شهادات ومذكرات
طه جزاع: العلوي يحسد ابن بطوطة
في أيِّ حديث عن الثقافة والفلسفة الصينيَّة، فإنَّ أول من يحضر ذكرهما، شخصيتان ثقافيتان كبيرتان، يمتلكان كاريزما خاصة، وحضوراً في الفكر والثقافة العراقية والتراث البغدادي، هما الشيخ جلال الحنفي البغدادي "ت- 2006"، والمفكر هادي العلوي "ت- 1998".
وللأول رحلات عدّة إلى الصين، بدأت سنة 1966 واستمرت أربع سنوات، والثانية سنة 1975 واستمرت نحو سنتين، وثالثة في 1987، وكان القصد من هذه الرحلات تدريس اللغة العربية في معاهد اللغات الأجنبية في بكين وشنغهاي، ومن الطريف أنَّ الحنفي بعد عودته وأسرته إلى بغداد، كانوا يتحدثون بينهم أحياناً باللغة الصينية التي تعلموها هناك، فظن كثير من الناس أنَّ الشيخ قد تزوج بفتاة صينية وعاد بها مع أولاده!.
وقد حاولتُ الحصول على أي أثر لتجربة الشيخ الصينية، فلم أعثر على شيء، وكان قد أعلن مراراً أنه بصدد إنجاز معجم عربي صيني، لكن للأسف الشديد فإنه لم يترك كتاباً محدداً عن تلك التجربة، ولم يصدر المعجم، وما بقي مجرد مقالات ومحاضرات متناثرة، وغير متوفرة في شبكة الإنترنت، منها ما كتبه عن معالجة الصم والبكم في أطفال الصين وحكاية الإبر الصينية التي يعدها فتحاً مبيناً في عالم الخدمات الإنسانية، وداعياً الجهات الصحية إلى استخدامها في علاج الصم والبكم في العراق.
ومما كتبه من طرائف الطعام، أنَّ الصينيين لا يأكلون الخيار "القثّاء" إلا مقلياً بالدهن قلياً خفيفاً، ومن عاش من الطلاب الصينيين في العراق واعتاد أكل الخيار كما يأكله العراقيون فإنه يثير استغراب الصينيين إذا أكله هناك بلا قلي بالدهن!.
ومثل عملية تبديل السفراء، فإنَّ الحنفي حال عودته أعان هادي العلوي في أمر ابتعاثه إلى الصين، ليحل مكانه ويواصل رسالته، ثم يقوم بترجمة لكتاب الفيلسوف لاوتزو،" التاو" الذي يحوي نصوصاً من الفلسفة الصينية القديمة، وينجز في بكين واحداً من أهم وأطرف وأعمق الكتب العربية المعاصرة التي تناولت الكثير من معالم الصين، وأضاءت جوانب من تاريخها وحياتها الاجتماعية ولغتها وأديانها ومنجزاتها الكبرى في التكنولوجيا والصناعة والآداب، وأعني به "المستطرف الصيني" ، وهو يشير في فاتحته إلى معونة الحنفي بالقول: "حين تأهبتُ للرحيل إلى الصين بمعونة صديقي الشيخ جلال الحنفي البغدادي لم يكن في حسابات سفري أن أجدد ذكرى ابن بطوطة.
إذ كان الغرض أن أغادر بلدي فراراً من الاضطهاد إلى بلد آمن، وربما حسدتُ ابن بطوطة، الذي جاء سفيراً من ملك الهند إلى ملك الصين بينما جئتُ هارباً من ملوكنا أحمل سفارة الوطن والأمة التي ترفع الحصانة الدبلوماسية عن حاملها.
وأحمد الله على أي حال أنه لم يكن هروباً كهروب ابن هبّار من البصرة ساعة دخلها الزنج وأخرجوا منها التجار"!.
ومن أطرف مباحث الكتاب ذلك المتعلق باللغة الصينية، إذ يظهر العلوي براعته وتعمقه في فهم أسرارها وتراكيبها وأفعالها، وكيفية كتابة الأسماء الأجنبية، ويحكي طرائف في هذا المجال ناتجة عن طريقة تقطيع اللغة الصينية للأسماء والبلدان، كما يقوم بإحصاء عدد من المفردات المتبادلة في العربية والصينية.
علاقة الشيخ الحنفي بهادي العلوي من العلاقات الثنائية النادرة التي تستحق التقدير والإعجاب، فهي تؤكد أنَّ التوجهات الفكرية والشخصية المختلفة بين مثقفين لا يمكن أن تحول دون بناء صداقات وطيدة ومنتجة بينهما لصالح الثقافة والأدب والفلسفة والوطن والحياة، وطريق الصين الذي فتحه الحنفي أعطى ثماره وأهميته في نتاجات العلوي اللاحقة وما أسداه من فضل في تعزيز الروابط الثقافية بين الصين وسائر العرب والمسلمين، والكشف عن العناصر المشتركة في التراثين الإسلامي والصيني، وما يخص منها بالذات التجربة الصوفية.
***
د. طه جزاع