شهادات ومذكرات

علي حسين: عندما تتحول الكتب إلى لافتات توضع في طريق حياتنا

من بين الكتب التي كنت أقتنيها في سنواتي الأولى، كان هنالك عدد من كتب سلسلة تسمى " أولادنا "، وقد احتوت تلك السلسلة على ملخصات لروايات عالمية مثل رواية جول فيرن من الأرض إلى القمر، وأوليفر تويست لديكنز،، وحصان طروادة، وحي بني يقظان، ورواية ثيربانتس دون كيخوته، وكنت أحرص على اقتناء أعداد السلسلة التي تصل الى المكتبة كل شهر، وكما هي العادة أندمج مع أحداث الرواية وأعيش مع أبطالها أدق التفاصيل. في الغلاف الأخير لكتاب دون كيشوت وقعت عيناي على عبارة وضعها المترجم عادل غضبان )الفارس الباحث عن العدالة). المرة الأولى التي أسمع بمثل هذه الكلمة ( العدالة) ورحت أسأل نفسي: هل العدالة شيء موجود وملوس، يمكن للواحد منا أن يبحث عنه ويحصل عليه؟.
في قراءاتي المتقدمة أكتشفت إن هذا السؤال نفسه حاول فيلسوف عاش عام 427 قبل الميلاد، أسمه إفلاطون أن يناقشه، فقد كان موت أستاذه سقراط بالنسبة له التعبير الأكثر حدة عن التناقض بين القانون والعدالة، فكان أول عمل قام به، أن نشر مرافعة أستاذه عن العدل التي يرد فيها سقراط على أحد تلامذته " تريماخوس " حين كان يقول العدالة ليست سوى براءة سخيفة، وإن القانون مسألة تتعلق بحسن التصرف، إلا أن العدالة بالنسبة الى سقراط ينبغي أن تكون شيئاً من الأشياء التي يجب أن يحبها الإنسان لذاتها، وإن هذه العدالة هي واحدة لاتتجزأ، ونجد افلاطون يقول في كتابه الجمهورية على لسان سقراط: " ألسنا نقول أن ثمة عدالة ملائمة لإنسان بعينه، وأن هناك عدالة آخرى تصلح لمدينة بأسرها، لكنها العدالة أيها السادة تقوم على أداء الإنسان لوظائفه وفقا لتصوره، وهي عدالة مرتبطة بشكل مباشر مع العدالة العامّة ".
ظلت شخصية دون كيخوته تمثل الإنسان الذي تتنازعه الرغبة في تحقيق العدالة والسلام، تلك القيم البسيطة التي كان يرى فيها الاسباني " ميغيل دي ثيربانتس " الحق الطبيعي للإنسان في هذه الحياة، لكنه حق يحتاج الى من يسعى إليه فهو مثل: " النجم البعيد البعيد الذي لا يني الإنسان- الإنسان الحقيقي طبعاً- يحاول الوصول إليه معتبراً إياه حقه الطبيعي ".
في الخامسة والعشرين من عمري أستطعت أن أرى بوضوح أهمية رواية ثيربانتس، كانت الترجمة التي قرأتها فيما بعد لعبد الرحمن بدوي، وبالطبع مثل معظم القراء، كنت أسرع من صفحة إلى صفحة، وقد استحوذ عليَّ التشويق. لم أكن أشعر بانني أقرأ بدافع المعرفة، كما نقرأ أحياناً العديد من الكتب، بل كنت أقرأ باستمتاع كبير، وكنت أسأل وأنا أتابع أبطال الرواية في مغامراتهم وأحلامهم وحياتهم اليومية: ما معنى العالم؟ الى أي مدى يمكن لنا كافراد أن تمتد أحلامنا. وبينما أتابع الأحداث التي يرويها سيرفانتيس )المغامرات الوهمية، حكايات الحب، البحث عن العدالة، الحلم بحياة آخرى) كنت أشعر أن الاحداث تدور بالقرب مني، وعرفت وأنا التهم صفحات الكتاب معنى الفرح الإنساني، وإرادة الحياة، وقوة الأمل، وحقيقة الحب والعدالة. وكنت أثناء قراءتي الاخيرة بترجمة للرواية سليمان العطار ، كنت أفكر بذلك الصبي الذي إلتقط الرواية المصورة ذات يوم بعيد، لكي يضيف كتاباً جديداً الى قائمة قراءاته، وحاولت وأنا أتابع مصائر الأبطال إستعادة ذلك الصبي المتفائل، والذي مايزال يظن أن الكتب تستطيع أن تريه كل شيء.
في كتابها " الهامسون بالكتب " تكشف لنا دونالين ميلر، انه ما من نشاط إنساني آخر أكثر ايجابية على الإنسان ومعرفته بالحياة مثل القراءة، وما من حالة انسانية يعيشها الإنسان أجمل من حالة التعاطف مع مؤلف الكتاب، بعد أن انتهيت من القراءة الثانية لدون كيخوته شعرت بالتعاطف مع ثيربانتس، فقد أثرت بي تفاصيل حياته التي عاشها. واذا ما عدت اليوم بذاكرتي الى الأيام الاولى التي اكتشفت فيها رواية ثيربانتيس، أراني أطوف بنظراتي من ورقة الى ورقة آخرى وأنا أقرأ قصة مغامرة دون كيخوته ورفيقه سانشو، وكأني قد أعيش واقعا كان بإمكاني أن ألمحه بمجرد أن أغمض عيني، ولم يهيء لي أي كاتب، باستثناء دستويفسكي هذه المتعة الهائلة في الأدب.
يتأمل اندي ميلر في كتابه الممتع " سنة القراءة الخطيرة " كيف غيّرت القراءة حياته، وكيف أن اسماء هذه الكتب تحولت الى لافتات وضعت في طريق حياته. لافتات كل واحدة منها ترمز الى الشخصية التي كان عليها أثناء قراءة الكتاب.
في مقدمة رواية دون كيخوته يكتب المؤلف ميجيل دي ثيربانتس: " أيها القارئ الخالي البال، صدقني، إذا قلت لك إنني وددت أن يكون هذا الكتاب بلين ثمار الفكر أجمل وأبرع كتاب ".
منذ أكثر من أربعمئة عام قرر رجل يعيش في قرية من قرى إقليم لامنشا في اسبانيا. لم يتزوج، نحيف طويل يبلغ من العمر خمسين عاماً اسمه الفونسو كيخادا، أن يكون فارسا واتخذ لنفسه اسما " دون كيخوته دو لامانش"، وبعد أن قرأ الكثير من كتب الفروسية فكر أن يعيد سيرة هؤلاء الفرسان، ومن أجل ان يستعد للمهمة استخرج من ركن خفي في البيت سلاحاً قديما متآكلاً، وأتخذ من قطعة جلد عتيقة درعاً له، واختلس من حلاق القرية طبقا نحاسياً ليصنع منه خوذة، ولكي تكتمل الصورة لا بد أن تكون له امرأة تعشقه، فإتخذ من الفلاحة دولسينا عشيقة في الخيال، هو عاشق لأن: " الفرسان مرغمون على أن يكونوا كذلك "، ثم تذكر إنه لكي يصبح فارساً جولاً ينبغي أن يتخذ له تابعاً، فاستطاع أن يغوي فلاحاً ساذجاً هو سانشو بانثا لكي يكون تابعاً وحاملاً لشعاره، شأن أتباع الفرسان في قصص الفروسية، ويعده أن يجعله حاكماً على إحدى الجزر. يخرج الفارس وتابعه إلى الدنيا العريضة، وأثناء خروجهما تصادفهما أحداث عادية، إلا أن خيال الفارس يحولها الى مغامرات، فالمعركة مع طواحين الهواء تَوهمها حرب ضروس مع الشياطين، والمرأة المسافرة مع أفراد حمايتها، يزين له خياله إنها مخطوفة والواجب يحتم عليه تخليصها، وقطيع الأغنام يتحول الى جيش عظيم، وبعد حوادث عديدة يتعرض لها دون كيخوته لايريد أن يُدرك الحقيقة، إن زمن الفروسية انتهى، فهو يعتقد أن خصومه من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد، فقد مسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء، والفرسان المحاربين الى أغنام! ومع تكرار المآسي لايريد الفارس أن يتعظ ولا يستمع الى تحذيرات تابعه، ولا إلى نصائح قسيس القرية، ولا لنداءات الحلاق لتستمر حياته على هذا الشكل، ويسقط يوما صريع المرض، ليعلن الطبيب أن لاشفاء له، وتملأ الكآبة نفوس أصدقائه، ويقرر تابعه سانشو أن لايفارق فراش سيده المريض، وفي لحظة من لحظات الصحو يعترف دون كيخوته إن الغشاوة رفعت عن عينيه، وشفي من الجنون الذي أصابه، فهو الآن ليس الفارس الجوال دون كيخوته وإنما عاد الى حقيقته الأولى الونسو كيخاتا، الرجل الطيب كما عرفه أهل قريته، ونراه يقول لصديقه الحلاق: " أيها السيد الحلاق، كم هو أعمى من لايرى من خلال نسيج الغربال "، بعدها يصاب بحالة غيبوبة ليفارق الحياة، لينتهي المؤلف من كتابه عام 1615 وليموت ثيربانتس أيضاً بعد شهور.
على سرير مرضه كان الروائي مارسيل بروست يضع رواية دون كيشوت بالقرب من رأسه يعيد قراءتها بين الحين والآخر يكتب في دفتر يومياته: " لاتوجد في رواية ثيربانتس أي واقعة ليست خيالية.. توجد رواية بلا إلتباس، لم يكتبها ليتكلم عن حياته، بل من أجل أن يوضح لعيون القراء حياتهم هم ".
تخبرنا سيرة المؤلف " ميغيل دي ثيربانتس " انه ولد عام 1547، لم تتح له ظروف عائلته المادية أن يكمل دراسته فالتحق بالجيش يحارب الأتراك، وأن يده اليسرى عطلت عن العمل، وإنه أسر من قبل المغاربة وبقى في السجن خمس سنوات، بعدها يعود الى اسبانيا يعاني من الفقر والاهمال، كتب قصصاً قصيرة ومسرحيات لم تحظ بالاهتمام، بدأ بنشر الجزء الاول من رواية دون كيشوت عام 1908 بعد أن أمضى ثماني سنوات في كتابتها، ثم ظهر الجزء الثاني عام 1615، وفي السنة التالية لنشر الكتاب توفي ثيربانتس في دير للراهبات في مدريد.
في كتابه " الكرامة الانسانية " يكتب ميجل أونامونو إن رواية دون كيخوته : " بمثابة الأنجيل الأسباني الحقيقي، وإن سيدنا دون كيشوت هوالمسيح الحقيقي ".، إن قراءة دون كيخوته متعة لاتنتهي، وإنها مثلما يؤكد الناقد الانكليزي " هارولد بلوم " ستظل أفضل رواية وأول الروايات جميعاً ".
بعد أن أنهيت القراءة الثالثة لدون كيخوته أيقنت أن هناك جوانب في نفس كل قارئ لن يعرفها معرفة كاملة إلا حين يتعرف بشكل حقيقي على دون كيخوتهت وسانشو.
في عام 1937، وقبل سنة من وفاته، كان هوسرل يلقي محاضرة حول ديكارت حين سأله أحد الحضور: كيف يرى جذور الأزمة التي تمر بها أوروبا الآن؟ صمت الفيلسوف الالماني قليلاً، ثم قال لمحدثه: أنصحك أن تقرأ ثيربانتس، ربما تجد الإجابة في ثنايا حوارات دون كيخوته، كان الفيلسوف الظاهراتي هوسرل قد تحاور من قبل مع تلميذه هايدعرر حول الفلسفة والأدب، وكان التلميذ يعتقد إن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الانسان، وإن هذه الكينونة انما تم الكشف عنها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوروبية، منذ أن قرر ثيربانتس أن يخوض المغامرة البشرية.
كيف نحكم على رواية ثيربانتس إذن؟ لنستمع الى دون كيخوته يقول لتابعه: " أصغ يا سانشو، هناك ضربان من الجمال أحدهما يخص الروح والآخر الجسد.أما جمال الروح فيفوق الجسد في معرفة الحشمة، والسلوك، والتربية الصالحة، وسماحة العقل، وكل هذه الفضائل يمكن أن تتجمع في إنسان قبيح ".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم