المعرفة وهي طريق الايمان السليم،

والخوف من الشيطان تذلل ممقوت لكل ذي نفوذ.. فأمسوا بلا حصن ...

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم