شهادات ومذكرات
علي حسين: لهذه الاسباب.. دعنا اصدقاء
حذرها سارتر من أن تصبح ذات يوم امرأة بيت عادية. تعترف انها ظنت ان وجودها الى جانب الفيلسوف الشاب قد جعلها تربح كل شيء، بعد سنوات ستكتشف إن أضمن طريقة لأن يفقد الانسان حريته هي أن يعمل لتحقيق الخلاص لشخص آخر غير نفسه. كانت في الخامسة والعشرين من عمرها عندما عرضت على سارتر ذات يوم: " تلك الاخلاقيات التي صنعتها لنفسي لتسويغ الناس الذين أحبهم، لكني لم اكن اريد ان اشبههم " – مذكرات فتاة رصينة ترجمة ندى حداد –.عاشت سيمون دي بوفوار حياتها مثل سارتر تتغنى بالوجودية: " ان أوجد من اجل ذاتي ". ان تعبر عن نفسها علنا، وأن تجعل الناس يسمعونها. في كلمات مؤثرة يصفها سارتر بانها: " انسان لا يفكر في نفسه، فهي تفكر فيما تواجهه، انها هي نفسها حرة، وحين تواجه سيمون دي بوفوار اسئلة حول نفسها فهي لا تواجهها من قبيل النرجسية، بل من قبيل الحساسية التي تندهش بأن لها (الانا) وحينئذ فهي تتساءل الحق أنني ذاتية، وأنني أوجد ايضاً) " - سارتر يتحدث عن سيمون دي بوفوار مجلة الهلال 1967 -
كانت صورتها في المقهى والى جانبها رفيق رحلتها في الحياة والفكر جان بول سارتر، هي الصورة التي جعلت الكثيرين منا كقراء للفلسفة الوجودية يشيرون الى هذه الكاتبة بانها تعيش تحت ظلال صاحب الوجود والعدم، وان مشروعها الفلسفي لا ينفصل عن مشروع سارتر الوجودي، فقد القت شخصية سارتر بظلالها على اعمال بوفوار الفلسفية، وذهب البعض الى القول ان مؤلفاتها ما هي إلا تطبيق لفلسفة سارتر الوجودية، ولهذا لم نكن نوليها الاهتمام، فما الذي يمكن أن تكتبه هذه المرأة في وجود كاتب وفيلسوف باهمية جان بول سارتر.لندع سيمون دي بوفوار تتحدث عن هذا الأمر: " ليس صدفة أن الانسان الذي اخترته هو سارتر، فقد اخترته في نهاية الأمر. وإذا كنت قد تبعته بفرح فذلك لأنه قادني الى حيث كنت اريد أن اذهب. اما انفعالاتي ومشاعري، فقد احسست بها بفضل اتصالي المباشر بالعالم. وما قمت به من اعمال تطلب مني ابحاثا واتخاذ قرارات مدروسة ومداومة واصرار على العمل بل وصراعا من اجل العمل. وهو قد اعانني. وقد ساعدته ايضا. أنا لم اعش من خلاله " – قوة الاشياء ترجمة عايدة مطرجي ادريس -. ونجدها في " قوة العمر " تشرح لنا الفوارق بينها وبين سارتر: " يعيش سارتر ليكتب، كان يرى ان من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، اما بالنسبة إليّ، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن اعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم "، وفي مكان آخر من السيرة الذاتية تؤكد بوفوار ان هناك فرق كبير بينها وبين سارتر وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتهما بالماضي: " بدا لي معجزة ان انتزع نفسي من ماضِيَّ، ان احقق اكتفائي بنفسي، ان اقرر شأني، دخلت مرحلة التعويل الكامل على الذات: لا شيء في وسعه انتزاعه مني ".
عندما نقرأ بتمعن اعمال سيمون دي بوفوار نكتشف ان هذه السيدة تحاول أن تتبارى مع سارتر في سعيها لفلسفة وجودية جديرة بالاسم، فلسفة تقلق الإنسان لكنها في الوقت نفسه: " تريد أن تُجنب الإنسان الخيبة والغيظ المكتوم الذين تسببهما عبادة الاصنام الكاذبة. إنها تريد أن تقنعه بأن يكون انساناً بأصالة. انها فلسفة ترفض تعازي الكذب، وتعازي الاستسلام: انها تثق بالبشر " – سيمون دي بوفوار الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.
لعل اكثر ما يثير الانتباه ونحن نقرأ سيرة سيمون دي بوفوار، هو ارادتها الواضحة والصريحة في تقديم صورة لمراحل تطورها الشخصي. حيث حاولت ان تبين اسباب تحررها، وتعطي الاولوية للإرادة التي منحتها قوة حياتها. وتكشف للقراء ان هذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة او العاقلة " اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل ثقافتها، كانت دائما على وعي بقدرتها على تاكيد ذاتها.كانت هذه الفتاة وهي تسعى إلى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية البرجوازية، تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان "، وقد ساعدها هذا الموقف أن تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي - لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف: " كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عندما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها أن تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها الشهير " الجنس الآخر" والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف.
ولدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دو بوفوار في صبيحة يوم التاسع من كانون الثاني عام 1908، وهي اكبر ابنتين لاسرة من الطبقة البرجوازية وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى تواجه الافلاس، والدها من محبي الادب والفلسفة، وفي شبابه راودته فكرة أن يصبح ممثلا، ولكن الخشية من العائلة المتزمتة جعلته يدرس الحقوق، ليصبح موظفا، وكانت والدتها من عائلة غنية محافظة دينيا، فربت ابنتيها " سيمون وهيلين " على الطاعة الدينية، وستخبرنا سيمون دي ببوفوار ان تاثير امها كان كبيرا عليها، حتى انها قررت عندما كانت صغيرة ان تصبح راهبة، دخلت المدرسة الكاثوليكية، لكنها ستتمرد على واقعها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها، الأمر الذي دفع والدها لأن يقول " انها تفكر كرجل ". في مذكرات فتاة رصينة تتذكر صراعها مع الواقع الذي كانت تعيش فيه، فهي رافضة لافكار عائلتها البرجوازية الخانقة، وفي الوقت نفسه كانت حائرة كيف تتصرف كفتاة في مجتمع يرى ان قدر المراة هو بيت الزوجية.اصبحت تشعر بالملل، قالت لأمها ذات يوم: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل؟ ". بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد: " علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة أو مفرحة، لأنها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت أن تعيش حياتها، لأنها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا أن تصنع حياتها بنفسها، " أن تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير "، وتعترف في " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالإلتزام نحو العائلة: " في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ".
عاش والدا سيمون في عالمين مختلفين، فالأب كان يرى ان الديانة من شأن النساء والاطفال. كانت مفاهيمه علمانية، اضافة الى انه ينتمي إلى اليمين المتشدد، وينظر بحذر الى الاجانب وينتقد الحركات اليسارية، اما الام (فرانسواز دو بوفوار) فكانت مصممة على تطبيق التعاليم التي تلقتها في مدرسة الدير، لتكون ربة بيت مثالية، وستقول سيمون دي بوفوار فيما بعد " ان المسافة الفكرية بين والديها كانت بمثابة مصدر يدفعها لأن تصبح مثقفة " - توريل ماي سيمون دي بوفوار ترجمة قاسم المقداد -، تصف امها بانها كانت " رقيقة، مرحة وكانت تقول لابنتها: انما مني انا تستمدين حيويتك " – موت عذب جدا ترجمة كامل العامري -. قررت الام ان تدخل ابنتها سيمون مدرسة الراهبات وستقدم بوفوار صورة بائسة للدراسة فقد كانت المعلمات " غنيات بالفضيلة اكثر من الشهادات "، تقترح على امها ان تنتقل للمدارس الحكومبة حيث الدراسة فيها اكثر فائدة، بعد اجتيازها مرحلة الثانوية تتوجه لدراسة الرياضيات واللغات في معهد سانت ماري، في المرحلة الثانوية تطمح لأن تصبح " مؤلفة مشهورة "، وكان السبب اعجابها الشديد بالكتب التي تقرأها. تدرس الفلسفة الأمر الذي اثار استياء والدتها، فالفلسفة تفسد الروح على نحو مميت، لكن في النهاية رضخت العائلة لاصرار الابنة البالغة من العمر الثامنة عشر عاما، فسمح لها باكمال دراستها الفلسفية في السوربون.عام 1929 وجدت سيمون دو بوفوار ضمن اكثر من 70 طالب تقدموا لامتحان شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت في الـ " 21 " من عمرها، تقدمت برسالة عن الفيلسوف الالماني " فجوتفريد فيلهلم ليبنتز " حصلت على المرتبة الثانية وكان صاحب المركز الاول جان بول، فيما كانت سيمون دي بوفوار اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية.
الحديث الاول مع سارتر تم في المكتبة الوطنية عندما قدم لها هدية عبارة عن صورة للفيلسوف الالماني " ليبنتز "، وكما تقول في " مذكرات فتاة رصينة " ان سارتر حاول التقرب منها لكنها كانت حذرة منه، تُقدم لاختها هيلين صورة كاريكاتيرية عن سارتر: " قصير جدا، يضع على عينيه نظارتين، وقبيح جدا "، كانت قد سمعت الكثير من القبل والقال عن هذا الطالب المعتد بنفسه، في مذكراتها نرى سيمون دي بوفوار تلك المراة الشابة التي كانت تتهيا لخوض غمار الحياة من دون نصير قبل ان تتعرف على سارتر الذي وجدت فيه شخصا متميزا: " التقيت رفيق الرحلة الذي كان يسير في نفس الطريق بخطوات اكثر ثقة من خطواتي " – قوة العمر -
وضح لها سارتر منذ البداية بانه لايهتم لموضوع الارتباط، فالحب بالنسبة اليه حب الشخص بصفته كائنا حراً، في البداية وجدت بوفوار اراء سارتر مخيفة، فعلى الرغم من انها تعلن في مذكراتها ازدرائها لفكرة الزواج، إلا انها في مراهقتها كانت تحلم بالزواج من ابن عمها جاك، فيما بعد ستكتشف ان علاقتها بسارتر منحتها مفهوما وجوديا للحياة فتكتب في مذكراتها: " بما اننا افراد مستقلون فنحن احرار. إنها ليست سهلة تلك الحرية، إنها تجلب معها ألم الاختيار، إنها تاتي مع عبء المسؤولية ".
في السنوات التي عاشها معا حتى لحظة رحيل سارتر عام 1980، حافظ سارتر وبوفوار على معتقداتهما بالحرية الفردية المطلقة.في واحدة من رسائله كتب سارتر الى دي بوفوار: " ثمة شيء واحد لا يتغير ولا يمكن ان يتغير هو انه مهما حدث ومهما اصبحت ساصبحه معك " فيما كتبت بوفوار في الجزء الاخير من مذكراتها: " كنت اخادع حين اعتدت ان اقول باننا كنا شخصا واحدا، فالانسجام بين شخصين لايُمنح ابدا، ينبغي ان يكتسب دائما على الرغم من العقبات " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.
كانت سيمون دي بوفوار اثناء دراستها تحاول الاستفادة من معظم حقول المعرفة وفي يومياتها تقدم لنا خارطة لقراءاتها: " قرأت برغسون وافلاطون وشوبنهاور وليبتنز، وخصوصا نيتشه، وكان هناك عدد من الموضوعات تشعلني: قيمة العلم والحياة والمادة والزمن والفن، لم تكن عندي نظرية محددة.. واستعدت حبي للادب فقرأت بريتون واراغون، واستولت عليَّ السيريالية، وباخت في نفسي فلسفة القلق والحيرة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي -. بعد سنوات قليلة ستحاول أن تثبت نفسها فيلسوفة وجودية الى جانب سارتر وميرلوبونتي حيث تصدر عام 1943 اولى رواياتها " المدعوة " وهو نفس العام الذي صدر فيه كتاب سارتر الشهير " الوجود والعدم "، يصف ميرلوبونتي " المدعوة " بانها طريقة جديدة لممارسة الفلسفة الوجودية. هي أولى مغامرات بوفوار الفلسفية. إنها مثال واضح على ما تسميه بوفوار بالرواية الميتافيزيقية، حيث يظهر لنا من الرسائل المتداولة بين سارتر وبوفوار ويوميات بوفوار في تلك الفترة، أن سؤال الآخر ومفهوم الوجود كانا يشغلان بال دي بوفوار، ولهذا حاولت أن تقدم في روايتها شخصية امرأة حائرة بين وضعها الوجودي الفريد والظروف الاجتماعية التي تعيش فيها.
لم تنتظر دي بوفوار طويلا لتقدم لنا ارائها الفلسفية في كتاب بعنوان " نحو اخلاق وجودية " – ترجمة جورج طرابيشي، ويعتبر اول كتبها الفلسفية، تناولت فيه العديد من المسائل الفكرية والسياسية، وطرحت اسئلة من عينة: كيف يمكنني أن أرغب في أن أكون ما أنا عليه؟ كيف يمكنني أن أعيش حريتي المحدودة بشغف؟ هذه الأسئلة الوجودية ستؤدي إلى الأسئلة الأخلاقية والسياسية التالية: ما هي الأفعال التي تعبر عن حقيقة حالتنا؟ كيف يمكننا العمل بطريقة تخلق الظروف التي تدعم إنسانية البشر؟. والسؤال الاهم: ما هي علاقتي بالآخر؟ لتصل الى نتيجة مفادها، أن العالم يتشكل من خلال الخيارات البشرية، ومهما كانت هذه الخيارات، فانا لي خياري المستقل، ولا يمكنني دعمه دون مساعدة الآخرين، والحقيقة الماثلة هي أن قيمي لن تجد لها مكانة في العالم إلا إذا احتضنها الآخرون، ويتم ذلك من خلال بجعل قيمي قيمهم.
تؤكد دو بوفوار أننا بصفتنا كائنات حره، فنحن بحاجة إلى التواصل مع الآخرين وجذبهم لمشاركتنا في مشاريعنا الخاصة، وعليه تتمثل المشكلة الأخلاقية الرئيسة هنا في كيفية تجاوز عزلة الحرية لخلق مجتمع من الحلفاء، وذلك من خلال النظر إلى ضرورة احترام حرية الآخرين، وان امكانية تحقيق هذا الهدف، تتم من خلال الاستناد إلى الحوار والتواصل بين الأفراد. وتمضي دي بوفوار لتقول نحن نصنع الآخرين بقدر ما نصنع انفسنا، أن علاقتنا بالآخرين ليست مفروضة علينا من قبل، ولا هي ثابتة على نحو معين، بل هي حصيلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله، وعلى ذلك بامكاننا أن نوسع الى ما نهاية لعالمنا أو نضيقه الى اضيق الحدود. ورغم ما نحققه من افعال وغايات، ستظهر لنا حدود وقد نتساءل إن كان لكل شيء نهاية فلماذا لانتوقف من البداية، لكن الواقع ان الانسان لا يتوقف انه كما تصفه سيمون دي بوفوار " كائن الابعاد " وعليه ان يواصل مغامرة الحياة الى ابعد الحدود، وحتى الموت لا يمكن ان يكون نهاية الحدود، ذلك لأن مشروعات الانسان تتجاوز الموت، فالانسان على مدى تاريخه يبحث عن " ان يكون " لأن: الحياة التي يتركها المرء وراءه ليست شيئا جامدا (اي مستحيلا) بل انها حياة انسانية. وحينئذ يمكن للمرء أن يقول هذه هي الحياة التي حياها " – فرانسيس جانسون سيمون دي بوفوار ترجمة ادورالخراط -.اما عكس ذلك فهو خضوع الانسان للاشياء وتسليمه بالقواعد الموضوعية والقيم المطلقة، وفي هذا الغاء لحريته ووجوده، وهنا تنحسر عن الانسان روح القلق ازاء القيم الموضوعة الجاهزة، وتهاجم سيمون دي بوفوار هذه الروح وتنتقدها وترى انه يتجلى فيها هروب الانسان من حريته. تردد بوفوار انه لا يكفي للمرء ان يفهم اوهامه حتى يتحرر منها.فقد كانت تصر ان تكون حياتها " قصة جميلة " لكنها تكتشف فيما بعد: " سلمت اخيرا بان حياتي لم تكن قصة ارويها لنفسي.. بل مصالحة بيني وبين العالم ". كانت سيمون دي بوفوار فيلسوفة ملتزمة بالرأي القائل بان هوية الانسان تتجدد بافعاله، ونجدها تمضي بوفوار في تطوير فلسفتها الوجودية لتعلن في كتابها " مغامرة الانسان " بأنه من غير المنطقي ان يُعلي المرء شأن حريته دون ان يفعل الشيء عينه حيال حرية الآخرين تكتب: " اننا نسعى في غالب الاحيان الى تحقيق كينونتنا دونما عون: اسير في الريف، اقطف زهرة، أركل حصاة. افعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من احد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى اشعر بالحاجة إلى ان اقصها على صديف " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -.
ليس غريبا ان يرتبط اسم سيمون دي بوفوار بقوة بجان بول سارتر، إلا اننا لا يمكن أن نختزل بوفوار بأنها مجرد كاتبة. لاشك ان لسارتر تاثيرا كبيرا على تفكيرها، غير ان العكس ايضا صحيح حيث مارست من جانبها تاثير على وجودية سارتر، تكتب ماريا فاوسيه ان: " وجودية سارتر كانت ستبقى جامدة لولا مساهمة بوفار " – هكذا تكلمت سيمون دي بوفوار ترجمة رحاب منى شاكر –، فبينما كان سارتر ميالا لأن يصنع من الفرد مخططا متوجدا، كانت بوفوار ترى الانسان ضمن علاقته مع الاخرين. غير ان المنطلقات الفلسفية التي اعتمدها كل من سارتر ودي بوفوار لا يمكن فصل بعضها عن بعض، فجميع النصوص التي كتباها بشرت بفلسفة حول الانسان ككائن متفرد تتجلى من خلاله مصطلحات الحرية والمسؤولية الذاتية: " ان تعريف الانسان بالحرية فد بدا دوما ميزة الفلاسفة المتفائلين، فمن المغالطة اعتبار الوجودية مذهبا بائسا، فهي ابعد ما تكون عن ذلك. ان الوجوديين ابعد ما يكونون عن إنكار الحب، والصداقة، والاخاء، حتى انهم يرون أن كل فرد يستطيع في هذه العلاقة الانسانية فقط أن يجد اساس وجوده واكتماله " – الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.
خلال حياتها وبعد وفاتها هوجمت سيمون دي بوفوار وسخر منها كثيرا واعتبرت " امرأة منحرفة "، لانها رفضت ان ندخل في الوجود الانساني باسم مبادئ اخلاقية واجتماعية مطلقة ودعت الى النشاط والعمل قبل كل شيء وقالت: " انه حتى اذا كان الثمن هو القلق الدائم يجب على الانسان ان يرفض تلك الثقة الكسولة في شيء آخر سوى نفسه ".
ترجمت كتب سيمون دي بوفوار الى اكثر من ثلاثين لغة، ولاقت في السنوات الاخيرة اهتماما كبيرا، فَحولها اليوم عشرات الكتب من السير والدراسات والمذكرات. إلا ان علاقتها بسارتر كانت الأبرز بالنسبة للذين يُقبلون على معرفة اسرار حياتها..
في الصفحة الاخيرة من مذكراتها تكتب: " قال لي سارتر يوما إن لديه شعوراً بأنه لم يؤلف الكتب التي حلُم بها في سن الثانية عشرة. أنا اختلف عنه، طبعا ليس في استطاعة احد ان يواجه مشروعاً غامضاً ولا متناهيا بكتاب منجز ومحدد. لكني لا أشعر بالفجوة بين النوايا التي دفعتني لتاليف كتب وبين الكتب التي امكنني أن أنجزها. لم اكن موهبة في الكتابة. لم املك مثل فرجينيا وولف وبروست وجويس، القدرة على تحريك العواطف والقبض على العالم الخارجي في كلمات. لكنها لم تكن غايتي. أردتُ أن أوجد في عيون الآخرين." – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي –
في مساء الرابع عشر من نيسان عام 1986 اعلن عن وفاة سيمون دي بوفوار، كانت تعاني في سنواتها الاخيرة من التهاب رئوي، تمنت ان تقام لها جنازة شبيهة بجنازة رفيق رحلتها، إلا ان سارتر تفوق عليها بعدد مشيعيه الذين تجاوزوا الـ " 50" الف، نفذت وصيتها بان دفت الى جواره، وكانت قبل وفاتها باسابيع قد كتبت: " لقد فرقتنا وفاته، ووفاتي لن تجمعنا، وهكذا بالرعم من أن حياتنا كانت متوافقة ولأمد طويل ".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية