شهادات ومذكرات

محمد نعناع: عبــد الجبــار الــرفاعي ووعيه الاعتدالي لمعادلة الوطن والدين

هو "كائــن ميتــافيزيقي"، لذلك عنده المعنى أهم من الحس، ولهذا يعيش هادئاً، ليس منزويا بل هادئا في خارجه وعاصفا في داخله، ومنبع عواصفه الداخلية يأتي من إدمانه القراءة وشغفه بها حد الظن بأنه يساويها مع العبادة، هو متطور في فكره بموازاة ثباته في التزامه بدينه، مضيء في فكره أيضا، لذلك يُحب أن يرى الله نورا على نور، يعشق العمق لأنه يُنتج الجرأة، وكاره للرثاثة، لإنها تُشوه العلم وتُعزز الكراهية.

هو أحد الرافضين للمنبهرين بالزبد، لأنه يهتم بما يمكث في الأرض، وأكبر المعترضين على مروجي الدوغما، فهو يمقت التبعية والطاعة العمياء، وبهذا انتقل من كونه مفكرا دينيا عبر تحولات موضوعية إلى أن يكون منظرا إنسانيا خلّاقا، وإن صيرورته منصة إبداعية ذاتية تحفيزية وليست تلقينية، جاء بسبب حساسيته من الواقع واستجابته لمتغيراته، وهذا ما سيجعل منه حالة فريدة في الفكر الإسلامي، وفي معادلة الوطن والدين، أو ثنائية الجغرافيا والمعتقد.

أبدع الرفاعي في مجال التطور الاعتدالي بين أن يرسخ "الظمأ الانطولوجي" ويغادر "الاجترار الفقهي" التقليدي، لقد أثبت لنفسه ثم للآخرين بأن التفوق يمر عبر التطور المعرفي، فهو يُضيف ويعدل باستمرار على كل ما يكتبه، وكل طبعة جديدة من كتبه تجد فيها تغييرا وإضافة بما نسبته أكثر من 20% من مضمون الكتاب، وهذا ما سيجعل منه مفكرا ديناميا مؤثرا، وما بدأه من (الدين وجوديا) فقد أنهاه بانصهار (الدين في الكرامة)، وما بينهما رفدنا "بـــــــالغربة الميتافيزيقية" و"بـالنزعة الإنسانية"، فهذا هو الدين في وعيه، وهو ما يجعله يتطور ويعتقد بأنه يُطور الآخرين، على الرغم من أنه ليس تبشيريا بل منطقيا إقناعيا.

في بواكيره كان متعلما على سبيل نجاة، وأصبح الآن باحثا على سبيل نجاة، ولذلك أراد أن يصنع [علم كلام جديد] فهو يعتقد بأن الكلام القديم ليس إنسانيا بل لاهوتيا محضا، وفي (مفارقاته وأضداده) و(مسراته ومخاضاته)، وهما خواتيمه الفكرية والشخصية، انبعث منه دفق اعتدالي يمكن وصفه بأنه فتحُ لأفق أوسع، أرحب من الأيديولوجيا.

حاجة الواقع المليء بالمنغصات المعيشية المهيمنة على العقليلة الشبابية لمفكرٍ كالرفاعي ستبدو حاجة في صميم الوعي، وإن أي محاولة لصناعة رأي عام معتدل متجاوز للمقولات الطوائفية ومفارق للتبعيات الدوغمائية يجب أن نجد في قلبها عبد الجبار الرفاعي وأمثاله، فهم الضرورة المُطورة لأجيال المتحفزين المقيدين بقيود المجتمع وللمحبطين المتلكئين في منتصف الطريق.

***

د. محمد نعناع - كاتب عراقي

....................

المشاركة رقم: (11) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

في المثقف اليوم