شهادات ومذكرات

ضياء خضير: سعدي يوسف في ذكرى وفاته الثالثة

بمناسبة الذكرى  الثالثة لوفاة سعدي يوسف  في مثل هذا اليوم ٢٠٢١/٦/١٢

(خلال السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة سعدي يوسف وأعقبت وفاته وضعت أكثر من كتاب عنه بالإضافة إلى مقدمة على مختارات من شعره صنعتها دار خطوط وظلا ل الأردنية.. كلمات سعدي يوسف الأخيرة)...

أضع هنا مقالي الذي أعقب وفاته..

(خويه ضياء، أنا مودّع...)

لقد مات سعدي يوسف

وهذه آخر كلمات سمعتها من صديق العمر والشعر والرفقة الأدبية والنقدية الفاتنة قبل رحيله بعد ذلك بأيام في 12/6/2021..

نعم، قالها لي بالتلفون وهو على فراش المرض ببيته في (هارفيلد) بظاهر لندن، بصوته الدافئ المتحشرج الذي تشعر، حين تسمعه، أنه يخرج من أعماق سحيقة في جسده، حاملًا بساطته البصرية وروحه الجنوبية العراقية القريبة من النفس والحسّ، والتي لم تغيّرها أو تؤثر فيها الأيام والسنين مع ما زادتها من نضج وصلابة.

وكنت قد كلمته أيضا قبل ذلك بأيام وطلبتُ من رفيقته وحبيبته إقبال كاظم محمد علي أن تبعث لي بصورة حديثة له بعد أن تبادلت معه بعض النكات، التي كان يبدو فيها كعادته كبيرا متعاليا على آلامه ومرضه اللعين وهو يقول لي:

- ضياء، والله مو بيدي كل هذا ...(ثم يعقّب ضاحكا بعد صمت)

- لكن أهلي ما يرضون..

ولله درّك صديقي العزيز أبا حيدر، ما زلت كما أنتَ، قادرا على مواصلة اللعب مع قدرك والسخرية مما قد يكون قد خبأ لك من مفاجآت في هذه الحياة الدنيا وفي لحظاتها الأكثر ظلاما وحزنا.

لقد كنتَ تموت.

أنت تعرف ذلك كما نعرفه رغم تكتمّك وحرصك على أن يكون موتك مثل حياتك شأنًا شخصيًا لا أن يشغل أحدا سواك.4080 ضياء خضير

ولقد سعدت بصورتك الشخصية وسعفات النخلة البصرية القريبة من مجلسك، والتي تشبه فسيلة تلك النخلة الأخرى، نخلة عبد الرحمن الداخل الغريبة في الأندلس، نخلة أخرى رأيناها في إحدى المشاتل ونحن في الطريق بين أوتاوا وتورنتو الكندية قبل عام، فأصررتَ أن نشتريها لتحملها معك في سيارتي إلى شقة إقبال المعلقة في الطابق السابع من عمارة كبيرة في مدينة تورونتو كذكرى وعلامة وتاريخ لأرض ووطن وطفولة خضراء لا ينبغي أن تجفّ أو تغيب.

كانت الراية الشيوعية الحمراء موجودة في قلب صورة تلك النخلة، وأنت تعلم كيف تمّ قطع رأس نخلتك البصرية الأولى  خلال الحرب، ولكنها بقيت واقفة مثل ذلك الحلم المطفف الذي خفقت به تلك الراية الحمراء، ولكنك واصلت حياتك كلها الإيمانَ بوجودهما معا علامتين ورمزين إنسانيين دالين على الأصالة وتراث الطفولة والوطن ومشاهدهما البعيدة الخالدة من جانب، وعلى لون من العقيدة والفكر الإنساني الذي يصلح الخلل ويتجاوز الحدود والأوطان، من جانب آخر.

نعم لقد بددتَ شيئا من قلقي عليك لدى سماعي صوتك وسخريتك المرّة ذلك اليوم، عارفا أن الأمر ليس بيدك، ولا بيد أهلك وأصدقائك ومحبيك الذين يتألمون معك ويسعدهم حضورك الدائم بينهم روحا وجسدا، وصوتًا شعريًا وإبداعيًا متفردًا، وكأنك كنت تعتذر  لأصدقائك عن موتك، وعما  أصاب جسدك من داء وبيل، وهم يعلمون أنه، مهما كان نوعه وسببه، شيء مرافق لوجودنا على هذه الأرض، فهو داؤنا وبؤس أقدارنا نحن البشر جميعا، وليس داءك وقدرك وحدك منذ أن حاول جلجامش، جدنا العراقي الأول أن يتقصى معناه ويحلَّ لغزه دون جدوى ..

فقد كنت ترى موتك مثلما رآه السياب مكتوبا على صخرة في صورة ذلك الجندي الجزائري الشهيد الحي الذي فوجئ باسمه مكتوبا على قبر ليس قبرَه:

قرأت اسمي على صخرة

هنا في وحشة الصحراء

على آجرّة حمراء

على قبر، فكيف يحس إنسان يرى قبره..؟!

وقبلةٌ لروحك الكبيرة، وأخرى لصديقتي وصديقة العائلة، رفيقتك العزيزة إقبال كاظم محمد علي التي كان وجودها إلى جانبك وسهرها عليك، يخفف عنك وعنا شيئا من الغربة المركبة في إقامتك وإقامتنا المؤقتة على هذه الأرض.

كانت إقبال، على عادتها، تتلقف كلمات الأغنية العراقية التي سمعت الإشارة إليها منك، وتحاول أن تسمعك شيئا من أصواتها وإيقاعاتها.

وهي، بروحها العذبة وخفة ظلها وكل الحب ومعاني التضحية والإيثار الذي تنطوي عليه، تجسّد ما يتمناه لك أصدقاؤك ومحبوك الطيبون، وهم كثيرون، وعما يتمنونه لك وهم بعيدون عنك.

والآن وقد صمتّ وفاضتْ روحك، وأصبحت مكتبتك الكبيرة ودارتك بنافذتها العلوية المطلة على البحيرة موحشة إلا من صدى زقزقات الطيور المهاجرة، ومن صوتك المتقطع وانت تقرأ لي قصيدتك (بَدَهيّة) حينما أسألك عن العراق الذي لم تره ولم تزره منذ نصف قرن، ولكنه لم يفارق شعرك ومخيلتك وروحك المشرئبة نحو بصرتك وبيتك في حمدان وأبي الخصيب، ولتقول لي إنك ما زلت هناك على الرغم من كل ما قلتَ، وقيل عنك باعتبارك (المقامر) و (المغامر) الذي طوّف في أرجاء الدنيا، ودقّ على بواباتها السبع دون أن يسمع صوتًا غير  صوت العراق وصداه مترجّعا في الآفاق.

وها أنا، يا صديقي وأخي الحبيب، أنقل وصيتك إلى (أهلك بين دجلة والفرات)، بعد أن أصغيت إليك، وحفظتها عن ظهر قلب، كما قرأتَها، ودونتها في القصيدة، وأسمعتَني إياها ونحن نتسكع قريبا من الحي الصيني في تورونتو الكندية قبل عامين.

لستُ الـمُـقـامرَ

أنت تعرفُني، طويلاً، من نخيلِ أبي الخصيبِ

إلى تمارينِ الصباحِ بـ " نقرة السلمانِ "

حتى لندنَ،. الآن !

انتبهْتَ ؟

أريدُ أن تُصْغي إليّ الآنَ :

لم أكن المقامرَ

هكذا !

لكنني غامرتُ، كنتُ ولا أزالُ، هنا،

المغامرَ

لا الـمُقامرَ،

هل فهِمْتَ؟

عليكَ أن تُصْغي إليّ الآنَ !

واحفَظْ ما أقولُ

احفَظْ

نعمْ

عن ظَهرِ قلبٍ .

قُلْ لأهلي: بين دجلةَ والفراتِ،

هنالكَ اسمٌ واحدٌ

هو ما ظللتُ لأجْلهِ، أبداً، أغامرُ

هو أوّلُ الأسماءِ

آخرُها

وأعظمُهــــا،

وما يصِلُ الحمادةَ بالسماءِ:

هو العراقُ الأولُ العربيّ

***

د. ضياء خضير

 

في المثقف اليوم