شهادات ومذكرات

عبد السلام فاروق: معزوفة مكسيكية قصيرة

منذ اللحظة التى هبطت فيها بنظرى عبر نافذة الطائرة شعرت بأنها متفردة.. خليجها الشرقى يمد زرقته الساحرة بلسانه العريض الشبيه بالقبعة المكسيكية المتهدلة، فيخرط بدنها الراقص إلى جذع ممشوق وخصرٍ ضيق.. وتتدرج زرقة المحيط الصافية إلى خضرة ساحلية تحيط بالبلد النضر إحاطة الطوق بجيد الحسناء.. وكلما اقتربنا من مهبطنا ترامت إلى ناظري ألوان تتعدد بين صفرة وحمرة وأدمة هى خليط الجبال بالصحارى بالشوارع التى زاحمتها كتل الأبنية ونمل البشر المهرول..

إنها المكسيك.. حظ الأسبان وإرث المايا والأزتك، وملتقى الحداثة بالتراث.. شبيهة مصر فى سواحلها الساحرة وأهراماتها الغامضة وحتى سكانها الذين يتشابهون لوناً وعدداً وحباً للضحك والرقص والغناء.. هكذا جمعتنا الفنون الشعبية والفولكلور فى مهرجان دولى ضمنا فيمن ضم من شعوب مختلفة جاءت من أطراف الأرض لتمتزج الفنون والرقصات والموسيقى بين السمسمية المصرية والدبكة اللبنانية والبولشوى الروسي والسامبا البرازيلية والتانجو الأسبانى.. كل هذا أمام شعب مكسيكي عاشق للرقص والغناء والموسيقى قد استوعبته المهرجانات وتوالت عليه الاحتفالات حتى لكأنها القاعدة وأن الجدية هى الاستثناء.. وربما كان السبب فى انصراف الشعب للمرح بهذا الشكل ما يحيطه من صعوبات وقسوة فى ظروف المعيشة وانصراف للعمل الدؤوب الجاد بقوة وعزم.. لقد لمست حياتهم عن قرب عندما تعرفت على رفيقى المكسيكي موزيس هيرنانديز..

أيام فى هيدالجو

المناسبة.. مهرجان فلكلور أمريكا اللاتينية. المكان.. مدينة باتشوكا عاصمة ولاية هيدالجو. المدة.. سبعة عشر يوماً قضيناها بين مسرح العروض وبين فندق بسيط بمدينة تولنسجو ضمنى وصديقى الفنان على الجندى أو الجنرال كما يلقبه أصدقاؤه. نذهب ونجئ برفقة المكسيكي طيب الصحبة موزيس هرنانديز، وكانت لنا معه حكايات وأيام ممتعة..

موزيس هرناندز... بروفيسور مكسيكي في أواسط الخمسينيات ، شخصية فريدة الملامح والسمات تبدو وكأنها خارجة للتو من سطور روايات الكاتب الكولومبي ذائع الصيت" جارثيا ماركيز"، فهو جزء هندي وجزء إسباني، أما الجزء الهندي الأصيل فيعود إلي ما قبل كولمبس، والجزء الثاني إسباني حديث الملبس والتعليم والنظرة إلي الكون والعالم. لقد جمع فى ملامحه وطباعه بين التراث والمعاصرة كأنه قطعة متجسدة من المكسيك ذاتها.. شخص طريف متواضع يجمع بين طيبة القلب ووسامة الملامح وبين بساطة أخاذة وجدية ونشاط، وكأنه ولد من عجينة تتشكل من المحبة والتسامح، كأنى به قريب أو صديق أعرفه منذ دهر!

وطوال سبعة عشر يوما كان البروفيسور هرناندز معنا صباح مساء لا يدعنا،حتى أنه يصر على السير معنا خلال عبورنا الطرق الجبلية المتموجة الوعرة.. وبينما نعانى نحن فى تلمس مواضع أقدامنا، يسير هو فى سهولة وعدم اكتراث لا تهتز له شعرة كمن يحفظ الطريق عن ظهر قلب.. وطوال الطريق لا ينفك يقهقه بالضحكات الودية مع من يمازحونه..

الأمر الذى كان يثير دهشتنا أحياناً ما كان يصدر منه من اندفاعة كلامية ينسي معها لغة التفاهم أو يسود بيننا الصمت برهة ثم يفاجئك بما لا تفهمه كأنه نسى وجوهنا العربية، وظن أننا من أصدقائه القدامى! فى بعض الأحيان كان يلجأ لمترجم ينقل لنا بالإنجليزية ما يحب قوله بالإسبانية، كان يشعر أن اللغة قيد يحول بينه وبين تمام التعبير عن ذاته وعاطفته، لكننا لم نحتج إلى اللغة مع إنسان كهذا تطفح عواطفه على سيماه فلا يكاد يحتاج إلى كلام..

عروض تحت زخات المطر

خلال الأيام السبعة عشر زرت برفقة موزيس هرناندز قري ومدارس عديدة في ولاية هيدالجو الكائنة في قلب المكسيك.. وبين الجبال الشاهقة والبحيرات العذبة تتوزع البيوت البسيطة المبنية من طابق واحد أو طابقين علي الأكثر.. كانت المدارس هى مسارحنا التى أقمنا عليها العروض الشعبية.. ألفيناها شديدة النظافة من طابق واحد وتتوزع الفصول الدارسية حول ملعب كبير مغطي بطريقة تدفع الأمطار إلي الأطراف، كي لا يتعرض أحد للابتلال من جراء هطول وابل قد يأتى بغير موعد فى موسم الخريف.

"هيدالجو" هو اسم الولاية مطابقاً لاسم بطل من أبطال الثورة المكسيكية، وله تماثيل ضخمة نصبت فى عدة أماكن بالمدينة ومدارسها التى أقيمت بها العروض. كان يوم الاحتفال بتحرير المكسيك قد حل أثناء فعاليات المهرجان الوطنى.. اجتمع خلاله الطلاب والمدرسون نحو 5 دقائق في طوابير متساوية العدد منتظمة الخطوط، ثم يحمل خمسة طلاب وطالبات العلم ويحييونه بجلال وهيبة،ويرفعون أصواتهم بالتحية التي يرددها زملاؤهم ومدرسوهم في نفس واحد تحيا المكسيك. ولعلها المرة الوحيدة التي سمعت فيها أصواتا مرتفعة فى المكسيك، البلد الهادئ رغم الزحام!

مضت الأيام سريعة كالبرق الذي ضربنا ونحن نستكمل استعدادنا كي نقدم بعض العروض الفلكلورية الراقصة في أكاديمية الفنون الجميلة بمدينة باتشوكا.. والتي تبعد نحو الساعة ونصف الساعة تقريبا،عن فندقنا في مدينة تولنسجو..

لم نكن نعلم طبيعة مناخ البلدة الحاد.. جئنا من بلاد معتدلة طقسها بسيط كأهلها.. فإذا بنا بعاصفة مدارية قوية تضربنا وتصيب الأكاديمية بوابل من ندف الثلج الأبيض.. وظلت تفرغ مياهها الباردة علينا قرابة الساعتين أو يزيد، ظننا أننا على وشك الغرق من فرط ما انهالت علينا الأمطار بغزارة وطاردتنا المياه حتى خشبة المسرح..

المفاجأة الأكبر كانت عندما وجدنا المسرح نظيفاً فارغاً من أثر المياه خلال دقائق!! مجموعة من طلاب وأساتذة قسم المسرح بالأكاديمية المكسيكية أسرعوا بجلب الأدوات وظلوا يزيحون المياه شيئا فشيئا إلي خارج القاعة كمن اعتاد الأمر.. الغريب أننا ظللنا جميعاً فى أماكننا مأخوذين مدهوشين من تلك الأحوال والأجواء العجيبة وكأن علي رؤوسنا الطير!! وكان من رأينا تأجيل العرض الخاص بنا حتى تتحسن أحوال الجو.. فواجهتنا عاصفة أخرى من التهليل والاعتراض،لأنهم انتظروا طوال اليوم ليشاهدوا عروض فرقتنا التي لا تزورهم سوي مرة واحدة من كل عام.

عدنا أدراجنا في سيارة موزيس هرناندز.. ضاحكين ومتوجعين،نتفحص بنظرة متألمة الشوارع والطرق ونتهكم على ما حدث.. تساءلنا فى عجب: أين اختفت جحافل الأمطار،وكيف اختفت بهذه السرعة؟! أجاب البعض بسذاجة أن الأرض لها طبيعة خاصة ماصة للأمطار، لم ندرك حقيقة أن شبكة الصرف المتطورة كانت من الكفاءة بحيث استطاعت استيعاب مئات الجالونات من المياه خلال سويعات، لدرجة أن أحذيتنا وملابسنا ظلت جافة إلا من بعض البلل الخفيف الذى سرعان ما قد جف لدى صعودنا وهبوطنا المتصل عبر الطريق إلي الفندق نحو مدينة تولنسجو.

بلاد البهجة والمهرجانات

إلى بلاد زاباتا.. هكذا أبلغنى الفنان السكندري علي الجندي عندما ذكر المكسيك بأحد أبرز ثوارها.. إنها بلد عانت كغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية ويلات الاحتلال والانقلابات والتقلبات السياسية حتى استقرت على ما يشبه ديمقراطية متوازنة ترضى الأمريكان ولا تسخط المكسيكيين!

أما عن السياحة فلا أفضل ولا أجمل من المكسيك، سحر الكاريبي وشواطئ الكانكون وأكابولكو وجمال الطبيعة وتنوعها فى خاليسكو وغوادالاخارا، ومتحف المتروبوليتان فى مونتيري، وأكبر حدائق الماكروبلازا فى سانتا لوسيا.. بينما نصحنى وكيل وزارة الثقافة بمصر أن أزور ضريح عظماء وأبطال المكسيك ما قبل كولمبوس.. زاباتا، ألفونسو رييس، ماريانو آثويلا، خوان رولفو، أوكتافيو باث وكارلوس فوينتس وضريح تروتسكي والفنانين العظماء: دييكَو وفريدا و........ تطول القائمة...

تيبوسلان.. أول محطة

مدينة ( تيبوسلان).. أول محطة استراحة،وهي مدينة صغيرة ضمن المدينة الكبيرة (موريلوس) والتي تقع في قلب وادي(تيبوسلان) وتبعد 75 كيلومترا عن العاصمة مكسيكوستي وعدد سكانها يبلغ 60 ألف نسمة وتعد المدينة قلب (موريلوس). تيبوسلان هرم صغير على قمة جبل تحرسها الجبال الصخرية الكبيرة وتسمى بالمدينة الساحرة.. بها سوق ضخم تراثى جميل في مركز المدينة وهو أشبه بسوق الجمعة في الغورية بنكهة مكسيكية.. تكثر فيه المطاعم الشعبية والآكلات البسيطة والفواكه والخضراوات ومنتجات الحرف اليدوية التي تزين الحوانيت ؛ من محلات الفخار والملابس الشعبية إلى محلات لبيع اللوحات التشكيلية تصور المكسيك وتفاصيلها.. وتضاف لهذا التنوع بساطة المكسيكيين وحبهم للحياة عبر الموسيقى في الأماكن والأسواق الشعبية..

في هذه المدينة الصغيرة وعبر طرق من أرضية تتكون من حجارة متراصة وكأنها صورة طبق الأصل من الحياة في العصور القديمة،فيما الأشجار العتيقة العملاقة نادرة النوع تطل برأسها من قلب الصخور المنحوتة كلوحة سيريالية رسمت من نسج حلم.

تسير فى ربوع تيبوسلان وتقع عيناك على المباني الاستعمارية القديمة والقرى الملونة والمحميات الطبيعية، ثم تعرج على شوارعها وأسواقها، وترى مهارة عمالها القدامى بما صاغوه من تحف يدوية بها ما بها من سحر أخاذ، كأنك قد وقعت على كنز من العادات والتقاليد الموروثة عن الإرث المكسيكي.

ثمة ما يطلق عليه بيت الصلاة.. وهم يعدونه من الأماكن الأثرية العتيقة، يقع على قمة جبل على ارتفاع 2000 مترا فوق سطح البحر و 600 مترا فوق مستوى القرية العالية.. وكان هذا الموقع معبداً لمرحلة ماقبل كولومبس وخصص لآلهة تدعى(اوميتوجيتي).. تيبوسلان.. مدينة التصوف والروحانيات واسترخاء العقل والجسم وفيها توجد المنتجعات وحمامات البخار داخل غرف مغلقة من الحجارة الحمراء برفقة الأغاني الروحية والترانيم الهادئة..

من الصعب أن تطلق لقب المدينة الساحرة على تيبوسلان من دون متاحفها التاريخية.. مثلاً متحف:(كارلوس بليسر) والذي تبرع به الشاعر والعالم يحوى مجموعات من القطع الثمينة من غرب المكسيك.. متحف يعود بنائه إلى القرن السادس وقد شيده الرهبان الذين قدموا إلى المدينة، واليوم تضم إلى مواقع الإرث الإنساني باليونسكو. ويضم المبنى متحف ومركز الوثائق التاريخية ذو القاعات الأربع والتي تعد مثالاً هاماً لثقافات مختلفة من أمريكا الوسطى.

تكثر الاحتفالات والمهرجانات وحفلات الرقص بين الإيقاع وقرع الطبول الصاخب.. مع اهتمام كبير يصبونه على أنواع الطعام، ولعل المكون الرئيسي لطعامهم المحلى الذرة، بالإضافة للحوم بمختلف أنواعها، ولها أسماء مميزةحافظت على أصالتها منذ القدم. وللأكلات أسماء غريبة كثيرة، ولديهم عشق خاص للعصائر وتنويعاتها من الفواكه الطازجة..

من الرياضات القاسية في المنطقة التسلق على الجبال والهبوط عبر طبيعة صخرية شديدة الوعورة، إلا أن كثير من الشباب يمارس تلك الرياضة لتعوده على تلك الطبيعة الوعرة، وبعد اتخاذ الاحتياطات الكافية أثناء تسلق الجبال العالية الزلقة.. وفي الليلة المقدسة لميلاد المسيح حين جرى القداس في الحديقة الرئيسية للكنيسة وحضرت جانباً من الاحتفالية حيث يمثل كل منطقة مجموعة من الأشخاص وهم يحملون الشموع والنجوم المضيئة ومهداً صغيرا مع الموسقيين والتراتيل الدينية..

الطريق إلى المدينة المقدسة

جولولا.. تصلح أن تكون موضوعاً لفيلم سينمائى رومانسي، لها حكايات بعدد سكانها وزائريها من عشاق الجمال.. على طول الطريق تصطف أشجار وزهور تخطف الأنظار لمن يريد شرائها واقتنائها.. ينتهى بك الطريق لمشهد مهيب.. جبل عملاق ضخم يتطاير منه دخان كثيف تظنه فم تنين ثائر بينما هو بركان (بوبو كاتيبل) الخامد.. يرتفع نحو خمسة آلاف وخمسمائة متراً، وبجواره بركان آخر صغير، يبدوان كزوجين من العمالقة القدامَى.. لهذا نسج المكسيكيون حول الجبلين أسطورة.. حول محارب مكسيكي اسمه من اسم الجبل، أحب أميرة اسمها (ايستا) حبا جنونياً وتمنى زواجها، بينما أراد أبوها الملك إبعاده عنها فكلفه بغزو طويل لا ينتهى لعدد من البلدان.. حزنت الأميرة لغيابه سنوات، وأصابها الوهن وكادت لفرط حزنها تنهار.. وعندما عاد من حروبه الطويلة ووجدها على ما هى عليه من الضعف والذبول أخذها بين ذراعيه إلى الوادى ليعيشا ما تبقى لها من عمر قصير.. وسرعان ما ماتت بين ذراعيه، فلم يستطع العيش بدونها فلحقها بعد أن غرز سلاحه فى صدره.. ومن موضعهما تفجرت الأرض حزناً عليهما بركانين كأنهما رمز عشق دائم خامد، ينفجر من حين لآخر حزنا وتأسيا..

في المدينة المقدسة جولولا حين كنت ضيفا على معهد كوتومي بصحبة رئيسة. ثم جاءتنى دعوة من السيد(خوزي خوان اسبينوسا دورس) محافظ المدينة ضيفا في داره بإحدى الأحياء الشعبية.. دخلنا الدار وبابه مفتوح من دون حرس ولا حماية وخرجت الأستاذة مايرا لاستقبالنا بالإضافة إلى شاب يرتدي قميص رياضية، وتصورت من مظهره أنه سائق أو حارس! وبعد حديث شيق قصير معه تأكدت أنه المحافظ نفسه!! ولأول مرة أرى سياسياً بهذا التواضع الكبير وقال لي نحن في المكسيك بحاجة إلى ثورة جديدة ضد الفاسدين واللصوص.قال: حدثني عن بلادك وشعبك.. تكلمنا كثيراً فى مختلف الموضوعات، وسهرنا حتى منتصف الليل.. أخبرني أنه يفضل أن يصحبني في رحلة الأهرامات والمدينة القديمة ولكنه مسافر، ولذلك سيرسل معي وفدا من أصحاب الاختصاص فشكرته على الدعوة الجميلة ومن محافظ لأقدم المدن التاريخية في المكسيك.وودعني بالأحضان ! شتان بين هنا وهناك!

الفريدو يحكى عن الهرم

وجاء الوفد الموعود..

كان الوقت صباحاً عندما سمعت جرس الهاتف، وكان ثمة من ينتظرنى فى بهو الفندق.. وإذا بفاتنة خلابة المظهر تقدم لى نفسها.. (آنا كريستين) المستشارة الثقافية بالمحافظة، ورافقتنى بجولة فى مدينة جولولا، وحدثتنى طويلاً عن ساكنى المدينة قبل الأسبان، وعن تقسيماتها العشرة إلى مناطق ذات معابد وأبراج، لكل منها ما يشبه الحكومة المصغرة.. وجميعها مرتبط بالكنيسة الأم. ثم أردفت بأن المدينة ليست لها توائم فى ثقافات العالم، إنها متفردة شأنها شأن كل شئ فى المكسيك!

انضم إلينا أشهر شخصية تاريخية في المدينة(الفريدو دورس كاوكلي).. أخبرنى بسعادة المحافظة والمحافظ شخصيا بوجود صحفي مصري في مدينتهم العريقة. حدثنى (الفريدو) بأن المدينة تقع على ارتفاع 2200 مترا فوق مستوى سطح البحر وقد شيدت قبل ميلاد المسيح ب 500 عاماً وتحدث لي عن الهرم الكبير الذي شيدت عليه الكنيسة بأنه أكبر بكثير من أهرامات مصر و أكبر 4 مرات من ساحات باريس العملاقة.

هكذا وقفنا أمام أكبر هرم مكسيكي.. وهناك.. في الساحة الرئيسية ترى الكنيسة الجميلة من زمن الباروك بخلاف44 كنيسة مدهشة ذات فن معماري فريد.. قالوا: إن مجموع الكنائس في المدينة يبلغ 250 كنيسة، وهذا هو السر فى تسميتها بالمدينة المقدسة. وقد شيدت الكنيسة عليه من حجارة الحلان ويسمى بالحلان الباروكي.

أما الهرم فيبلغ ارتفاعه 670 متراً وكل جانب من جوانبه يبلغ 400 متراً. دخلنا الهرم الكبير من فتحة ضيقة خفيضة.. علمنا عن أعاجيب بنائه الفريد.. استغرق حفره 40 عاماً وبأيدي عاملة عددها 30 عاملاً فقط! دخلنا ممرا طوله 800 متراً، بينما إجمالى طول الممرات 5 كيلومترات كاملة!

عام 1966 طلبت المدينة من الرئيس المكسيكي ميزانية من أجل تكاليف الحفريات وكون الهرم من أكبر أهرامات المكسيك وخصص مبلغ 30 مليون بيسوس،وبعدها تم كشف 5% فقط من الهرم ونفدت المخصصات.. لقد كشفت الحفريات في الحديقة المجاورة للهرم اسما عجيبا هو الهرمجبل، فى شكل منحوتة يدوية، وأسموه بإله المطر..

في الطريق إلى قمة الجبل ترى الباعة المتجولين ومعهم كل منتجات المكسيك التراثية يفترشون الأرض.. اكتشفت أن أهل المكسيك بعضهم يحب تناول الجراد، ولا بأس فالناس فيما يعشقون مذاهب، وفى المغرب أقوام يفضلون تناول القواقع بتلذذ!!

على قمة الجبل بوسع الزائر مشاهدة المدينة بأكملها بما بها من براكين، أما عن الكنيسة فقد بدأ تشييدها عام 1594 وانتهى تشييدها عام 1642 وتسمى بكنيسة (ريميد يوس) ولكن اسمها عند الشعب كنيسة فوق الجبل ولها 49 قبة!

فى متحف آثار مدينة جولولا معروضات وتحف تعود إلى قرون ما قبل الميلاد لها شكل وجوه نساء مصنوعة بالفخار.. قبل الأسبان لم تكن هناك ثمة مقابر فى المكسيك، كانوا يدفنون موتاهم بصحبتهم داخل منازلهم! شاعر قديم قال : ادفنوني تحت الموقد وأن نتنت جثتي أخبروا الناس أنه الخبز قد احترق!!

مدينة جولولا مدينة جميلة سعيدة تستقبل الحياة والناس بابتسامة، قاطنوها يعشقون الحياة، وأشد ما أدهشنى بساطة محافظها.ولشد ما يختلف عما نراه فى شرقنا المبتلى بمحافظين تملكوا الناس فيما تملكوه!

رأس السنة فى زاباتا

ليلة رأس السنة تكتسي مدينة زاباتا مهد الثورة المكسيكية(كويرنافاكا) حلة جميلة لاستقبال العام الجديد بتزيين شوارعها وكاتدرائيتها الكبيرة.. الزي المكسيكي التقليدى هو السائد.. الألعاب النارية لا تنقطع طوال الليل.

مدينة يبلغ عدد سكانها 600 ألف نسمة، عاصمتها(موريلوس) وتقع على ارتفاع 1500 متراً فوق سطح البحر.. يأتيها الزائرون والسياح من مختلف البقاع والمكسيكيون من شتى الولايات وحتى من العاصمة مكسيكو سيتى ذاتها.

اسم المدينة يرتبط ارتباطاً كبيراً بالثائر الكوبي(ايميليانو زاباتا) البطل الذي سجل تاريخاً وعنواناً للثورة في المكسيك ولذلك تكثر تماثيل زاباتا في الساحات الرئيسية ومركز المدينة وبأشكال مختلفة بالإضافة إلى تماثيل المرأة المكسيكية بالزي التقليدى المميز لدورها الكبير في الثورة.

تعد مدينة(كويرنافاكا) من أطيب وأجمل الأماكن الممتعة وبالأخص للهاربين من ضوضاء المدن الكبيرة وتعد الملاذ الآمن لعشاق المشي على الأقدام في المدينة القديمة وللفنانين بالإضافة إلى العدد الكبير من المتقاعدين الأمريكيين الذين فضلوا قضاء باقى حياتهم في هذه المدينة! دهشت عندما رأيت باعة للكتب القديمة فى الأزقة والحارات الصغيرة.. إنها مدينة مشهورة بكثرة مدارس اللغات،بها عدد من الحدائق الرائعة والساحات الكبري المزينة بالورود الملونة والمتسلقات المدهشة فىكل مكان، حتى أنك تصادف تساقط الورود عليك طوال الوقت!

ليلة رأس السنة رائعة في هذه المدينة التاريخية. فالشعب يكتسي بالزي المكسيكي والقبعة الكبيرة بالإضافة إلى كثرة الفرق الموسيقية بأزيائهم الشعبية.أما الكاتدرائية الكبيرة فقد اكتظت بالناس للاحتفال باستقبال العام الجديد.وما أدهشني في هذا القداس الاحتفالي الذي حضرت جانباً منه صوت رخيم لفاتنة مكسيكية ادهش الجميع والشئ الأخر أثناء القاء القديس قداسه باللغة الإسبانية والكاتدرائية تضج بالناس وإذا بهاتفه يرن في جيبه واندهش الحضور، ومر الأمر ببساطة!!

لهذه الكاتدرائية مكانة كبيرة عند سكان المدينة وتترك انطباعاً ساحراً عند الزوار لأنها تعد من اقدم الكاتدرائيات في المكسيك،لقد بدأ بتشييد الكاتدرائية عام 1529 وهذه المدينة كانت نقطة الانطلاقة لإنشاء الكاتدرائيات.. ارتبط ذكر المدينة بالفن التشكيلى.. إذ تكثر بها اللوحات الجدارية الضخمة وكذلك المتاحف التي تترك أثرا عند زوارها مثل متحف (روبرت برادي) الذي يضم تحفاً ولوحات وأعمالاً خالدة من تاريخ المكسيك، ثم هناك عدد من القصور التي كانت مستعمرات أبان الحكم الإسباني، تحولت جميعها إلى فنادق ومطاعم..

الشلال في مركز المدينة وساحتان تمنحان المدينة رونقاً :الساحة الصغيرة(ياردين ياوريز) والكبيرة اسمها(ياردين دي لوس هيروس)، وعلى غربها يطل قصر(دي كوبيرنو).القصر التاريخي الكبير في المدينة تحول إلى متحف: (كوهاحواج) الذي يعرض تاريخ المدينة حتى الثورة المكسيكية 1910 مع وثائق حول حياة وتاريخ ونضال الثائر زاباتا.. الفرق الموسيقية المكسيكية بالزي المكسيكي ينتشرون بالطرقات ليعزفوا أغانى التراث المكسيكية التقليدية، والبعض منها يعزف حسب الطلب. وتكثر هذه الفرق حول تماثيل زاباتا وقد انصهر اسم المدينة وثقافة ساكنيها وفنها بشخصية هذا الزعيم الثوري!

هذا ما دعاني للتوجه إلى جبال المكسيك القريبة من المدينة برفقة صديق مكسيكي وكلبه إلى كهوف ومغارات الثوار المكسيكيين وبداية ثورتهم وإلى مغارة زاباتا وأين كانوا يخبئون أحصنتهم عبر الغابات المكسيكية وادهشتني الأماكن والصخور العملاقة والكهوف الكبيرة التي انطلقت منها الثورة.. لحظات جميلة أن تستقر في كهوف حتي الآن تقطر نكهة الثوار.. نهار جميل في جبال المكسيك وكهوفها وسرد عن أبطالها من قروي مكسيكي. مدينة كويرنافاكا تترك انطباعا جميلا عند زوارها.. هذا فى المدينة القديمة.. بينما في المدينة الحديثة الأمر مختلف.. دار سينما(سينا بليكس) العالمية والتي تضم 8 صالات سينما في مجمع تسويقي ضخم ومدينتها الجديدة لا تختلف عن مدن العالم وكذلك زوارها، وأماكن راقية وشبابية كأى حاضرة حديثة..

لكن تظل للمدينة القديمة عبق الماضى وأصالة التراث ورواية التاريخ الناطقة بما تحويه من آثار ورموز.. مدينة زاباتا والثورة والمتاحف التاريخية كلها من الزمن الجميل من أزمنة المكسيك.

دجاجة وتاكو وخلخال!

لكل بلد طعامها الخاص.. والطعام المكسيكي دسم وحار كطعامنا، لكن له خصوصيات تجعله مختلفاً.. لعل التاكو من أشهر الأطعمة طبقاً للإعلام والميديا، وتأثيرات الكاريبي تجعل للمأكولات البحرية صدى خاص.. ثمة أطباق مكسيكية ذات أسماء رنانة كالبوريتو والبوبلانو والكابريتو والتاماليس والبازولى والبارباكوا.. إلا أن أفضل أطباقهم على الإطلاق هو الدجاج المتبل على الطريقة المكسيكية.. وهو أقرب للطريقة المصرية أو الهندية من طريقة كنتاكى الأمريكية.

كعادتنا فى إطلاق الألقاب على الأصدقاء، اختار صاحبى على الجندى لقب "خميس حلو" ليصف صديقنا هرناندز، ونرد عليه تحيته قائلين: صباح طيب أيها المكسيكي الجميل.. وجهه كان ينضح بالطيبة والبشر والإقبال على الحياة..

في اليوم الأخير من هذه الرحلة المدهشة،وقبيل سفرنا من المكسيك عائدين إلي القاهرة، استضافنا موزيس هرنانديز في منزله المكون من طابقين وحديقة وجراج يتسع بالكاد لسيارته، وأعد لنا غذاءا وعشاء شهيا، أشرف عليه بنفسه مرتديا لباس المطبخ، وقد أصر علي أن نأكل نحن الخمسة عشر مصريا، قبل أن يضع لقمة واحدة في فمه.

دمعت عينا زوجته الفنانة "خوانيتا" متأثرة بهدية علي الجندي وهي عبارة عن "قرطين وكردان وخلخالين"، كانت تتزين بهم إحدي فتيات فرقة الإسكندرية للفنون الشعبية،.. وأقول لكم في الختام، أنني سوف أظل أسيرا لهذه الصورة الفاتنة،.. صورة مشاعر عذبة رقراقة صافية، لم تلوثها لا الحداثة ولا المدنية ولا حتي حواجز اللغة، لأن البشر، كل البشر الطبيعيون يتصرفون علي هذا النحو الإنساني كما رأيت السيدة خوانيتا...إنها صورة أمرأة مكسيكية ورجل مكسيكي التقيتهما في مهرجان أمريكا اللاتينية للفلكلور،ولن أنساهما ما حييت.. فالمرء أسير المشاعر الإنسانية الصادقة.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم