شهادات ومذكرات
مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (34): كينيث أررو
كينيث أررو (1921 – 2017) Kenneth Arrow
هو الاستاذ المنظّر في العلوم الاجتماعية والسياسية وعالم الرياضيات والاقتصادي الامريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1972 التي كانت مناصفة مع الاقتصادي البريطاني جون هكس لمساهماتهما النظرية الهامة في نظرية التوازن الاقتصادي العام ونظرية الرفاه الاقتصادي. ولا شك فهو علم بارز في الادب الاقتصادي الكلاسيكي الذي ساد فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الاستاذ العلم في شيكاغو وهارفرد وستانفورد الذي تتلمذ على يده عدد كبير من الاقتصاديين اللامعين والذين حازت مجموعة منهم على جوائز نوبل في الاقتصاد لسنين لاحقة.
كان أررو من أوائل من اهتم وتساءل حول الكيفية التي تتصل بموجبها اجزاء النظام الاقتصادي المتعددة وكيف تعمل بتناغم وانسجام فيما بينها. وهو الامر الذي قاده للبحث في نظرية التوازن الاقتصادي العام، والتي آلت خاصة من خلال العمل مع زميله جيرارد دبروو الى صياغة جديدة لمسألة التوازن مستعملين فيها منطقا رياضيا جديدا وأدوات تحليلية فعالة منحت هذا المجال من النظرية الاقتصادية استقرارا هاما جسّد ما كانت احوج اليه من براهين علمية. وكنا قد تطرقنا سابقا عند الحديث عن جيرارد دبروو الى ما اصبح الموديل الاساسي للتوازن الاقتصادي العام والذي سمي Debreu – Arrow Model الذي كان من العوامل التي عززت منجزات دبروو النظرية وقادت الى فوزه هو الآخر بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1983. علماً ان أررو استمر بتوسيع فكرة التوازن العام الى آفاق اخرى شكلت ركنا آخرا من مساهماته النظرية كما في موضوعي الـ Uncertainty and Stability. وهو الذي استفاد فيه كثيرا من فكرة التوازن الاساسية لآدم سمث، حيث اوضح استلهامه لها في كتابه الذي عضدته جمعية الاقتصاديين الامريكيين والمعنون "التوازن الاقتصادي العام: الهدف وتحليل الخيار الجمعي".
اضافة الى مساهمة أررو في نظرية التوازن الاقتصادي العام، فقد بحث ايضا في نظرية الرفاه الاقتصادي والخيار الاجتماعي. ففي عام 1951 ، وضمن اطروحة الدكتوراه المقدمة الى جامعة كولومبيا في نيويورك، قدم أررو صيغته لمفهوم الرفاه Welfare والذي اختلف فيه مع كثير من الاقتصاديين واستفاد من بعضهم منذ آدم سمث ولغاية كتابة اطروحته. وقد تمخض بحثه ذلك عن كتابه "خيارات المجتمع والقيم الشخصية" الذي نشرته دار وايلي عام 1951 ، واعادت نشره جامعة ييل عام 1963. ضمن هذا البحث صاغ أررو ماسمي بـ "نظرية المستحيل" التي تصف العلاقة بين خيارات الفرد التي تحكمها قيمه الشخصية وبين خيارات المجتمع التي يقررها الحكم الجمعي.
ولد كينيث أررو عام 1921 في مدينة نيويورك لعائلة يهودية انحدرت من رومانيا. أنهى المدارس الابتدائية والثانوية في نيويورك، والتحق بكلية المدينة العامة City College of NYC والتي قال عنها لاحقا، انه: "لولا هذا الكلية المجانية التي تدعمها ادارة المدينة من الاموال العامة، ولولا التضحيات المالية البسيطة التي بذلتها عائلتي لكان من المتعذر علي ان احصل على اي تعليم جامعي". في تلك الايام المبكرة كان الميل الفكري لأررو اشتراكيا، لكنه اخذ بالابتعاد عن الفلسفة الاشتراكية كلما تقدم به العمر ، مع الابقاء على ميوله اليسارية عموما.
أكمل تعليمه الجامعي عام 1940 حاصلا على البكالوريوس في العلوم الاجتماعية مع تخصصه الدقيق في الرياضيات. واصل دراسته العليا في كولومبيا فحصل على الماجستير في الرياضيات عام 1941. بعد ذلك جاءت الخدمة العسكرية خلال سني الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1942-1946 التي خدم فيه كضابط في الجيش الامريكي ملتحقا بقسم البحوث في دائرة الانواء الجوية العسكرية. وقد وصل في خدمته العسكرية الى رتبة كابتن وتمكن من نشر بحثه الاول بعنوان "الاستخدام الامثل لحركة الرياح في التخطيط لنشاط الطيران"
بعد انتهاء الحرب، وفي عام 1946 عاد الى الدراسة الاكاديمية مرة اخرى ملتحقا بجامعة كولومبيا كطالب دكتوراه بين 1946 و 1949. وخلال اعوام دراسته العليا هذه، عمل كباحث مشارك في مؤسسة كاولز في جامعة شيكاغو، ثم استاذا مساعدا في قسم الاقتصاد فيها. وفي صيف عام 1949 عمل ايضا كباحث في مؤسسة راند في كاليفورنيا، والتي من خلالها استهواه الاهتمام بدراسة نظرية اللعبة Game Theory وكانت فكرة تطبيقيها في حقل الاقتصاد جديدة في ذلك الوقت. ونظرية اللعبة هذه تعتمد الطرق الرياضية التي تعنى بايجاد الحلول الستراتيجية للمشاكل المتداخلة بعد افتراض عقلانية من يتخذ القرارات. وكان قد اطلق شرارة تطبيقها في الاقتصاد جون ڤون نيومن John von Neumann واوسكار مورگنستيرن Oskar Morgenstern في كتابهما المعنون " نظرية الالعاب والسلوك الاقتصادي" المنشور عام 1944، والذي استلهما فيه الفكرة الاساسية من الطرق والبراهين الرياضية الكلاسيكية التي تعود الى القرن السادس عشر.
عن فترة عمله في البحث والتدريس في جامعة شيكاغو، كان أررو قد أشاد لاحقا بالبيئة العلمية الرصينة والجو الاكاديمي الباهر الذي شهده وتعلم منه وتطبع فيه على المناهج الاقتصادية الحديثة جدا آنذاك التي تستخدم الرياضيات والاحصاء والاقتصاد القياسي. وذكر بشكل خاص الاقتصادي جالنگ كووپمنز Tjalling Koopmans الذي كان له الاثر الكبير للأخذ بيد الشباب الطموح في ذلك المجال.
بعد حصوله على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة كولومبيا، استقر عمله في الحقل الاكاديمي فمارس التدريس في عدة جامعات. ففي عام 1949 باشر العمل كأستاذ مساعد في الاقتصاد والاحصاء في جامعة ستانفورد وبقي هناك لغاية 1968. وخلال تلك السنوات حاز على درجة الاستاذية في الاقتصاد والاحصاء وبحوث العمليات، واصبح رئيسا لقسم الاقتصاد. كما انتخب كزميل في البحوث الاجتماعية وزميل في مركز دراسات السلوك المتقدمة وزميل في كلية چرچل في كمبرج الانگليزية وزميل في معهد الدراسات المتقدمة في ڤـيينا وعضوا في المجلس الاقتصادي للحكومة الامريكية، جنبا الى جنب مع زميله الاقتصادي روبرت سولو. كما عمل مستشارا اقتصاديا للرئيس جون كينيدي. في عام 1968 قبل عرضا من جامعة هارڤـرد ليكون استاذا للاقتصاد فيها، فبقي في هذا الموقع لغاية 1979 . وخلال سنوات العمل في هارڤـرد، حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1972.
في عام 1979 منحته جامعة ستانفورد لقب الاستاذية التشريفي الموسوم Joan Kenney Professor of Economics، وبه وبرغبته ورغبة زوجته للانتقال من جو بوسطن شديد البرودة الى جو كاليفورنيا المعتدل الجميل، عاد الى ستانفورد وبقي يمارس التدريس والبحث فيها لغاية تقاعده من العمل الجامعي عام 1991 ، وذلك عندما بلغ من العمر سبعين عاما. وبتقاعده نالت جامعة دووك University Duke ومكتبة روبنستين فيها الحق بحيازة المجموعة الكاملة لبحوثه ودراساته في الاقتصاد والرياضيات ومقالاته وكتبه في الاقتصاد والاجتماع والسياسة.
نظرية المستحيل Arrow’s Impossibility Theorem
تنص هذه النظرية على انه " مالم يتم القبول بمقارنة مستويات المنفعة التي يصل اليها الافراد على انفراد، سيكون من المستحيل الوصول الى الخيار الاجتماعي العام المقنع للجميع، الا في حالة ان يكون قسريا دكتاتوريا. وبخلافه ينبغي على ذلك الخيار الاجتماعي ان يحقق الشروط التالية.
- ان لا يتم فرض الخيار الاجتماعي العام بأي وسيلة قسرية
- ان يضمن للافراد استقلاليتهم في الاختيار
- ان ينسجم مع اختيار كل فرد
- ان يكون حرا من تأثير البدائل الاخرى
- ان يكون فريدا في تطبيقه ويؤدي الى نفس النتيجة في كل التطبيقات
لقد صاغ أررو هذه النظرية استنادا الى ما سمي بـ "تعارض كوندورسيه" Condorcet’s Paradox نسبة الى نيكولا كوندورسيه الفيلسوف والرياضياتي الفرنسي (1743 - 1794) الذي جاء باستنتاجه حول حالة التعارض التي يصفها نظام ترتيب الخيارات. وللتوضيح، دعونا نأخذ المثال التالي:
لنفترض ان هناك استفتاء شعبي في مجتمع معين يتم بموجبه التصويت على ثلاثة بدائل للمنصب الأعلى في الدولة: رئيس جمهورية (ِج)، رئيس وزراء (و)، أو رئيس مجلس سيادة (م). وان نتيجة التصويت جاءت كما يلي:
- الثلث الاول من المصوتين جاء بالترتيب التالي: (ج) ثم (و) ثم (م)
- الثلث الثاني من المصوتين جاء بالترتيب التالي: (و) ثم (م) ثم (ج)
- الثلث الثالث من المصوتين جاء بالترتيب التالي: (م) ثم (ج) ثم (و)
فلو تأملنا الثلثين الاول والثالث لوجدنا ان الغالبية تفضل منصب رئيس الجمهورية (ج) على منصب رئيس الوزراء (و). ولو تأملنا الثلثين الاول والثاني لوجدنا ان الغالبية تفضل منصب رئيس الوزراء (و) على منصب رئيس مجلس السيادة (م)، مما يعني بمنطق الـ Transitivity ان الغالبية ستفضل منصب رئيس الجمهورية (ج) على منصب رئيس مجلس السيادة (م). ولكن هذا ما يعارض الغالبية ايضا في الثلثين الثاني والثالث حيث نجد النتيجة معكوسة من حيث تفضيل منصب رئيس مجلس السيادة (م) على منصب رئيس الجمهورية (ج). فكيف للغالبية ان تعارض نفسها في نفس التصويت؟
كانت هذه النظرية التي وصفت ايضا بانها "متناقضة الخيار الاجتماعي" قد بينت خطل وهفوات نظام ترتيب تفضيلات الناخبين في أي منظومة انتخاب ديمقراطية. والفكرة الاساسية ركزت على استحالة وجود نظام تراتبي للتفضيلات بدون الاخلال بالمبادئ الاساسية للديمقراطية وخرق قيم العدالة في التصويت الحر. وكانت من اهم تلك المبادئ والقيم التي اشار اليها أررو: رفض دكتاتورية الخيار، وتحدي كفاءة پاريتو التي تعني صيانة مجهولية من يدلي بتفضيلاته، وعدم تغيير نظام الترتيب اذا ازيل أي خيار منها. هذا يعني مثلا لو ان مرشح (س) جرى تفضيله على مرشحي (ص) و (ع) فإن مرشح (س) سيبقى مفضلا على (ص) حتى في حالة انسحاب (ع). واخيرا فان على النظام ان يشمل كل الخيارات الفردية التي تسمح بامكانية التفضيل المشترك بنفس المرتبة Tie
وجدت هذه النظرية لها تطبيقات عديدة غير مجالها الاصلي في الخيار الاجتماعي ونظم الانتخابات. في مقدمة تلك التطبيقات كانت مجالات اقتصاديات العدالة الاجتماعية والتمييز والرفاه ونظم المعلومات والابتكار.
ساهم أررو في حقول نظرية اخرى كاقتصاديات الصحة والمخاطرة ومعالجة الظروف غير الاكيدة Uncertainty conditions. كما كان له رأيا متميزا في مسألة توزيع الدخل، حيث كان يوصي الحكومة بأن التوزيع الكفوء للموارد يمكن بلوغه في ظروف الاقتصاد التنافسي المتوازن اذا ما لجأت الحكومة الى توزيع مبالغ مقطوعة لكل من يحتاجها حاجة ماسة وترك الامر للاقتصاد الحر لمعالجته نحو ادامة التوازن، وهو بالتأكيد سيعطي نتائجا افضل مما لو تعمد الحكومة على تقنين الاسعار من أجل اعادة توزيع الدخل كما في حالة التدخل الحكومي في تحديد اسعار بعض السلع والخدمات مثل تحديد ايجارات الشقق في بعض الاماكن السكنية.
كان أررو من أوائل من انتبهوا الى ظاهرة التعلم بالتجربة وفكرة عمل منحنى التعلم Learning Curve حيث ان زيادة الانتاج ستزيد من الخبرة المكتسبة في العمل والادارة مما سيعود فيزيد من الكفاءة الانتاجية. وقد راهن في وقت مبكر بأن دور التجربة والخبرة في زيادة الانتاجية سيدخل ضمن التحليل الاقتصادي الاساسي، لكن هذه النبوءة لم تتحقق الى ما بعد نصف قرن على التصريح بها. وهي ذات الفكرة التي قادت فيما بعد الى نشوء نظرية اقتصادية متقدمة حول النمو الضمني Endogenous Growth Theory التي تتمحور على فرضية النمو الاقتصادي الذي يتحدد بعوامل متأصلة في داخل المنظومة الانتاجية كسياسة المؤسسة او الدولة ونظم التعليم والتدريب والابتكار المتوفرة. وقد ظهر ذلك جليا في حالة التغييرات التكنولوجية التي اُعتقد سابقا بانها تحدث نتيجة لعوامل خارجية دافعة Exogenous لكن أررو اوضح في بحث له بعنوان Learning by Doing الذي نشره عام 1962 بأن التطور التكنولوجي انما يحدث بتحفيز من عوامل تنبثق من داخل الموديل الاقتصادي، الامر الذي دفع المؤسسات للاهتمام بالاختراعات والبحث واستنباط ما يتيح المجال للتطور التكنولوجي.
كان أررو عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم وفي الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون والمعهد الوطني للطب ومعهد الرياضيات والاحصاء. كما مُنح اكثر من 20 شهادة فخرية من الجامعات الرئيسية الكبرى. توفي في بيته في كاليفورنيا عام 2017 عن عمر 96 عاما.
***
ا. د. مصدق الحبيب