شهادات ومذكرات

علي حسين: نعوم تشومسكي.. المثقف عندما يمتهن الصدق

قبل ايام دخل المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي إلى المستشفى في البرازيل بعد إصابته بسكتة دماغية حادة.

وقالت زوجته فاليريا تشومسكي إن زوجها البالغ من العمر 95 عامًا إن تشومسكى يعاني من صعوبة في التحدث

واضافت فاليريا للصحافة إن زوجها يتابع الأخبار وعندما يرى صور الحرب في غزة يرفع ذراعه اليسرى في إشارة رثاء وغضب.

واليوم صباحا غصت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر رحيل المفكر الشهير، وعند البحث في ابرز وكالات الأنباء العالمية لم اعثر على اي خبر عن وفاة تشومسكي، كما ان الخبر لم يؤكد من قبل المقربين منه

يوصف نعوم تشومسكي بانه اشهر فيلسوف معاصر، لكنه يسخر من هذا الوصف ويقول انه لغوي صنع شهرته من اللغة التي يرى انها عملية ابداعية جعلت من البشر "مبدعون وخلاقون" باستمرار .. المفكر المشاغب كما تصفه وسائل الاعلام، بشعره الابيض المعتنى بتسريحه وقمصتلة الكتان، وتلك اللمعة الطفولية المشاغبة في عينيه، منذ ان قرر في العاشرة من عمره ان يكتب مقالات لمجلة المدرسة يدافع فيها عن الفوضويين في الحرب الاهلية الاسبانية، الصبي الذي كان يتمرد على سلطة العائلة فيهرب بالقطار الى نيويورك حيث يمضي بضعة ايام يساعده عمه في كشك الصحف، ويستمع الى حوارات ونقاشات العمال والطلبة حول الادب والسياسة .. يرفض ان يقال له انه صاحب نظرية:" هذا المصطاح عفى عليه الزمن . لقد كان ماركس صاحب نظرية، فالرجل قام بعمل وصفي له وجاهته، كما جاء ببعض المفاهيم المفيدة، وليس من شك في ان عمله يفيدنا بشأن امور كثيرة . واما الآخرون فقد كانت لديهم افكار، فيها الصائبة وفيها الخاطئة، لكن لم تكن لديهم نظريات " .

يصفه الروائي الامريكي الشهير نورمان ميللر الذي تقاسم الزنزانة معه عام 1967 عقب تظاهرات جرت امام البنتاغون، بالعبقري رغم كونه آنذاك لم يتجاوز الثلاثين، ويكتب عنه في روايته " جيوش الظلام بانه ": رجل نحيل، حاد الملامح، ينم عن التقشف، وذو سيماء تدل على الاستقامة الاخلاقية الدمثة، لكن المطلقة " .

عندما يطرح عليه سؤال: هل انت ماركسي، يجيب مبتسما:" انك حين تعرف نفسك بالماركسي او الفرويدي، او اي شيء آخر، فانك تتعبد أمام ضريح مقدس " .

ولد نعوم تشومسكي في السابع من كانون الاول عام 1928 في فيلادلفيا، وكان ابوه قد هاجر الى اميركا من قرية صغيرة في اوكرانيا، وسيتخصص الاب بدراسة اللاهوت، فيما ستهتم الام المولدة في بيلاروسيا بكتب الاطفال حيث اصدرت عددا منها، رفض والده الخدمة في الجيش، وبدء حياته في امريكا عاملا في متجر للحلويات، قبل ان يتعين معلم في مدرسة ابتدائية، واصل دراسته ليصبح استاذا في اللاهوت، أغدقت الأم الحب على ابنها البكر وأورثته حبها للقراءة، ونقل إليه والده صفة التمرد وعشق الاناقة، يصف والديه بانها ديمقراطيان على طريقة روزفلت، تعلق بعمه الذي كان يملك مكتبة لبيع الصحف والكتب وعن طريقه قرأ الماركسية وشغف بها في فترة شبابه .

نشأ وسط مصاعب الأزمة الاقتصادية، وتفوق في الدراسة مع اهتمامه بكتب الفلسفة وعلم النفس، في الثانية عشر من عمره، كتب الفتى الخارق الذكاء كما تسميه امه كتابا من ثلثمائة صفحة، تنتقل فيه من سبينوزا الى كانط الى هيغل ولم ينته بماركس وفرويد، وألقى خطبة تحريضيّة في المدرسة عن اهمية الحركة الفوضوية، عثر في مكتبة عمه على نسخة من كتاب " الله والدولة " للفوضوي الروسي الشهير ميخائيل باكونين، ومنه تلقى اول دروس التمرد على الدولة والمجتمع، وقد وجد في الكتاب الكثير من العبارات الثورية التي استهوته، وظل لسنوات يحفظ عبارة باكونين ويرددها:" ألا فلتشتعل الثورات في كل مكان لجلب الدفء للعراة والخبز للجياع، ولتكن منارة للمشردين واتونا للظالمين "، وسيعود تشومسكي في الستينيات وهو يناصر حركة الشباب ليتذكر ذلك الشاب المراهق الذي كان مغرما بالفوضوية وافكار باكونين فيكتب:" تنبأ باكونين بان احد عناصر الثورة الاجتماعية سيكون تلك الشريحة الذكية والنبيلة بحق من صفوف الشباب، الذين يتبنون قضية الناس بقناعات بالغة وطموحات متقدة .وقد يرى المرء في بروز حركة الطلاب خطوة على طريق تجقيق هذه النبوءة في السابعة عشر من عمره بدأ الدراسة في جامعة بنسلفانيا، حيث تفرغ للفلسفة والمنطق واللغات، وسيحصل على درجاته العلمية الثلاث " البكلوريوس والماجستير والدكتوراه " من جامعة بنسلفانيا .  عام 1952 ينشر مقالته الاكاديمية الاولى عن انظمة التحليل اللغوي والتي انتقد فيها التيارات الفلسفية التي تعالج علم اللغة واتهمها بالقصور، مع حلول الستينيات كان تشومسكي قد صمم لنفسه حياة هادئة، بيت صغير وعائلة احبها، وعملا علميا ثابتا في معهد " ماستشوست " للتقنية، لكنه سرعان ما يتذكر الشاب المتمرد الذي اغرم بكتابات باكونيين وماركس، فنجده يلتفت صوب حرب فيتنام ويجاهر برفضه لها، رغم ان هذا الامر كان عملا غير أمنا انذاك، بعدها اعلن رفضه دفع الضرائب، وساعد في تشكيل جماعة " قاوم " التي حثت الشباب الامريكيين على عدم تأدية الخدمة العسكرية .

سيواصل تشومسكي عمله البحثي الذي بدأه عام 1957 بصدور اول كتبه " البنى النحوية " الذي يدحض فيه الفكرة القائلة ان عقلنا عبارة عن صفحة بيضاء، ويُظهر اننا مرتبطون عصبيا باللغة، وان اللغة بنية سطحية وبنية عميقة، وتعبر البنية السطحية عن نفسها باستخدام التحولات الصوتية، وتمثل البنية العميقة التحولات المعنوية، وان العلاقة بين البنية السطحية والبنية العميقة هي عملية من التحولات المتتالية ولذا يسمى النحو الذي بناه تشومسكي بالنحو التحويلي، ولعل اهم ما يميز نظريات تشومسكي اللغوية هي نظرته للغة بوصفها عملية ابداعية في استخداماتها اليومية . الكلام الذي يتبادله الناس في الشوارع كل يوم هو في راي تشومسكي ابداع، وهو يقول في هذا الصدد:" من ثم فان عملية الاستخدام المعتاد للغة هو عملية ابداعية . وهذا الجانب الابداعي لا ستخدام اللغة المعتادة هو العامل الاساسي الذي يميز اللغة البشرية عن اي نسق اتصال حيواني معروف، تلك النظرة تجعل الانسان هو محور الوجود، وليس انتاجه . فالبشر اهم مما يننتجونه، والبشر مبدعون وخلاقون باستمرار " . رغم ان مؤلفات تشومسكي في اللغة وضعته في موقع متفرد، حتى ان البعض يذهب الى ان موقعه هذا لم يسبقه اليه احد في تاريخ علم اللغة، وظل حتى هذه اللحظة يملك سلطة لا تنازع في كل معالم النظرية النحوية، لكن شهرته وشعبيته لا تتعلق فقط من عمله الاساسي في اللغويات فقط، وانما باعتباره احد المدافعين عن الحرية ومن اشد منقدي السياسات الاميركية منذ حرب فيتنام حتى حرب العراق، ولهذا نجد ان كتاباته السياسية تثير الانتباه دائما لكونها تحمل تلك النظرة الثاقبة التي تسعى للكشف عن اعمال المؤسسات السياسية القوية الموجودة في عالمنا اليوم .يؤمن تشومسكي في كل كتاباته ان المفكر هو الشخص الذي لا يسير كالاعمى في النهج الذي يسير عليه المجتمع، بل يتحرى عن كل شيء، وقد بدد كتابه " فهم السلطة " اسطورة امريكا الدولة التي تقدم نفسها كداعمة للديمقراطية، حيث يصف الأمر بانه عبارة عن وهم: " فامريكا في الواقع تدعم الديمقراطية التي ترغب بها "، وتشومسكي يقول انه لا ينتقد الحكومات لان:" السلطة الحقيقية في مجتمعاتنا لا تكمن في النظام السياسي بل في الاقتصاد الشخصي: اي المكان الذي تتخذ فيه القرارات الخاصة بنوع المنتجات وكمياتها، وحجم الاستهلاك ومناطق الاستثمار "، وما دام الحال على هذا النحو فلن تكون هناك ديمقراطية حقيقية لان راس المال في ايدي الاقلية وليس الغالبية، والمال هو اساس المجتمعات وليس السلطة السياسية . يقول تشومسكي: " لم يتاطر الاقتصاد ابدا بما يتناسب مع ما هو افضل للناس القائمين على العمل فعلا بل على ما هو افضل للراسمالية نفسها ".. وهو يصر على ان الحكومات اليوم يديرها " بعض اصحاب النفوذ الذين يتطلعون الى انفسهم "

تشومسكي لا يتفق مع علماء الاجتماع الذين يزعمون ان البشر متعلقون بالانانية بطريقة ما،ويرى انه اذا نظرنا الى نتائج طبيعة الانسان سوف ترى كل شيء " رى تضحية هائلة بالنفس، ترى شجاعة كبيرة ن وترى النزاهة وترى التدميرية " .

في الايام الاخيرة ظهر نعوم تشومسكي الذي بدى من خلال الانترنيت متعبا، لم يحلق لحيته منذ شهور، وقد شغل ظهوره الصحافة ومتابعين كثر، فيما تمكن الباحثون من الاطلاع على رؤية احد ابرز مفكري العصر الحديث، ان لم يكن اهمهم في ما جرى للعالم وهو يواجه حرب أوكرانيا وما يجري في غزة من جرائم . وقد طالب منذ سنوات بانهاء الظلم الذى يواجهه الفلسطينيون. مؤكدا على إن غياب العدالة في فلسطين اثره في جميع أنحاء العالم .

تشومسكي الذي ظل يسخر من براغماتية المجتمع الامريكي يحذر من كوارث النفعية:" نحن يتهددنا خطر الفناء، وخطر الموت بفعل السلبية التي غرستها فينا الحياة السلبية نتيجة ابتعادنا عن مسؤولية اتخاذ القرار "

تشومسكي الذي عاش طوال حياته مهموم بالفلسفة يرى انها يمكن ان تكون رأس الحربة في جهود اصلاح العالم، وهو يؤكد انه يجد نفسه اقرب الى مقولة ماركس:" فسر الفلاسفة العالم باشكال مختلفة حتى الان، إلا ان الهدف – بالأحرى – هو تغييره – " يقول انه لن يقاوم اغراء هذه المقولة، فالمهمة التي تواجه المواطن المسؤول تكمن في واجب تغيير العالم، وهو يرى ان التفسير والتحليل الذي يوفره الفيلسوف، والمفكر بشكل عام، يشكل مكونا اساسيا لاي محاولة جادة تهدف تغيير العالم:" في وسع الفلاسفة قيادة مجهود تغيير العالم، وسيخونون بدورهم مسؤولية منوطة بهم ان لم يفعلوا .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم