شهادات ومذكرات
بهجت عباس: كيف دخلت الفولكس واگن البرازيلية إلى العراق عام 1972؟
أعلمني الدكتور پـیـپـر (المدير العام للدعاية في شركة ميرك الألمانية للأدوية) أن شركة برنتاغ (دوسلدورف) لشراء وبيع النفط لها الرغبة في الدخول إلى السوق العراقية لشراء النفط العراقي بالمقايضة بمنتوجات ألمانية من مكائن وكهربائيات وسيارات وغيرها، وأنّ معاون مديرها السيد فيرأك سيأتي بغداد إن وافقت شركة النفط الوطنية (إينوك) على مثل هذه المقايضة. أتّصلت بالدكتور فاضل (مدير التسويق) وأعلمته فرحّب ووافق. وصل السيد فيرأك إلى بغداد ليلاً (كان الدكتور پـیـپـر يسمّي بغداد عندما يصلها ليلاً ويراها من الجو بقلعة النور Lichtenburg ) فاستقبلته في المطار وأوصلته إلى فندق بغداد. وفي الصباح ذهبت معه إلى (إينوك) وإلى مديرية التسويق فقدّمته إلى الدكتور فاضل فرحّب به وتفاهما مبدئياً على الخطوات الأساسيّة لهذه المقايضة ونوع البضاعة الألمانية. لم يبق السيد فيرأك سوى يومين وبعدها غادر إلى ألمانيا على أن يأتي ومدير الشركة السيد رومِلْمان فيما إذا وافقت إينوك على الاقتراحات التي قدّمها. كانت زيارة السيد رومِلْمان خاطفة، إذ لم يبقَ سوى يوم واحد وغادر وكان قد أكّد أنّ المقايضة قد تكون كبيرة وطويلة المدى وهذا مما شجّع إينوك أنْ تمضي مع هذا الاتفاق. وفي الزيارة التي تلت زيارتهما جاء ممثلان عن شركة الفولكس واگن الألمانيّة للإتّصال بالشركة العامة للسيارات لنفس الغرض، وهو المقايضة، على أنْ يكون سعر السيارة الواحدة 300 دينار. واتّصلا بالشركة العامة للسيارات التي أبدت استعدادها بشراء ألفيْ سيارة بمقايضة النفط وبواسطة برنتاغ. وتكررت الزيارات وتكررت المفاوضات وكانت الأمور تجري بصورة حسنة لولا غباء مستر مارتيني ومستر نويْهوف ممثليْ شركة الفولكس واگن الآلمانية، إذ دعوا مدير شركة الفولكس واگن البرازيلية ليتباحث مع الشركة العامة للسيارات. جاء هذا المدير الشاب ذو الشعر الأحمر وقدّم نفسه أنّه مستر (جيورجورا)، فدعوتهم إلى العشاء في أحد مطاعم شارع أبي نؤاس وأخذنا نتمشى في الشارع، وإذا بالممثل البرازيلي أخذ يقرأ لافتات المطاعم العربية. فاستغربت وسألته: كيف تعلمت العربية؟ أجابني ضاحكاً إنّه مصريّ وأن أباه كان طبيب الملك فؤاد، وهو قبطي درس في مصر وتخرج من الثانوية فيها وبعدها ذهب إلى إيطاليا وفرنسا والبرتغال وبعد أنْ درس فيها وتعلم لغاتها، ذهب إلى البرازيل وتجنس وأقام فيها وصار مدير شركة الفولكس واگن. وسيذهب غدا إلى الشركة العامة للسيارات للتفاوض معهم. عندها قلت في نفسي ، بهجت! فشلت الصفقة مع الألمان وكلّ تعبك ذهب في الشط، حيث فهمت أنّهم، حسب ما قال لي د. پـیـپـر، أنّ الشركة الألمانية ستعطيه مكافأة جيدة بعد نجاح الصفقة وسيتقاسم هذا المبلغ معي. ولكن بعد مقابلة (جيورجورا)، اسم العائلة، فقد نسيت اسمه، للشركة العامة للسيارات، أخبرني، فقد صرنا صديقين، رغم قصر المدة أو لأنّنا (أخوان) تجمعنا اللغة العربية، وقد فهم أنني ممثل شركة ميرك وإنني أساعد ممثليْ شركة الفولكس واگن الألمانية فقط لارتباط الصفقة بميرك ولا مصلحة لي غيرها. قال: عند اجتماعي بلجنة الاستيراد في الشركة العامة للسيارات لم أخبرهم أنني أعرف اللغة العربية لأعرف ما يدور من حديث بينهم، بل لاحطت رئيس اللجنة يتكلم الفرنسية (فقد تعلم في فرنسا) فأخذت أتكلم الفرنسية معه وهو مسرور متباهٍ أمام زملائه بأنه يتكلم الفرنسية (عقدة عراقي!) فقال لأعضاء اللجنة دعنا نقبل هذا العرض منه لأنه جيد! عندما أنهى السيد (جيورجورا) كلامه هذا، كتمت غضبي ولكنني هنأته وأثنيت على (شطارته) وفي اليوم التالي قلت للسيديْن مارتيني ونويْهوف إنّ جيورجورا (خمط) الصفقة منكما فقالا لا يستطيع، لأن لنا عقداً مع البرازيل يمنعهم من تصدير السيارات إلى أيّ بلد خارج البرازيل. ولكن ظهر أنّهما كانا مُخطئيْن! وهكذا لم أحصل من شركة الفولكس واگن سوى زيارة إلى معاملها في مدينة فولسبرغ (100 كيلومتر عن هانوفر مع تذكرة طائرة مجانية وليلة في فندق ذي خمس نجوم في هانوفر، ولم يكونوا متحمسين أيضاً، حيث قال لي مستر راينشتاين مدير المبيعات، عندما صعدنا على سطح المبنى ورأيتُ الساحات المتكدسة بسيارات الفولكس واگن، إنهم يصنعون سبعة الآف سيارة في اليوم و(طلبية) العراق ليست سوى بضع ساعات عمل، وإنّ هذه الصفقة لا تستحق كل هذا الصّداع وكلّ التعقيدات التي اشترطها العراق!
اما مستر فيرأك فكان جادّاً في عمله ولكنَّ خلافاً وقع بينه وبين إينوك. ذلك أنّ الدكتور فاضل طلب أن تكون 80% بضاعة و20% نقداً لأن العراق يحتاج إلى مال أيضاً نتيجة المقاطعة. ولكن فيرأك أبى إلا أن تكون كلّها بضاعة، وهكذا فشلت هذه الصفقة أيضاً. أما مقايضة ميرك، فنجحت ومرة أخرى هضمت ميرك حقوقي وأعطتني بعض ما أستحق. فقررت أن أنتهي من هذا العمل المضني وخصوصاً لا زلتُ عند فكرتي التي تمسكت بها: المال يأتي ويروح ولكن الشباب لا يعود! وشجّعني على المغادرة أنّ مدير التسويق في مديرية النفط أراد أن يضعني في مأزق كاد يودي بحياتي عندما ضغط خفيةً على زرّ وتركني وممثـلَ شركة النفط الألمانية ، السيد فيرأك ، في مكتبه لتسجيل حديثـنـا ، قائلاً إنّه سيذهب إلى مدير إينوك العام ليستشيره، فقد أحسستُ بعمله ولكني لم أكن أصدّق ، فقد كنت غشيماً (ساذجاً) حقاً في نظرتي إلى طيبة (الأصدقاء) فقد كنتُ أحسبه (صديقا) كما قال لي أو على الأقل (وفيّاً)، فأين الخبز والملح بيننا قبل ذلك اللقاء؟ وكيف نسي نصائحي الطبية له ولزوجته الطيّبة وجلبي لهما أدوية من ألمانيا ، نتيجة تقليص استيرادها إلى العراق لعدم وجود نقد كاف لدى الحكومة لشرائها. وبقيت برهةً بين مصدِّق ومكذِّب ، ولكنّ الألمانيّ الرائع فيرأك الذي يتجاوز طوله المترين قد رآه أيضاً ، فبعد مغادرته المكتب قال لي لا تتكلم إنه يسجل حديثنا.
فلم ننبس ببنت شفة إلى أن عاد من مديره. ولو كنتُ تفوّهت بكلمة (تجارية) واحدة فقط أو نصيحة بما يتعلق بسعر برميل النفط الذي يتفاوض معه عليه، وهذا من حقّي لإنجاح الصّفقة، فماذا سيكون مصيري في ذلك الوقت (1972) الذي قاطعت الدول الغربية وأمريكا النفط بعد قيام حكومة البكر بتأميم شركة النفط العراقية (IPC) وقد قال لي إنَّ هدف السيد وزير النفط أو المدير العام هو فتح أسواق ألمانيا الغربية للنفط العراقي الذي قاطعته الدول الأخرى وقد كنت مترجماً ومرشداً للسيد فيرأك ، ممثل شركة النفط الألمانية ، بناء على اتفاق مع شركة ميرك للأدوية التي كنتُ مديرَ مكتبها في العراق ، والتي أرادت مقايضة الأدوية بالنفط . وخوفي من حسد الزملاء المنافسين في استيراد أدوية الشركات التي كانوا يمثّلونها من نجاحي الذي قد يجرّ الويلات عليّ، غادرت العراق وشركة ميرك إلى ألمانيا. ودار في رأسي قول شمس الدين الكوفي بعد غزو المغول:
واللهِ ما اخترتُ الفراقَ وإنّما**حكمتْ عليّ بذلك الأيّامُ
من اليمين: فيرأك (برنتاغ - نفط) مارتيني، نوْيْهوف (فولكس واگن) وبهجت في أكلة سمك مسگوف في مطعم صغير في سامراء بعد زيارة الملوية وقصر الخلافة في سامراء (صيف 1972)
***
د. بهجت عباس