شهادات ومذكرات

جمال العتّابي: الأديب الأكاديمي (الضياء النافع)

أكاد أشك أن أخطأت أمك حين سمّتك (ضياءً)، كي لا تعرفَ غير طريقِ النور، ولا تملك غير عيون الناس، كي توقد شموع العرسان، ما أبهجَ أن أسمع صوتَك الآن. فانت الضياء  النافع في ذاكرة الثقافة العراقية، في أيِ الأعوام التقينا؟ لا أذكر أيَ الأعوام!

في ذاكرتنا عنك قصص كثيرة كنت فيها أميناً للمعرفة والأدب. ترى من الأجدر في توثيقها وكتابتها، ومهمة البحث عنها وتسجيلها؟ هي دعوة لأصدقائك وتلامذتك، وزملائك، وأخرى كذلك لقراءة نتاجك ومنجزك الابداعي الذي يتطلب وقفات كثيرة وتأمل عميق، لكي لا تمرّ تلك المنجزات من دون حفاوة، إذ تجاوزت مؤلفاتك العشرين كتاباً، ولك من المقالات والدراسات في الأدب والأدب المقارن ما يربو على 400 دراسة منشورة في المجلات والصحف المحلية والعربية والأجنبية.

من المحزن ان مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، انها قد تمنح فقط الزوايا الأكثر وضوحاً وتوهجاً، ضياء نافع الاستاذ الأكاديمي، المترجم، الأديب المثقف، بدأت مسيرته الابداعية منذ نيله درجة الماجستير في اللغة الروسية وآدابها عام 1966، ثم حصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون الفرنسية، وتفرغه للتدريس في كلية اللغات التابعة لجامعة بغداد.

إن عالمه غني بالمعرفة التي شكلت كينونته، هذه الكينونة التي راح يبحث عن أجزائها في كل ما قدّمه من منجز ثقافي، كتابة، وترجمة، ومقارنة، واستطاع هذا الانسان (النادر) تحقيق التميز والتفوق في الوسط الأكاديمي والأدبي بتأصيل تجربته الخاصة به، بما تحمل من سمات الوطنية بكل عمقها وحرارتها، متألقاً في أعماقه منيراً في ذاته، مغروساً في حدائق حياتنا.

في هذه الاطلالة المتواضعة، لست ساعياً الى التعريف بضياء نافع، فاسمه يملأ الاسماع والأبصار، لكنني أجد نفسي مديناً بشيء من الوفاء لهذا الرجل بعد عقدين من الزمن منذ أن غادر البلاد في الاختيار الأصعب، فلم يعد البلد الذي أكمل دراسته فيه وتعلم لغته عالمه الجميل والبريء، أن  يقضي حياته  فيه باطمئنان، فكانت فجيعته بابنه البكر نوار (واسمه عليه) ، استعجله الموت وهو في ريعان شبابه، هدّ خطاه، وجفّت على شفتيه غمغمات السؤال، ثم أثقلته الجراح بوفاة أم نوار.

لقد صمت ضياء منذ ذلك الحين، لا شفتاه ارتوتا بعد، ولا أفطرت على همسة أغنية، كان يلوذ بأديرة المنقطعين خلف زواياها المغلقة كان يناجي أم نوار :

أجيبي ندائي يا رفيقة عمري

مللت السكوت، وضقت بما لا أطيق

وقلت غداً تستفيق، ويشدو هزار الجنوب، ويخمد صوت الجراح، ينهدّ صوتي، وأنتِ الجدار الذي لا أريد، أنت القصيد...ستون عاماً مضن من الحب الصافي....

فأنت النداء، وأنت الصدى يا أم نوار، أهتفُ حتى أحسّ بأن لهاثي تحجر، فيرتدّ صوتي وتسقط حنجرتي، ولا من مجيب.

هكذا وقف أبو نوار على أبواب مدن كثيرة، ينصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم يفلح في استرجاع فلذّة كبده( نوار)، ولا صوت أمه، بل داهمه المرض، وأقعده.

كان ضياء يحاول تجاوز ما هو مألوف ومكرر ومستهلك يسعى للزمن الأفضل، يجد نفسه في حالة إلزام وبحث عن الحقائق في كتب بلغات أخرى، على وفق هذه المستويات المتعددة يسود الاعتقاد  ان عدداً من مثقفي اليوم يجهلون قراءة صفحات مهمة من تاريخنا الثقافي، ومعرفة أسماء مبدعيه من أجيال سابقة في ميادين الأدب والترجمة والمعرفة، والدكتور نافع ينتمي الى جيل يصعب نسيانه، إذ أسهم في إرساء الأسس الاكاديمية والتقاليد المهنية للجامعات العراقية، تلك المؤسسات الأجدر في الاحتفاء بتلك الرموز وحفظ تراثها، وزارتا التعليم العالي والثقافة، فضلاً  عن الجامعات العراقية، والمجمع العلمي، واتحاد الادباء والكتاب في العراق، وحسبي ان هذه المؤسسات قادرة على تبني هذا المشروع كمسؤولية ثقافية وأخلاقية لتجديد حيويتها، وتعزيز صلتها بالوسط الثقافي. لمن هو الأكثر استحقاقاً كي لا يطويه النسيان.

إن سيرة حياة ضياء نافع، ومنجزه الفكري والعلمي تمثل حالة فريدة من العطاء والأصالة، ومنهلاً ثراً للباحثين والدارسين وللثقافة العراقية على وجه الخصوص، فهو إنسان ومبدع، وإرث علمي بحاجة الى اليد التي تعيد له مكانته المتميزة، وتردّ له اعتباره، فالبلد الذي لا يحترم رموزه وعلماءه، انه والله لبلد عاق.

لا يميل نافع الى ذكر نسبه وأصل عائلته، ويكتفي بهذا التواضع الذي قدّم نفسه من خلاله بالرغم من أنه يمتلك جذره التاريخي الأصيل المنتمي لعائلة علم ودين، ولأنه ابن هذا الطقس الجميل توطدت صلته بالمعرفة والأدب والتراث والمعاصرة معاً، وامتلأ بالحسّ الانساني، وتنوعت تجاربه بتنوع الحياة التي خاضها، نتاج غزير متواصل مترع بالبحث والمتابعة بجد لحراك المشهدين الثقافي والأكاديمي القادر على حسن الاختيار، والمؤهل للرصانة الابداعية، المتمكن من أدواته بمهارة فائقة.

بات أمامنا التطلع الى الإرث الطيب الذي قدمه ضياء نافع للقارئ العربي عن الأدب الكلاسيكي الروسي الخالد، برؤى متدفقة كان قد أيقظ فينا الرغبة في اكتشاف أسرار الكتابة لدى الكتاب الروس الكبار، وتعرفنا من خلاله على : ميرسكي مؤرخ الأدب الروسي، وتورجنيف، واستروفسكي، وبوشكين، وغوغول، وبوشكين، وغيرهم العشرات. نافع ضمن هذا المعنى يعد أديباً ملتزماً له حضوره وموقفه، الى جانب تمثله للحداثة والحرية التي تتيحها لأبعاد الجمال كأسمى معطى للمبدع.

أي جلال هذا الذي يحيط بك أيها الاستاذ والصديق؟ أي سمو هذا الذي دعاك وأنت على فراش المرض أن تحلّق في الأعالي بأجنحة تخفق بعوالم فسيحة؟  كي أسمع عبر الهاتف أنفاسك الطيبة المتواصلة التي لاتنقطع مثل الحياة، لتغمرني من بعيد غبطة صوتك الواهن، يحمل وصفات لكل الأزمان بدفاتر بيض. كنت تريد أن تقدم لي اختصاراً لكل ذاك الزمن الذي كنت فيه منبراً عالياً لمواجهة التخلف والجهل حين يسود، يا لحسرتك! كنت تراهن على التجديد والتنوير بطريقة واعية وناضجة وحضارية! تحمل مصباحك في شوارع بغداد، في " عز طلعة الشمس" تبحث عن الأمن المنشود، لتهدأ تساؤلاتك الحائرة، كانت الدهشة على كل شفاه، يسألونك عن الحقيقة التي تاهت، مثلما بحث عنها (ديوجين) في شوارع أثينا في قلب النهار المبين.

ألا فلتظل ساهراً أيها القلب، ما دمت قد عببت كل هذه الوحدة، أن تشعر أنك وحيد، أن تدرك وحدتك، أن تكون منتزعاً من العالم وأنت تغني في هدأة الليل ليلاك، ما دمت تلمس أوراق الشجر الأسطوري التي تعيش في ظلال سحرها المقيم، وأنت ساكن تلتقط بكل احساسك المتفتح تلك الموسيقى الأثيرية الآتية من بغداد، أيها الضياء المتوهج النافع.

***

د. جمال العتّابي

في المثقف اليوم