شهادات ومذكرات
طه جزّاع: رحلة على ظهر الحصان
أثناء وجوده في باريس العام 1919 للمشاركة في مؤتمر السلام بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء وهزيمة المانيا ومعها الدولة العثمانية، توفي العقيد البريطاني مارك سايكس في غرفته بفندق لوتي الباريسي جرّاء اصابته بوباء الأنفلونزا الأسبانية. وفي العام 2007 أي بعد مرور 88 عاماً على وفاته، تم نبش جثته التي دفنت حيث أملاك عائلته في مقاطعة يوركشاير الإنكليزية، وذلك من أجل أخذ عينات من بقاياه لأغراض طبية تتعلق بمعرفة طبيعة ذلك الوباء، مع احتمال العثور على فيروسات حية، سيما وأن الجثة حفظت بشكل جيد في تابوت من الرصاص. لم يكن ذلك الرجل الذي فتك به الوباء، سوى الشخصية التي ارتبط اسمها بأشهر معاهدة سرية في التاريخ الحديث تركت مخالبها على حياة العرب في حاضرهم ومستقبلهم، معاهدة سايكس - بيكو التي وقعت في العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، لاقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، ومنها منطقة الهلال الخصيب في العراق وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين، والتي صمم سايكس مع رفيقه الدبلوماسي الفرنسي جورج بيكو دولها وخرائطها وحدودها ومصائر شعوبها التي بقيت مضطربة إلى يومنا هذا.
يقدم كتاب «رحلات مارك سايكس في العراق العثماني.. خطوات قبل صناعة الشرق الجديد» هذا الدبلوماسي والكولونيل الانكليزي بوجه آخر قد لا يعرف الكثيرون، والكتاب صادر عن دار البشير للثقافة والعلوم ضمن مشروع الرّحلات الذي يتبناه المركز الثقافي الآسيوي برئاسة الدكتور أحمد عبد الوهاب الشرقاوي المتخصص في التاريخ العثماني، وهو الذي قام بترجمته والتقديم له مع زميله المترجم محمد علي ثابت استناداً إلى مجموعة مقالات نشرها سايكس في بعض الدوريات العلمية البريطانية المتخصصة في الجغرافيا والأنثروبولوجيا، تم تصنيفها إلى مقالة عن القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية، ومقالتين عن رحلات في شمال ما بين النهرين، ومقالة عن مناطق الانحناء الغربي لنهر الفرات. وفي هذه المقالات التي تنتمي إلى أدب الرّحلات يعجب المرء للعقلية الإنكليزية التي تعتمد في سياستها الاستعمارية على معلومات تفصيلية عن اصول الشعوب والأقوام والقبائل ولغاتهم وعقائدهم الدينية ومذاهبهم وسماتهم وطباعهم وعاداتهم واخلاقهم، وشجاعة أو جبن رجالهم، وحتى عن جمال أو قبح نسائهم، تستقيها من المستشرقين والرّحالة والجغرافيين والأنثربولوجيين، وهم عادة من عناصر المخابرات البريطانية، أو من الذين توظف معلوماتهم وكتبهم وتقاريرهم ومذكراتهم في خدمة أغراضها، ومنها هذا الكتاب الذي يصفه مؤلفه بأنه: «حصيلة رحلة على ظهر الحصان بلغت 7500 ميلاً، وبعض المحادثات التي دارت بيني وبين رجال الشرطة وسائقي البغال، وملالي وشيوخ القبائل، ورعاة الأغنام، والمتعاملين بالخيول، وكذلك سعاة البريد، وغيرهم من الأشخاص الموهّلين لمنحي معلوماتٍ صحيحةً وقيّمة». لقد أولى سايكس للقبائل الكردية اهتماماً خاصاً، ففي كتابه هذا ايجاز لما يقرب من مائتي قبيلة كردية، قام بتصنيفها وفق فهارس وأرقام إلى ثلاثة طوائف، الأولى وهم سكان السهول والتلال الجنوبية شبه الرّحّل، والثانية وهم القبائل الجبلية المستقرة، وطائفة ثالثة تضم بقية القبائل الكردية من الجبليّين شبه الرحل، كما يتحدث عن القبائل العربية وعن البدو، وعن أقليات تعيش بين العرب والكرد، ويضفي أحياناً بعض الصفات السلبية والأحكام القاسية على أفراد هذه القبائل والجماعات، كما يبدو على انطباعات شخصية فردية يعممها على جميع أفراد المجموعة البشرية. بل لم يستثنِ حتى المقاييس الجمالية كقوله على سبيل المثال في وصفه لنساء أحدى القبائل : « أمّا نساؤهم فهنّ قبيحاتُ الشّكل»!.
عدا عن هذه المعلومات الأنثربولوجية، فإن مارك سايكس، يقدم معلومات جغرافية وسياحية وتاريخية مثيرة وممتعة في مناطق الانحناء الغربي لنهر الفرات، ومنها حديثه عن عين العروس في مدينة شانلي أورفا التركية التي تقع مع مدينة حلب السورية على نهر البليخ بجوار حرّان، حيث يوجد عدد كبير من الينابيع، لكن مصدره الرئيسي للمياه هو عين العروس، وهي كما يصفها: «منطقة مقدّسة شهيرة، وهي الموقع الأسطوري لزواج وزفاف النبي إبراهيم، وفي وسط البُركة هناك ينبوعٌ غزير المياه، يمتلئ بكمية وافرة من سمك الشبوط وسلاحف المياه العذبة، وهذه الكائناتُ إلى جانب طيور الماء التي تملأ المكان تعتبر مقدّسة وأليفة إلى حد ما. ويُنصح الشخص الذي يرغب في طقوس نادرة أن يصلي في مسجد عين العروس، ويقدم هديةً للشيخ صالح المسئول عن هذا المكان المقدّس، ويطعم السّمك في البُركة، فالسمك أليف، وقد اكتسب ثقةً من تكرار وفود الحجيج، حتى أنّه يأكل الحبوب لديهم». ان بحيرة الأسماك في أورفا التي يسميها الأتراك «مدينة الأنبياء» مازالت موجودة ومقصداً للزوار والسائحين إلى اليوم، وهم يعتقدون أنها البحيرة التي أشعلها النمرود بالنيران ليلقي فيها نبي الله إبراهيم عليه السلام. كما يتحدث سايكس عن قلعة نجم في حلب التي يكتب بصددها: « وأفضلُ مفاجئة هي قلعةُ نجم التي بنيت في القرن الثاني عشر بواسطة السّلطان نور الدين زنكي، وهي ربّما القلعة العربية الوحيدة الكاملة في العالم». كان لمارك سايكس دوراً مهماً في اصدار وعد بلفور سيء الصيت، لكنه قام أيضاً بتصميم أعلام عدد من الدول العربية، المكوّنة من الألوان الأخضر والأحمر والأسود والأبيض، قبل أن تفتك به الأنفلونزا الإسبانية ليموت مبكراً وهو بعمر 39 عاماً، لتدفن مع جثته اسرار صناعة « الشرق الجديد « الذي لم يعد جديداً بعد مائة عام وأكثر على معاهدة سايكس بيكو.
***
طه جزّاع