شهادات ومذكرات
قاسم حسين صالح: فلسطينيان.. أحبا العراق وأبدعا فيه (2)
تناولنا في الحلقة الأولى العقل المتعدد المواهب الراحل (جبرا ابراهيم جبرا) ونخصص هذه الحلقة للدكتور الفلسطيني المولد (علي كمال) فنقول.. ولد الطبيب النفسي الدكتور علي كمال عام 1918 بمدينة عنبتا - الواقعة بضواحي جنين في عائلة مثقفة شكلت لديه اهتماما مبكرا في الأدب اسهم في تنميتها خلال الدراسة الثانوية في القدس زميله الأديب الكبير جبرا ابراهيم جبرا. ويعدّ هو واثنان آخران اشهر ثلاثة اسماء بميدان علم النفس اسهموا بتأسيس وعي سيكولوجي مبكر في العراق بالامراض العقلية والأضطرابات النفسية، الأول هو الطبيب النمساوي هانز هوف.. احد تلاميذ فرويد، هاجر من النمسا الى العراق عام 1938 وعمل استاذا في الكلية الطبية الملكية ببغداد. والثاني هو الدكتور جاك عبود، طبيب يهودي عراقي شهير من اوائل الدارسين في الكلية الطبية الملكية ببغداد ومؤسس مستشفى الشماعية.
اما الثالث فهو الدكتور علي كمال، المتخصص بعلاج الأمراض النفسية والعقلية الذي دعي من بريطانيا عام 1951 للعمل ببغداد، وتم تعيينه بتوصية من تحسين قدري رئيس تشريفات القصر الملكي في الكلية الطبية الملكية، عمل ﻓﻲ ﻣﺮاﻛﺰ ﺗﺪرﻳﺴﻴﺔ وإدارﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، وعاش وعمل في العراق استاذاً ورئيساً لقسم الصحة النفسية في جامعة بغداد طوال اكثر من خمسة وثلاثين عاما.
اللقاء الأول
كنت طالبا بالمرحلة الأخيرة بقسم علم النفس ودخل الدكتورعلي كمال ليلقي علينا محاضرة في الصحة النفسية استهلها بتبيان اهمية الصحة النفسية ووصل الى القول بأن هناك علاقة بين قوية بين علم النفس والأدب بكل فنونه لا سيما الرواية والشعر. وتوجه لنا نحن الطلبة بالسؤال: من فيكم مهتم بالأدب ويكتب في الصحف؟
كنت جالسا في الخط الأول، التفت الى الوراء فلم ار يدا ترفع، فرفعت يدي.
كنا نحن جيل الستينات نحب القراءة ولدينا شغف كبيرة بالأدب.. وكانت مقهى (البرازيلية) ملتقى المثقفين تشبه تماما مقهى هافانا في دمشق الذي التقيت فيه بالراحل مظفر النواب واجريت معه حوارا.ودار نقاش بيني وبين الدكتور علي.. ادهشني انه ليس طبيبا نفسيا فقط بل وأديبا ايضا. ولحظة انتهى وقت المحاضرة ونهض .. مد يده لي واخذني الى غرفة الأساتذة، وكنت أرى اعجابه بي من تعابير وجهه. فدعاني الى زيارته بمركز الصحة النفسية الذي اسسه بجامعة بغداد وعرض عليّ اوائل السبعينات ان اكون معه عصرا في عيادته بشارع الرشيد وكنت في غاية الفرح أن يخصني بهذا التميّز.
كنت اجلس بنفس المكتب الذي يستقبل فيه المراجعين، واصغي الى طريقة حواره مع المريض ونوعية الأسئلة التي يوجهها له.وكان احيانا يصفن وينظر لوجه المريض عرفت بعدها انها (لغة الجسد) التي يستعين بها في فهم حالة المريض.
ومن المفارقات التي ما تزال مشفرة في الذاكرة، ان مريضا دخل عليه، وبعد ان وجّه له عددا من الأسئلة، نهض ومدّ يده لي وأخذني الى الباب يسألني (شلونك بالدراسة.. ولازم تكمل دراستك) وترك المريض يحكي لحاله.ولأنني لم اطق صبرا، سألته: دكتور.. اشو تركت المراجع يحكي لوحده، فاجاب: (عوفه.. هس يخلص).. والتفت الى المريض وقال له: (ها.. خلصت؟.. يلله تعال).فاخذه الى غرفة اخرى وأنا معهما ومدده على سرير وربط برأسه اسلاكا واعطاه رجة كهربائية وارتجفت بداخلي!. وحين عدنا الى مكتبه.. شرح لي حالة المريض بأنه مصاب بشيزوفرينيا وأن علاجه هو الرجّة الكهربائية التي اعتدت عليها بعد سنوات في عملي بمستشفى الشماعية (الرشاد حاليا).
طبيب نفسي.. غزير الأنتاج بجودة عالية
أغنى الدكتور علي كمال المكتبة العربية بعشرة مجلدات في مجال تخصصه، اهمها:
النفس، انفعالالتها وأمراضها وعلاجها
النفس والجنس
أبواب العقل الموصدة - باب النوم والأحلام
فصام العقل (الشيزوفرينيا)
العلاج النفسي قديماً وحديثاً
باب العبث بالعقل
ويعدّ كتابه (النفس.. أنفعالاتها وأمراضها وعلاجها) اهمها، او لنقل اقربها الى علم النفس والناس بشكل عام لأنه كتب بلغة عربية رشيقة سلسة مفهومة، مهد له بمقولة للشاعر الأنكليزي تي اس اليوت:
(كيف أستطيع أن أفسر لكم؟.. ستفهمون الأقل بعد تفسيرها.. كل ما يمكن أن ارجو أفهامه لكم.. هي الحوادث فقط، وليس الذي حدث). وختمها بتساؤلات ما هو المريض نفسيا؟ من هو المريض عقليا؟ ما هي الأمراض النفسية؟ وما مدى أنتشارها.
ولأنني كنت ادّرس بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة بغداد مادة علم نفس الشخصية، ورغم انني مؤلف كتابا منهجيا عنها فانني كنت ادعو طلبتي الى قراءة كتاب الدكتور علي (النفس.. .)ويركزوا على فصلين الآول الخاص بالأضطرابات النفسية والثاني الخاص بالشخصية.
خدمات علمية جليلة
بدءا من خمسينيات القرن الماضي الى تسعينياته، قدّم الدكتور علي كمال خدمات جليلة في ميدان تخصصه نوجز أهمها بالآتي:
عالج عشرات الالاف من المرضى العراقيين بكل تفاني واخلاص،
حث الدولة العراقية على ارسال الخريجين للتخصص في الجامعات العالمية،
اشرف على تدريب الطلبة والاطباء حديثي التخرج مشجعا اياهم على الانضمام لهذا الاختصاص الذي لايشهد اقبالا كبيرا،
له الفضل في ارساء نظام الابتعاث الحكومي للاطباء العراقيين من اجل نيل اعلى شهادة الاختصاص والتدريب في المملكة المتحدة، واستطاع بمكانته العلمية والاجتماعية المميزة كسب تاييد الدولة في الاهتمام بالطب النفسي.
و تأسيسه للوحدة النفسية في مستشفى اليرموك التعليمي عام 1978 بدعم من الرئاسة العراقية انذاك وكانت تعد وحدة نموذجية من حيث المعمار والتنظيم والتجهيز"
يحب الحب والمرأة والفن وألأدب
في تسعينيات القرن الماضي كانت تصدر اشهر مجلة في العراق هي (الف باء) فحرصت على ان اجري حوارا معه نشر في العدد (15 آب 1990) بدأ هكذا:
(ان يعمل انسان لاربعين سنة طبيبا نفسيا فإن هذا وحده يكفي لان يجعله مشهورا فكيف اذا كان ايضا استاذا جامعيا وكاتبا مقروءا.لقد امتلك الدكتور علي كمال وسائل الشهرة الثلاث :العيادة الطبية والجامعة والكتاب فأصبح بين المعدودين الذين يحظون بشهرة واسعة) .
ودار الحوار حول موضوعات متنوعة.. الحب، الفن العراقي، المرأة، الكتابة.. وحين سألته عما يميز نفسه عن الأطباء النفسيين أجاب:
انا على خلاف الاطباء، وجهت اهتماماتي منذ البداية الى محاولة اقامة حالة من التوازن في الحياة.فلسفتي ان اترك جزءا من مشاكلي للزمن كي يحلها، فترك المشكلة ولو لفترة سيسهل تناولها.
وعن الحب والمرأة .. أجاب:
انا لم اتوقف عن الحب يوما فالحب لي وبمعانيه وعناصره الواسعة هو بمثابة الوسيلة التي اتحسس بها بالحياة، وأنه يقدّرالمرأة ويحترمها ويشعر ان الاهم في حياة الانسان هي أمه.ولابد ان يكون بين الزوج والزوجة حالة من السكن والايقاع النفسي الواحد والانسجام وأضاف:"تأكد ان 90% من الحياة الزواجية في مجتمعنا لايعيشون حياة مستقرة بسبب انعدام الايقاع النفسي فيها وما عاد الواحد منهما " يسكن للآخر ".
وعن رأيه بالفن كطبيب نفسي.. أجاب:
الفن تسامي يؤدي الى الطاقة ويحول الطاقة الى نشاطات فيها الكثير من الابداع، والحركة التشكيلية العراقية حركة رائدة سبقت مثيلاتها في الوطن العربي زمنا وفاقتها زخما وابداعا وهو واقع تقر به البلدان العربية .وما يميز المبدع العراقي انه حريص وجاد ومثابر لكن باكورة نتاجه افضل من نهاياتها.
سألته عن مزاجه عند الكتابة فقال:
" انا لا اعمل شيئا لا ارغب فيه، لا اكتب لمجاملة الكتابة .انا اكتب فقط عندما اشعر برغبة في الكتابة.. اجد فيها ما يشبه عملية الولادة عند المرأة. قد يسبق ذلك ان اقرأ لمدة اسبوع .. اسبوعين ثم اتوقف عن القراءة .. الكتابة هي ان اطاوع شيئا في نفسي .. لا اخط لكلمة واحدة الا ويكون لها معنى وسياق، وليس عندي مزاج خاص كمزاج ديستوفسكي مثلا في ان ترتب له زوجته مكتبه وتخلق له جوا خاصا .. الجو بالنسبة لي داخلي وليس خارجيا "
وفاجأني انه اعتبر القلق فضيلة بين الأدب وعلم النفس!
عليك .. بدستويوفسكي!
كنت أعرف ان الدكتور علي كمال أديبا، تجرأ وهو في بدايات شبابه بنشر مقالة بمجلة (الرسالة) قال فيها ان ترجمات العقاد عن اللغات الأخرى غير دقيقة، وأنه التقى العقاد في القاهرة وصارا اصدقاء. وقابل توفيق الحكيم، وذكر عنه معلومة غير معروفه ان "الحكيم طلب لي فنجان قهوة على حسابه وتلك من النوادر ان تحصل لأي كان لما عرف عنه من البخل!".
وذات يوم أدهشني الدكتور علي كمال لحظة قال لي: تريد تفتهم علم النفس زين وتحبه.. اقرأ روايات دستويفسكي! . فرحت اعيد قراءة رواية (الجريمة والعقاب) وشخصية بطل الرواية (راسكولنكوف) فوجدته يعاني عقدة الشعور بالذنب بعد ارتكابه جريمة القتل. ورحت اٌقرأ ما كتبه فرويد عن دستويفسكي فادهشني انه وصف دستويفسكي بانه معلم كبير في علم النفس وقال بالنص ( لا اكاد انتهي من بحث في مجال النفس الانسانية حتى اجد دستويفسكسي قد تناوله قبلي في مؤلفاته). لكن فرويد اعتبر رواية (الأخوة كارامزوف ) أعظم رواية كتبت على الاطلاق. ورحت اقرا الأبله والمقامر فوجدت ان معظم شخصياته تعاني من امراض نفسية: اكتئاب، قلق، شعور بالذنب.. .وان فرويد اعتمد على روايات دستويفسكي للعديد من الاستنتاجات التي تتعلق بمرض الصرع والقمار الذي اعتبره طريقة نفسية لمعاقبة الذات .
ترى كم من الأطباء النفسيين والأستشاريين العرب والعراقيين يجمع هاتين الصفتين الجميلتين في الدكتور علي كمال: الأهتمام بالأدب، ورعاية الطالب الذي ينبؤه حدسه العلمي بأنه سيكون متميزا؟ فضلا عن اثرائه المكتبة العربية بمؤلفات اصيلة تشيع ثقافة التفاؤل وحب الحياة بين الذين يتملكهم الشعور باليأس.
الذكر الطيب للعالم والطبيب والأديب.. النقي الوفي (علي كمال) الذي قال:
(فلسطين امي والعراق خالتي التي ربتني)
وشكرا لمؤسسة المدى التي استذكرته في امسية جميلة من أمسيات معرض العراق الدولي للكتاب كان لنا شرف التحدث فيها.
***
أ.د. قاسم حسين صالح