شهادات ومذكرات

إنتزال الجبوري: الإمام علي شخصية عابرة للزمان واختلاف الملل والأديان

اختصر الرسول (ص) الإشادة بشخصية الإمام علي بأبلغ أقواله: )أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي من بعدي)[1]، و(أنا مدينة العلم وعليٌ بابها)[2]، واختصر علينا التعرّض لشخصية عبقرية بكل الأبعاد التي لم ينجب مثلها التاريخ بعده(ص).

الإمام علي تفرّد بشخصية مختطفة الأبصار، محيية الضمائر، مستفزة العقول بمختلف روافدِها ومشاربِها ومآربها، دفّاقة بالقيم والمعاني الرصينة التي منها يستلهم أهل العلم والقلم، وأهل الحِكَم، وأهل الدين، وأهل السياسة، وأهل الإجتماع، لإرساء حياة قارة مطمئنة ذات ركائز متينة.

في  نهج علي بنود كثيرة فيما يخص نظم الحياة الإنسانية في مختلف جوانبها الإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية برمّتها دون تصنيف، ولا يمكن الإلمام بكلها؛ لكن يمكن التعرض لثلاثة منها؛ هي: الحرية؛ والإصلاح؛ والعدالة.

تجلّى بند الحرية أولا في أحاديث الإمام علي فكان منها(لا تكن عبدَ غيرك وقد خلقك الله حرا)[3]، و(أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار)[4]. وفي قوله لشيخ حضر غزوة صفين(ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين)[5].

في هذه الأحاديث إشارة الى أن الله (جل وعلا) وهب الناس هبة الحرية التي لا يحق لأحد أن يسلبها منهم ويستعبدهم. أراد لهم أن يعيشوا أحرارا، ويرفضوا أيَّ شكل من أشكال العبودية والإذلال تحت سلطة أي إنسان كان. أراد للإنسان أن يحترم ذاته أولا، ومن ثم الآخرين. أن يكون حرا في خياراته، في أفكاره وأراءه. حق الاختيار له مشروع مشروط بعدم إلحاق الضرر بحرية الآخرين. وتجنب الانطواء على الذات ورغباتها بشكل مبالغ به والوقوع في المعاصي، وعبودية المال وإغراءات المادة، وعبودية وتقديس البشر من ملوك، وسلاطين، وأمراء، وقادة، ومشاهير. التحرر من عبودية الذات والآخر هو أبلغ صور الحرية.

ألقى القس سامي حلاق اليسوعي كلمة في إحدى المناسبات الدينية بعنوان(تأسيس مفاهيم الحرية في عقول الناس على نهج الإمام علي عليه السلام) هذا مقطع منها:

"إذا تأمّلنا أقوال الإمام علي عليه السلام، نرى أنّه يعتبر الحريّة أوّلاً هي قدرة الإنسان على التقرّب من الله. أنا حرّ بمقدار ما أستطيع أن أتقرّب من العزّة الإلهيّة... كلّ مفاهيم الحرّيّات الشائعة بين الناس: حريّة التعبير، حريّة الفكر، حريّة التصرّف، عليها أن ترتوي من نبعٍ واحدٍ وحيد وهو الله... ولكي يتمكّن من ذلك، ليس أمامه إلاّ الزهد. «مَن زهِدَ في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربّه». المفهوم الثاني للحرّيّة في فكر الإمامِ عليّ هو أنّ الحرّيّة مسيرة. إنّها ليست نقطة وصول كما يعتقد بعضهم، وليست حالةً جامدة كما يظنّ آخرون. إنّها مسيرة. مسيرة جهد شخصيّ... يقول الإمام عليّ عليه السلام: «مَن قام بشرائط العبوديّة أهلٌ للعتق، ومَن قصّر عن أحكام الحرّيّة أعيد إلى الرِّق». هذا القول مدهش! كيف يستطيع الإنسان أن يصبح أهلاً للحريّة إذا قام بشرائط العبوديّة؟ الحرّيّة هي من هذا النمط. إنّها قيام الإنسان بشرائط العبوديّة. إنّها فنّ قبول الحتميّات والتنسيق بينها، والبناء على أساسها لا السعي إلى إلغائها. الحريّة هي مكان دمج جميع ظروفنا البيولوجيّة والاجتماعيّة والنفسيّة. إنّها المحور الّذي يتحمّلها وينسّق بينها، لتتمكّن العجلة من الدوران، والحياة من التقدّم. فبمقدار ما يستطيع الإنسان أن يقبل بوعيٍ ما يحدّدُه، أن يقوم بشرائط العبوديّة، يتصرّف تصرّفاً حرّاً، تصرّفاً إنسانيّاً حقّاً. الحرّيّة هي أن أقبل ذاتي كما أنا - أو كما لستُ عليه- لأكون فوق ذلك أو بعيداً عنه. في الختام، أوجزُ ما قلتُه بعبارةٍ للإمام عليّ عليه السلام: (الحرُّ حرٌّ ولو مسّه الضرر، والعبدُ عبدٌ وإن ساعده القدر)."[6]

شجاعة علي صورة من صور الحرية التي انطوت عليها شخصيته؛ شجاعته لم تتجلَّ في الحروب والغزوات فحسب، بل في كل مفردة انطوى عليها شخصه العظيم، والشجاعة تتطلب الصدق، وقول الحق ولو على النفس. هذه حرية علي وشجاعته التي قال عنها(ما ترك لي الحق من صاحب).

أن تكون حراً عليك التسلح بالشجاعة بكل معانيها، وثمن الشجاعة الحقة باهض جدا، لكنها تُجلي حقيقة؛ هي قوة النفس والقدرة على تجاوزها، والتحرر من صنمها، ومن كل الأصنام البشرية، وغيرها.

والحرية إذا كان فيها مبدأ فإن ليس لها نهاية. هي سلوك سيّار ودينامي في كل مسيرة حياة الإنسان منذ بواكير طفولته حتى شيخوخته.

البند الثاني في نهج علي هو الإصلاح، وقد تجلى ب"اختيار الولاة والعمال، فقد ركز فيها على الشؤون الإدارية للولاة والعمال وكان ميالا بحزم الى الخاصية التنظيمية والإدارية لاسيما ذات الصلة بالحكم؛ ففي فلسفة الإمام كانت واحدة من حكم القرآن الكريم إيجاد التنظيم والنظم في المجتمع؛ إذ يقول في وصفه(ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم)"[7].

بند الإصلاح في نهج الإمام علي مختلف؛ ولا أريد التوغل فيه بشكل أعمق لأن شرحه واسع  لكن أذكر نقطة واحدة فيه أساسية؛ هي:

إحدى شروط الإصلاح حرية التفكير أولا، ومن ثم وعي المجتمع بماهية الإصلاح بمختلف الصعد الإجتماعية، والثقافية، والتربوية، والسلوكية، والسياسية، والإقتصادية، ثم القدرة على تقبّل فكرة الإصلاح. وآفة المجتمع الجهل، وآفة الجهل الجهل المركب، والجهل لا يقتصر على عدم التعلم، إنما الجهل بالواقع بكل جوانبه، وبشكل تفصيلي. وإذا تحقق الشرطان الأوّلان حرية التفكير والوعي، هل يتحقق الشرط الثالث الذي هو قدرة المجتمع بكله على استيعاب الإصلاح، الذي يقوده نحو شاطئ الخلاص؟

بالطبع لا ، بسبب وجود عناصر في المجتمع لا تريد الإصلاح لأنه يحبط طموحاتها للتسلق على أكتاف العامة بشتى السبل لتحظى وتحتفظ بامتيازاتها، كالقيام بمحاولات شتى لإبطاله. الطبقة ذات المصالح الخاصة تلتف حول عملية الإصلاح الحقيقي -مثلا - كأن تطرح نفسها هي المصلحة وذلك بالتدخل في شؤون العامة، أو في شؤون طبقة من المجتمع واعية تريد التغيير، فتدرس حالتها، وتبدأ بصياغة برنامجا يتواءم ورغبات الطبقة الواعية وترفع شعاراتها، حتى تنثال عليها بالتأييد والتصفيق، وبعد أن تضمن التأييد، وتصل الى منصب ما، فإنها تضرب الوعود التي قطعتها عرض الحائط، وبذاك تسرق طموح الطبقة التواقة للتغيير، كما حصل ويحصل في العراق الآن – مثلا. أهل المصالح الخاصة كثيرون في المجتمع، وهم الذين يشرعنون الفساد، ويقفون حائلا دون الإصلاح، وهذا أصعب شروطه، والقرآن الكريم أشار الى هذه الحقيقة بقوله:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا)[8]، إشارة الى وجود نوعين من الناس سمّاع للحق وتوّاق لإحقاقه، وسمّاع للباطل وتوّاق لإحلاله، كما عبر عنهم الإمام علي: الناس رجلان متّبعُ شرعةً ومبتدعُ بدعة. لذا نرى دائما أن المصلحين، أو كل من لديه برنامج للتغيير والإصلاح محاربون في مجتمعاتهم، ولا تنجح على العموم حركاتهم الإصلاحية إلاّ نادرا، بسبب تجذّر الجهل، والإستبداد بالرأي، والتبعية بكل ألوانها، والفساد، وهي عوامل تُعد من الآفات التي تحول دون تحقق الإصلاح.

التغيير في المجتمع خطوة أولى نحو الإصلاح، وشرطه الحرية أولا، ومن ثم الوعي بالواقع كله، ثم تنقية النفس من المصالح والأهواء والرغبات الشخصية، والنفس أولى بالتغيير (ميدانكم أنفسكم إن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر) -حسب قول الإمام علي. المقصود منها البدء بإصلاح النفس، ثم الأسرة، والمجتمع، وانتهاء برأس السلطة.

أما البند الثالث في نهج علي فهي العدالة؛ فقد تجلت عدالة علي  بأنه"لم يحرض أو يسقط من اختلف معه أو بسبب عدم الطاعة والولاء. بل العكس كان يسعى إلى فتح باب الاستماع والرد والتوضيح، الرأي بالرأي، ويضمن لهم الحياة والمعيشة بأمن وأمان وسلام وكرامة مع حصولهم على كافة الحقوق والحريات، محفوظة ومكفولة للجميع في دولة يحكمها أمير المؤمنين"[9]. تجلت العدالة في حياته الخاصة حينما قال:"لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى"[10]، فينصف الفقير من نفسه وقال موكدا العدل في الحكم: "وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها"[11].

في عدالة علي لا فرق بين جميع أفراد المجتمع فالكل سواء فيها. لا تسعد البشرية ما لم يُطبّق العدل في نظام الحكم، ويخضع الجميع للقانون دون تفريق واستثناء لأحد دون الآخر. عدالة علي صارت أنموذجا لكل توّاق الى العدالة على مر الأزمان لأن في عدالته الطريق الأسلم للبناء، والإصلاح، والصلاح.

ثقافة الأحتواء وتقبّل تعددية الآراء والأديان والاتجاهات إحدى صور الحرية والإصلاح والعدالة في شخص الإمام علي. وتجلت فيما رسمته ريشة حكمته العظيمة في واحدة من شذراتها؛ إذ أوصى مالك بن الأشتر النخعي حين ولاه مصر:

"يا مالك إن الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدَّين أو نظير لك في الخلق"، هذه الحكمة الشجاعة التي بلّغت البشرية رسالة مفادها قبول التعددية والإختلاف، والعيش بسلام ووئام، ولم تلبث هذه الحكمة في مكانها وزمانها بل اخترقت الآفاق والأزمان، فبلغت مداها أهم هيئة عالمية وهي هيئة الأمم المتحدة إذ خُطت في لائحة حقوق الإنسان واحتلت البند الثاني منها، ونطق بها أمين الهيئة كوفي عنان، واستطرد قائلا: هذه العبارة يجب أن تعلّق على كل المنظمات العالمية؛ وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية.

"صدر في العام 2002، تقرير للأمم المتحدة تمّ بموجبه اعتبار الإمام علي (عليه السلام) رائد العدالة الإنسانية والاجتماعية، وقد تضمَّن التقرير مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) الموجودة في نهج البلاغة، التي يوصي بها عمَّاله، وقادة جنده، حيث يذكر التقرير أنَّ هذه الوصايا الرائعة تُعدُّ مفخرة لنشر العدالة، وتطوير المعرفة، واحترام حقوق الإنسان. والتقرير شدَّد على أن تأخذ الدُّول العربية والإسلامية بهذه الوصايا في برامجها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، فالعرب يستوردون الأفكار الغربيّة عن الإنسانيّة والعدالة، ويتركون هذا التراث الغني الثرِّ بأنقى وأرقى المعاني الإنسانية، والمباني القانونية في العالم."[12]

شروط الإمام عليّ (ع) للحكم والحاكم الصالح، وردت في نهج البلاغة، في قوله: (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ)[13].

مقولات كثيرة صدرت عن مشاهير وأعلام وكتّاب في الإمام علي أنتقي إثنين منها:

الأولى لميخائيل نعيمة:

هل كان علي عليه السلام من عظماء الدنيا ليحق للعظماء أن يتحدثوا عنه، أم ملكوتيا ليحق للملكوتيين أن يفهموا منزلته؟ لأي رصد يريد أن يعرفوه أهل العرفان غير رصد مرتبتهم العرفانية؟ وبأية مؤونة يريد الفلاسفة سوى ما لديهم من علوم محدودة؟ما فهمه العظماء والعرفاء والفلاسفة بكل ما لديهم من فضائل وعلوم سامية؛ إنما فهموه من خلال وجودهم ومرآة نفوسهم المحدودة، و علي غير ذلك.

والثانية للأديب سليمان كتاني في كتابه عن الإمام علي المعنون: الإمام علي نبراس ومتراس:

بهذه المناجاة أحببت أن أقرع الباب في دخولي على علي بن أبي طالب، وأنا أشعر أن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب. والحقيقة، أن بطولته هي التي كانت من النوع الفريد، وهي التي تقدر أن تقتلع ليس فقط بوابة حصن خيبر، بل حصون الجهل برمتها، إذ تتعاجف لياليها على عقل الإنسان.

لا يمكن الإحاطة بسمات شخصية اخترقت حدود الزمان والمكان كشخصية الإمام علي، إذ حظيت بإعجاب وتقدير واحترام كل من عرفها من السابقين واللاحقين؛ فضلاء، وعلماء، وبلغاء، وفلاسفة مسلمين وغيرهم، واحتاروا بنعتها. وانبهروا بشخصيته حتى بلغت حدّا جعلها أمثولةً نادرة قل نظيرها عبر الدهور والأزمان، لتجلّي كل الفضائل والشمائل فيها.

في نهج علي؛ ما لم تكن حرا شجاعا لم تكن مصلحا، وما لم تكن مصلحا لم تكن عادلا.

***

إنتزال الجبوري

...................

[1]  ابن هشام. السيرة النبوية، ج4، والشيخ الطوسي، الأمالي ، ص261.

[2] الميلاني، السيد علي الحسيني. عبقات الأنوار، ج14،ص744.

[3] نهج البلاغة، قصار الحكم رقم:78.

[4]  المحمودي، محمد باقر. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج1. بيروت: مؤسسة الأعلمي، ص198.

[5]  الكليني. الشيخ محمد بن يعقوب بن أسحاق. الأصول من الكافي. طهران: دار الكتب الإسلامية، ط3، 1388هـ.ش، ص155.

[6] حسن. علي. الحرية عند الإمام علي . موقع الولاء الإلكتروني.

[7] الجيلاوي. أ م د. محمد خضير عباس. إصلاح المنظومة القيمية الإدارية في فكر علي بن أبي طالب(ع). النجف الأشرف: كلية الطوسي – قسم علوم القرآن الكريم. (بحث).

[8] الإسراء-41.

[9]  آل غراش، علي. الإمام علي أيقونة العدالة وفخر البشرية. في موقع شبكة النبأ المعلوماتية(إسلاميات).

[10]  نهج البلاغة، ج3، ص72.

[11] نهج البلاغة، الخطبة 136.

[12]  الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) شعار للعدالة الإنسانية بنظرالأمم المتحدة. موقع مؤسسة الإمام علي بن أبي طالب للدراسات والتوثيق(26/2/2022).

[13] نهج البلاغة، خ 68.

 

في المثقف اليوم