شهادات ومذكرات
عبد السلام فاروق: شوقى جلال في ذكراه
التقيته منذ ثلاثين عاماً بالمصادفة، وكان الجامع بيننا كتاباته الثرية الدسمة.. إنه المفكر والمترجم المعروف شوقى جلال الذي قضى نحبه فى السابع من سبتمبر 2023 عن عمر يناهز 91 عاماً بعد معاناة مع المرض.. وكان من أواخر ما قال وكتب تأسياً على حال الثقافة والفكر فى مصر: (تجاوزتُ التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظره مودِّع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعًا سكنيا لغرائزَ منفلتة. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحَّد تاريخيًّا، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية، مصر المستقبل. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب. ولكن تحت الرماد جذوة نارٍ قد تتأجَّج ويشتد لهيبها، ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل. هكذا علَّمَنا التاريخ، ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء).
فلماذا باتت تلك قناعاته الراسخة بعد عمر مديد عاصر فيه كل عهود الجمهورية وطفولة شهد فيها أواخر العصر الملكى؟! لماذا توصل إلى هذا الاستنتاج الأخير اليائس بأن ركضه وراء حلم الثقافة والتنوير كان ركضاً وراء سراب؟! رغم أنه أثرى المكتبة المصرية والعربية بعشرات الكتب عميقة التأثير فى مضمار الثقافة والعلوم؟!
لعل أخطر ما جاء فى كلمته تلك قوله: (وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا..).. إنه يري أن هناك حالة ارتداد فى العقلية المصرية نحو عوالم الغيبيات والسحر والدجل بدلاً من تقدمها نحو العلم.. فى الوقت الذى قضى فيه شوقى جلال كل حياته يكتب عن العلم وفلسفاته مفكراً ومترجماً لأهم الكتب والمؤلفات حتى وصل عدد ما كتبه إلى أكثر من ثمانين كتاباً تعد كلها من أهم مقتنيات المكتبة العربية فضلاً عن المكتبة المصرية..
يري شوقى بعد كل هذا العمر أن مصر فقدت التفاعل المثمر لمجتمعها وشعبها، وتحولت إلى بيوت صماء تتكدس فيها الكتل البشرية بلا مغزى ولا رسالة تقدمها للعالم.. لأنها فقدت بوصلة الفكر وشعلة الحركة العلمية الجماعية الهادفة إلى تطوير مجتمعى حقيقي وملموس. .تلك نظرته إلى ما تركه خلفه من زمان ولَّى ولم يحقق له حلمه الوطنى.. لكنه لم يتخل عن تفاؤله حول المستقبل فقال: (ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل..).
ولد شوقى جلال بمنطقة الشافعى بالقاهرة، وكان تسلسله العاشر من بين 17 أخ وأخت. الأب صاحب ورشة صناعية، موثر الحال وإن انتمى للطبقة المتوسطة، وكان شغوفاً بقراءة الكتب واقتناء الاسطوانات الموسيقية؛ لهذا وجد الصبي في مكتبة والده الصغيرة حياة من نوع آخر.. كتب مصورة وقصص وكتب تاريخ. وعلى إثر محنة مالية تعرض لها الأب اضطر لنقل ابنه لإحدى المدارس الثانوية الخيرية، أي مدارس الفقراء.. في المدرسة يستمع للمرة الاولى الى موسيقى فاغنر الذي تعلق به فيما بعد، وحصل على مؤلفات محمد عبده، وقرأ طاغور وروسو.. حتى هذا الوقت لم تكن السياسة قد جذبته إلى عالمها المتقلب الماكر.. لكنه ما لبث كأى مثقف عاش تلك الفترة المتقلبة أن انخرط فى عقد السياسة وذاق مرارة كأسها حتى الثمالة سجناً واعتقالاً فى فترات متقطعة وصل مجموعها إلى نحو 12 عاماً كاملة!
التحق شوقى جلال بالجامعة طالباً في قسم الفلسفة وعلم النفس كلية الآداب وكان ابرز اساتذته يوسف كرم وعالم النفس مصطفى زيور. فى عام 1956 عمل معيدا للفلسفة وعلم النفس في معهد المعلمين، بعدها بدأ رحلته للدراسات العليا تحت إشراف زكي نجيب محمود ويوسف مراد. ثم إنه حرم لسنوات من التعيين بالجامعة بسبب مواقفه السياسية فلجأ إلى الترجمة بدلا من التأليف؛ ونشر أولى ترجماته عام 1957 كتاب " السفر بين الكواكب " ثم الثاني بعنوان " بافلوف حياته وأعماله".
كرمته دولة الكويت لإسهاماته المتكررة فى إثراء مكتباتها فى إطار سلسلة عالم المعرفة الشهيرة. وقد قام بترجمة عدة مؤلفات لهذه السلسلة العريقة بدأها بكتاب "أفريقيا فى عصر التحرر الاجتماعى" عام 1980..واستمر عطاؤه فى التأليف والترجمة حتى بلغ ما كتب وترجم ما يزيد عن 80 كتاب.
رؤية ثاقبة لواقع مضطرب
المتأمل لحياة ومؤلفات شوقى يلمس نظرته البعيدة والعميقة الآملة فى تطوير طريقة التفكير لدينا نحن العرب.. ولهذا تمحورت كثير من كتاباته حول العلم، مستقبله وفلسفاته وتطوره.. ولعل كتابيه: "تشكيل العقل الحديث" و"بنية الثورات العلمية" أدل الكتب على توجهه هذا...
هناك ولع خفى لديه باكتشاف المجهول، كأنه كان يملك عقلية علمية تجريبية بطبعها وإن تم كبحها وتحجيمها فى كلية أدبية، وفى اعتقالات سياسية سرقت شطراً من حياته الفكرية.. انظر كيف أنه تنبأ بمستقبل الصين والهند مبكراً فى كتابيه: (الشرق يصعد ثانية: الاقتصاد الكوكبي فى العصر الآسيوي) ، و(صعود الهند والصين)..ثم إنه يترجم كتاب (العالم بعد مائتى عام) لهرمان كان، مستشرفاً ما سيأتى من أحداث .. ويكتب عن حال الشرق الأوسط كتباً عدة منها (التراث المسروق) و(الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل) و(ثقافتنا والدائرة المفرغة) و(الإسلام والغرب) ..وفى مجال الثقافة والمعارف العامة كتب وترجم كتبا عدة منها (الثقافة والمعرفة البشرية) و(جغرافية الفكر) و(الثقافات البشرية: نشأتها وتنوعها) و(ثقافتنا والإبداع)..
إنك تلحظ ميله للرؤية الشمولية الجامعة لأطراف الفكرة.. فعندما تضع كتابه (العقل الأمريكى يفكر) إلى جانب كتاب (التنوير الآتى من الشرق: اللقاء بين الفكر الآسيوى والغربي) وكتاب (أركيولوجيا العقل العربي: البحث عن الجذور) تفهم أنك أمام عقلية واسعة الأفق، تحب أن تجمع خيوط الفكرة لتصنع منها نسيجاً حياً خلاقاً يمكن البناء عليه.
لقد استند تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 الذى أصدره برنامج الأمم المتحدة على كتاب شوقى جلال: "الترجمة فى العالم العربي، الواقع والتحدى" كمصدر أساسي للبيانات الخاصة بمجال الترجمة فى عالمنا العربي.. الأمر الذى تدرك من خلاله مدى ثراء ما قدمه شوقى جلال للمكتبة العربية.
التفكير على طريقة توماس كون
في عام 1997 أصدر شوقي جلال كتابه: "على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم"، وهو الكتاب الذي فتح لي الباب لدخول عالم توماس كون المثير والعجيب .
هذا الكتاب مستقى من: (بنية الثورات العلمية) الذى ترجمه جلال شوقى لتوماس كون وصدر عام 1992 ضمن سلسلة عالم المعرفة.. هذا الكتاب الذى بيع منه أكثر من مليون نسخة وتمت ترجمته لأكثر من 30 لغة، وظل لعدة عقود الكتاب الأكثر شعبية فى مجاله.. لقد ولد توماس صمويل كون عام 1922 وحصل على درجة الدكتوراه عام 1949. بعد حصوله على الدكتوراه قرر أن يصبح فيلسوفاً للعلم من خلال كتابته لتاريخ العلوم..
كان صدور كتاب (بُنية الثورات العلمية) صادماً للقراء، لأنه افترض أن العلم لا يأخذ الإنسانية على مسار مستقيم نحو حقيقة موضوعية ،بل ينتج من خلال تراكمات ومراقبات تجريبية.. فمن وجهة نظر توماس كون فإن الثورات العلمية ليست حقائق جديدة، بل هي تغييرات بالجملة في الطريقة التي نرى فيها هذه الحقائق، وهذا بدوره يقودنا إلى إعادة بناء نظريات تشكل "عملية ثورية نادراً ما يكملها شخص واحد ولا تتمّ بين عشية وضحاها"... هذه الطريقة الجذرية فى التفكير أثرت على شوقى جلال ورؤاه وأفكاره.. إنها الطريقة المتعمقة الشاملة .. وفى ظنى أننا لم نستفد من شوقى جلال حق الاستفادة خلال عمره المديد المثمر.. رحمه الله مفكراً صاحب علم ورؤية.
***
د. عبد السلام فاروق