شهادات ومذكرات

علي حسين: 203 عام على ميلاده

عندما اكد دوستويفسكي ان الانسان سر يجب اكتشافه

ماذا سيضيف قارئ مثلي وهو يكتب عن دوستويفسكي الذي تمر اليوم " 203 " عام على ميلاده؟ - ولد في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1821 - ماذا سأكتب عن شخصية تشابكت فيها المصائر والمواقف وتنقلت بين اليسار واليمين، والالحاد والإيمان، وتشابكت حياته بصورة واضحة مع نتاجه الادبي؟.. ماذا ساكتب عن ذلك الانسان الذي وجد نفسه يقف امام فصيل الاعدام في ساحة سيميونوف في بطرسبورغ بتهمة التأمر على القيصر، لينهي حياته محمولا على الاعناق بعد ان القى خطبته الشهيرة عن بوشكين والتي اعلن فيها عن "وحدة البشر".. من هو دوستويفسكي؟ هل هو الشاب الذي شارك بحلقة بتراشيفسكي الثورية، ام هو الداعية للافكار الملكية، هل هو دستويفيسكي الذي قثل له الناقد الاشتراكي بيلينسكي بعد ان قرأ روايته " الفقراء ": هل تعي ما كتبت، هل تدرك ما كتبت؟ انك كنز وعليك من ثم ان تكون امينا على موهبتك "، ام هو دوستويفسكي الذي كان لينين يعتبر بعض رواياته مقززة وتثير الغثيان ويصفها بالرجعية، غير انه قال اكثر من مرة ان دوستويفسكي اديب عبقري واننا لنجد عنده، الى جانب الكثير من التمزقات والتناقضات " لوحات حية عن الواقع.. على مدى 143 عاما منذ رحيل فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي في التاسع من شباط عام 1881، عانت رواياته من حالات التذبذب من قبل القراء، كم وجه لها من النقد الشديد، وكم رفعت مرات الى اعالي المجد، وكم حاول البعض ان يخلع منه تاج الادب، منذ رحيله تجري صياغة طرق لقراءة اعمال دوستويفسكي حتى بالنسبة للذين يجدون فيه مجرد مريض نفسي. وسيحيرنا دوستويفسكي نفسه حين يصف هذا التناقض الذي يعيش فيه، في واحدة من رسائله التي يعنونها الى الانسة " ن" يكتب فيها: " اعلم انني ككاتب، اقع في كثير من الأخطاء، لأني في الطليعة، وانا ايضا غير راض عن نفسي البته، تصوري أنني في بعض اوقات الاختبار الذاتي، غالبا ما اكتشف بأسى، انني لم اوفق في التعبير عن جزء من عشرين مما كنت اريد. ان ما ينتشلني من هذا العجز هو الأمل المالوف أن يمدني الله يوما بالقوة والإلهام الكافيين، وان اصل إلى مستوى من التعبير اكثر اكتمالا " – الرسائل ترجمة خيري الضامن -. يكتب بوريس بوروسوف ان دوستويفسكي كان قليل الصبر: " اراد ان يسبق الزمن، واقتناص السر من المستقبل، واراد أن يكون دوما واثقا من نفسه، لقد كان يخوض صراعا مع المجهول، مع المستقبل المغلق، مع المصير والقدر " – شخصية دوستويفسكي ترجمة نزار عيون السود –
لعل من الصعب ان نجد كاتبا اكثر تناقضا من دوستويفسكي، فمع انه كان ضحية الطبقة البرجوازية الحاكمة، إلا انه تغنى بها، وهو كما يصفه توماس مان غالبا ما يتارجح بين حرية لا حدود لها وطغيان لا حدود له.. في رسائل الشباب التي كان يرسلها الى شقيقه من سيبيريا يبدو دوستويفسكي وكأنه عراف يريد ان يتنبا بما تخبئه له الحياة: " انظر الى الامام، وياخذني الرعب من المستقبل.. اندفع الى جو بارد قطبي، لا يصل اليه شعاع الشمس ".
من هو دوستويفسكي أذن؟ هل هو الروائي الذي كتب في " ذكريات من منزل الاموات ": " ما من انسان يحيا من دون غاية معينة، ودون سعي لتحقيق هذه الغاية " ام هو دوستويفيسكي الذي يكتب في احدى رسائله: " ما من غاية تستحق أن يفنى الانسان حياته من اجلها ". يطالبنا اندريه جيد ان لا نبحث عن دستويفسكي، وانما ان نعرف ما هي " الدوستويفيسكية "؟، هل هي فلسفة ام نمط ادبي؟. في كتابه تاريخ الفلسفة الروسية يكتب نيقولاي لوسكي أن الدوستوفيسكية ليست فلسفة الحنين الى الآلام والآثام، بل هي فلسفة التمرد على القيم المتعارف عليها، و يضع توماس مان تعاليم دوستويفسكي عن النفس البشرية في مرتبة اعلى من انجازات الرواية الاوربية يكتب: " ليس على المرء إلا ان يقارن بينه وبين مارسيل بروست، ليدرك الاختلاف في اللهجة والنغمة الاخلاقية، فالاكتشافات النفسية والبدع والوقاحات التي طلع بها بروست ما هي إلا متع تافهة بالقياس الى صنوف ما اوحى به دوستويفسكي، الرجل الذي يقطن في الجحيم "..وسيدافع فرانتز كافكا بعناد عن دوستويفسكي ضد اعتراض ماكس برود الذي كان يرى ان الكاتب الروسي قدم الينا العديد من الشخصيات المريضة، كتب كافكا في يومياته: " هذا خطا فظيع، فهذه ليست شخصيات مريضة، اما تشخيص مرضهم فليس إلا وسيلة للكشف عن هذه الشخصياتى، فيكفي مثلا ان نقول بالحاح هذا الشخص ساذج ابله، لكن مثل هذا الشخص لو كان له سند دوستويفسكي لانجز اعظم الاعمال ".- يوميات كافكا ترجمة خليل الشيخ -.
دوستويفيسكي بدون دستويفسكية لا يمكن ان يكون دوستويفسكي، هكذا يكتب الفيلسوف الوجودي نيقولاي برديائيف الذي فتح في كتابه " رؤية دستويفسكي الى العالم " الباب امام الدراسات الوجودية حول مؤلف الاخوة كارامازوف. لكن د.ج. لورنس سينبهنا الى ان دوستويفسكي يستحق المرتبة الأهم كروائي وليس فيلسوف، ففي رواياته ليست ثنائية الخير والشر التي تعلق بها نيتشه مجرد واجهة نظرية، وانما هي تدخل مادة اساسية في قصصه وشخصياته. عاش دوستويفسكي في اعوام المنفى والاشغال الشاقة خيبة امل حادة من المثل العليا للاشتراكية، وخلافا لكل معاصريه كان يعتقد بان الشر في مجتمعه سيقوى ويزداد عمقا اكثر مما يتصور اصحاب العقول الثورية في عصره.. ولهذا سنجد ان البطل المفكر الذي يعمل عقله دون توقف على تفسير تناقضات ومغزى الحياة، يحتل مكان الصدارة في رواياته وخصوصا التي كتبها بعد انتهائه من حكم الاشغال الشاقة.فقد اصبح بطله " انسان الأفكار " الانسان الطامح الى بحث الفكرة بكل تشعباتها المحتملة، وايصالها الى الاستنتاجات الاخيرة، ليس "راسكولنيكوف" او " ستافروغين " او " ايفان كارامازوف " وحدهم رجال الفكر في روايات دوستويفسكي، بل أن الشخصيات الثانوية في رواياته هم ايضا رجال فكر.. ان كل بطل من ابطال دوستويفسكي، فيلسوف، ومفكر، وشخصية معقدة، يقرر بطريقته الخاصة، القضايا الرئيسية للوجود الانساني.يقول دوستويفسكي: " ان التصوير الواقعي اللامبالي بالواقع لا يساوي شيئا، والاهم من ذلك لا يعني شيئا ".- يوميات كاتب ترجمة عدنان جاموس –.
في الاخوة كارامازوف يصرخ دوستويفسكي: " لماذا لا يتعانق الناس جميعاً، لماذا لا يحضنون بعضهم بعضاً، لماذا لا ينشدون أغاني مرحة، لماذا اسودت أفئدتهم بالشقاء على هذا النحو؟" وسيكتب برديائيف في مذكراته الحلم والواقع أن: " ما يعنيني ويسكن في هو قدر الذات، العالم الاصغر الذي فيه يظهر ويخفق الكون كله ".
تاخر نيتشه في قراءة اعمال دوستويفسكي ولم يطلع عليها إلا عام 1885، لكنه ما ان انتهى منها حتى اعلن ان دوستويفسكي هو العالم النفسي الوحيد الذي استطاع ان يتعلم منه شيئا ما: " فمكانه بين احسن فلتات الحظ السعيد في حياتي "
في واحدة من رسائله يبدي نيتشه اعجابه برواية " منزل الاموات " قائلا عنها انها اكثر الكتب الموجودة انسانية،بينما كرر اعجابه برواية " في قبوي " واشار في رسالة اخرى الى أن روايات دوستويفسكي " اثمن مادة نفسية عرفها وانه شاكر وممتن له "، وكان دوستويفسكي قد دعا الى تاكيد قيمة الذات الفردية التي حولها نيتشه فيما بعد ألى ارادة القوة، فقد اعلن على لسان ايفان في " لاخوة كارامازوف " ان الذات الفردية هي المنبع الرئيسي لافعالنا مهما بلغ سوء حظ الانسان ومهما اصابه الاذلال..يكتب عالم النفس الفرد ادلر ان: " اي انسان حساس ممن احسوا بمدى تنبه دوستويفسكي الى ما تتضمنه النفس البشرية من ميل الى الطغيان لا بد له من الاعتراف بضرورة اعتبار دوستويفسكي حتى ايامنا هذه معلما لنا، المعلم الذي حياه نيتشه ". لا بد كذلك ان يكون نيتشه قد قرأ رواية الجريمة والعقاب، ويجمع كتاب سيرة نيتشه ان معظم الموضوعات التي عالجها نيتشه، كان دوستويفسكي قد كتب عنها شهادته، فهو عالم نفس ومريض نفسيا، ومن المؤكد ان فهمه للنفس البشرية قد ازداد عمقا بسبب طبيعته الخاصة ومرضه، وما مر على حياته من تقلبات بين النجاح والاخفاق، وهي الحياة التي وجد فيها نيتشه صدى لحياته، وهناك سمة مشتركة بين الاثنين وهي ان اعمالهما جاءت نتيجة للصراع الداخلي الذي كلن يعيشانه، فقد كان دوستويفسكي شكاكا غير مؤمن في داخله،يصارع بشدة من اجل الايمان، بينما كان نيتشه يحاول ان يستأصل آخر اثر ديني في داخله.. إلا ان الاهم بالنسبة الى نيتشه ودوستويفسكي هو ما يمكن ان نسميه الاهمية المطلقة للانسان في العالم والكون.. رفض دوستويفسكي ان يقبل بالوجود فارغا من رمز أعلى، ومن هنا محاولاته في تخطي شكه كي يصير مؤمنا بالمعنى الحقيقي، وفي حماسته للايمان، اضطر الى استكشاف مسالة الله من زاوية المؤمن وزاوية الكافر، ولهذا نجد ان دوستويفسكي يحاول التغلب على يأسه عن طريق التحول الى الدين، الى الله... يصرخ دوستويفسكي إذا كان الله غير موجود، فان كل شيء مباح، لكنه في الوقت نفسه كان يعرف انه حتى إذا كان الله موجودا، فان كل شيء يمكن ان يظل مسموحاً.. لن يوجد ضمير بدون الله حسب دوستويفسكي، رغم انه كان يعرف انه بين اولئك الذين يعبدون الله كان الكثيرون منهم بدون ضمير..ان ابطال رواياته لا يمزقهم التردد بقدر ما يمزقهم اليقين بموت الله والرغبة المستمرة لوجود نظام او قانون يعوض عن ذلك الغياب.
تشكلت وجهة نظر دوستويفسكي للعالم وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، بعد ان واجه حكما بالاعدام خفف فيما بعد الى النفي الى سيبيريا.. انه الآن يُلقي نظرة جديدة على الحياة والعالم فهذه مدينته بطرسبورغ تبدو اليوم: " اكثر مدينة تربصا بالانسان على الارض.. انه يرى اليوم ان شيطان الثروة حقق سلطانه، وان المواخير وبيوت الدعارة حلت محل الكنيسة.. انه يعلن الحرب ضد ما اسماهم " ثاقبي الارض ".
في روايات دوستويفسكي نشهد التفاعل الغامض بين الروح والمادة والفكر والعمل، وشياطين العقل البشري، والمرض البدني والاضطراب الروحي، وألم المسيح الدائم مقابل معاداة المسيح. ونتذكر الرسالة التي كتبتها والدة راسكولنيكوف تدعوه فيها الى ان لايترك الصلاة لانها النجاة بالرسالة التي كتبها فرانزيسكا نيتشه إلى ابنها: "إذا كنت فقط سعيدا، فعندها سنكون سعداء. هل تصلي لله،، كما اعتدت، وهل تؤمن بصلاح خالقنا ومخلصنا؟ أخشى في قلبي أن عدم الإيمان قد زارتك من جديد. إذا كان الأمر كذلك، أصلي من أجلك. تذكر، يا عزيزتي، في طفولتك، عندما كان والدك على قيد الحياة، كيف كنت تصلي جالسا على ركبتي، وكم كنا جميعًا سعداء بذلك ".
لعب دوستويفسكي في حياتي دوراً حاسماً، فمنذ أن قرأت له لأول مرة رواية "الأبله" بترجمة العبقري سامي الدروبي أثار فيّ من الحماسة والنشوة للقراءة ما لم يثره كاتب آخر. ولا أزال أتذكر اللحظة الاولى التي قرأت فيها "الأبله" وأتمثل السطور الاولى من الرواية التي لاتزال تسحرني: "في صباح من صباحات تشرين الثاني، في نحو التاسعة أثناء ذوبان الجليد كان قطار وارسو يقترب من بطرسبورغ "، وما من مرة قرأت دستويفسكي الا تكشّف لي وجه الأمير مشكين، صدمني هذا البطل الطيب الى درجة انني كنت ابحث عنه في وجوه جميع الذين التقي بهم.
في "الأبله" يستعير دوستويفسكي حياته أكثر من أي رواية أخرى له، ويروي فيها على لسان بطله كيف وقف على منصة مرتفعة وهو في الثامنة والعشرين واعتقد انه بقيت له من الحياة ثلاث دقائق لا أكثر.
كانت لدوستويفسكي المولود طفولة رسم صورتها الحاجة والحرمان بمختلف مظاهرهما. وكانت الحاجة تلاحقه طوال حياته، وقد تشكل وعيه على احتقار الحاجة ومعها كل من يرغم الانسان على الخوف من الظروف المحيطة به. ولهذا كان يريد من اعماله الادبية ان يصفي حسابه مع التاريخ.
واعود الى السؤال الذي شغلني منذ اللحظة الاولى التي قرأت فيها روايات دوستويفسكي والتي اعود اليها بين الحين والآخر: من هو دوستويفسكي؟ بالتاكيد انا لست باحثا متخصصة في الرواية أو خبير في الآداب، إنما أنا قارئ، شأني شأن الكثيرين منكم، ومصدر اعجابي بدوستويفسكي يكمن في انني وجدت في كل رواية من رواياته صورة ما للعالم، وايضا اكتشفت ان دوستويفسكي، اينما كان، واي شيء عمل، وفي اي صورة يظهر لنا، لا يكف ابدا عن ان يكون دوستويفسكي الذي كتب في احدى رسائله: " الانسان سر يجب اكتشافه".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم