
ضيّفت أكاديمية الفنون والتراث العربي بلندن عازف الپيانو المايسترو سلطان الخطيب في أمسية ثقافية وفنية انضوت تحت عنوان "للسمفونية حكاياتها". وقد قدّمه وأدار الندوة الناقد الأدبي والفني عدنان حسين أحمد. وبعد التعريف بالمُحاضِر وقراءة سيرته الذاتية والإبداعية تمّ عرض بعض الفيديوهات التي تتحدث عن المحاور الثلاثة للمحاضرة وهي"القيثارة السومرية"، وقصة أورفيوس وأوريدچة التي تأثر بها الموسيقار والمُلحن وعازف الپيانو الألماني الشهير لودڤيك فان بيتهوڤن تناول فيها طفولته وصباه وتأثره بقصة أوريدچة أو "يوريدايس"، كما تناول في هذا المحور السمفونية الثالثة التي غيّر اسمها من ناپوليون پوناپرت إلى "البطولة- في ذكرى رجل عظيم" كما تطرّق إلى السمفونية التاسعة التي ألّفها بيتهوڤن وهو أصمٌّ تمامًا. أمّا المحور الثالث والأخير فقد كرّسه للروائي الياباني هاروكي موراكامي، صاحب "مطاردة الخراف الجامحة" و "الغابة النرويجية" و "إيتشي كيو هاتشي يون" وما سواها من أعمال روائية وقصصية قرأها الخطيب بإمعان لأنها تتوفر على موضوعات موسيقية لافتة للانتباه. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ زيارة المايسترو إلى المتحف البريطاني قبل يوم من بدء المحاضرة ولقائه بالدكتورة نورا الگيلاني التي تشغل منصب أمين المجموعات الإسلامية، العالم العربي، قسم الشرق الأوسط في المتحف البريطاني بلندن حيث أخذته بجولة نوعية وتوقفت معه طويلًا عند القيثارة السومرية التي أثارت عنده شجونًا كثيرة. وعلى الرغم من أنه مختص بالموسيقى الكلاسيكية الغربية على وجه التحديد إلّا أنه كان يردّد دائمًا بأنّ أصول الموسيقى الكلاسيكية موجودة في حضارة وادي الرافدين. يؤكد الخطيب بأنّ القيثارة السومرية هي آلة وترية تتميّز بصناعتها المتطورة جدًا وتختلف كثيرًا عن صناعة الآلات الموسيقية البدائية القديمة مثل الطبل والناي وما سواهما من الآلات التي لا تحتاج إلى تقنيات ومهارات عالية. أشار المايسترو أن عظمة القيثارة التي عثر عليها المنقبّون سنة 1922م تتميز بصندوقها الصوتي الذي يعتبره اكتشافًا متقدمًا جدًا ولولاه لما كان لدينا اليوم آلات موسيقية مثل الكمان أو الگيتار أو الچلو أو أية آلة وترية أخرى. فالقيثارة لها فضل كبير على كل الآلات الموسيقية الأخرى في العالم.
القيثارة السومرية.. تحفة فنية ساحرة
توقف الخطيب عند تقسيم القيثارة إلى ربع بثلاثة أرباع مع الصندوق الصوتي، واعتبر العمودين غير المتوازيين من أهم الابتكارات التي تلي الصندوق الصوتي لتثبيت الأوتار الأحد عشر التي تلتقي في نقطة محددة لتركيز الصوت. فلا غرابة أن يتساءل المايسترو دائمًا: كيف صنع السومريون هذه الآلة الساحرة ولا بد أن الموسيقى قد وصلت إلى مرحلة متقدمة في ذلك الوقت حيث أبدع المهندسون والمصممون والحرفيون في كل شيء بدءًا من صناعة الوتر، وقوة الشدّـ مرورًا بتصميم الشكل المُرهَف، وانتهاءً بنوع الخشب. لا يكتفي الخطيب بما يقرأه ويطلّع عليه من معلومات دقيقة وإنما يجترح تفسيراته وتصوراته الخاصة فهو يرى أن رأس الثور في القيثارة السومرية يرمز إلى قوة الموسيقى وتأثيرها الكبير على المجتمع. تبدو القيثارة السومرية وكأنها تحفة فنية شديدة الإتقان. علمًا بأنّ لكل آلة كرسيها الخاص بها. توقف الخطيب عند أحد الألواح الذي يعود تاريخه إلى 2600 سنة ق.م يشير إلى أنّ حضارة وادي الرافدين هي الحضارة القديمة الوحيدة التي تمتلك فرقة موسيقية كاملة. أمّا الفراعنة واليونانيون والصينيون فلديهم عازفون ثنائيون أو ثلاثيون في أفضل الأحوال. فالمجموعة الأولى في الريليف تضع أصابعها على الوتر الثاني، والمجموعة الثانية تضع أصابعها على الوتر الثالث، والمجموعة الثالثة تضع أصابعها على الوتر الأول والرابع. وهذه ليست مصادفة وإنما هي موجودة في الفرقة السيمفونية فهناك كمان أول وكمان ثانٍ، وچلو أول وچلو ثانٍ. أمّا الناس الذين يتقدمونهم في الأمام ويرفعون أقدامهم بمستوىً واحد فيمثلون الإيقاع، وهذا يعني أنّ هناك تعدد صوتي، وإيقاع، وهذا ما يسمّيه الباحث بسمفونية وادي الرافدين.
أصوات الأقراط الذهبية
يعرف المقرّبون من الخطيب أنه عاد إلى بغداد عام 1990 وبقي هناك حتى عام 1996م بعد أن أكمل دراسته في أكاديمية "فرانس ليست" للموسيقى ببودابست. وذات مرة حضر ندوة للدكتور مؤيد سعيد، رئيس هيأة الآثار العامة. وقد ورد في متن المحاضرة بأنّ هناك أدوات تُصدر أصواتًا جميلة تعود إلى 2500 سنة تقريبًا حيث تمّ اكتشاف 23 قرطًا في نهاية الثمانينات تعود للحقبة الآشورية. وكانت هذه الأقراط بحالة جيدة بعد أن تمّ غسلها بالماء والصابون لأنّ الذهب لا يصدأ. ومن الطبيعي أن ينتبه المايسرو إلى كلام المُحاضر وهو يتحدث عن الأصوات الجميلة التي تُصدرها هذه الأقراط الذهبية. فقرر على وجه السرعة أن يقوم ببحث يتضمن تحليل هذه الأصوات، وما هي المناسبات التي يرتدي فيها الملوك الآشوريون هذه الأقراط؟ فلكل قرط مناسبة كأن يشترك الملك بمناسبة دينية أو يخرج للصيد أو يقابل شخصية مهمة أو يتجه للحرب كما تشير الألواح الطينية التي تعود للحقبة الآشورية. ونظرًا لأهمية هذا المشروع فلقد رفع الطلب إلى وزير الداخلية السابق وطبان ابراهيم الحسن، الأخ غير الشقيق للرئيس العراقي السابق صدام حسين وقد تمت مقابلته من قبل ثلاثة مختصين وهم على التوالي: المايسترو سلطان عبد الغيور الخطيب، والفيزيائي محمد منير عدنان القاضي، والمهندس الإليكتروني حيدر رمزي حميد الذي كان طالب ماجستير يدرس الأليكترونيك في حينه. كما بعث وزير الداخلية من جهته شخصًا يُدعى طالب عبد سالم الذي يرجّح أن يكون عنصرًا أمنيًا أو مخابراتيًا تقتضي وجوده هذه الحالة الحسّاسة رغم أنّ وطبان رمى الكرة في ملعب الملا حويش، محافظ البنك المركزي العراقي وقال إنه يحتفظ بهذه الحُلي والتحف الأثرية التي لا تُقدّر بثمن. ومع ذلك فقد رفض الملا حويش هذا الطلب بحجة مجيء لجنة خاصة من دائرة الآثار كي تقوم بفتح الخزانات والصناديق الحصينة المختومة بالشمع الأحمر. وعلى الرغم من الجهود الجهيدة التي بذلها المايسترو وزميليه الآخّرين إلّا أنّ جميع محاولاتهم باءت بالفشل الأمر الذي اضطره إلى التوجّه إلى مجلة "ألف باء" وتضمين الحوار الذي أجراه الصحفي سيف الدين سلبي كل المعلومات التي تتعلق بهذا المشروع وقد خرج الحوار تحت عنوان"في أول بحث من نوعه في العالم . . فكّ لغز الأصوات الموسيقية الآشورية" لكي تبقى هذه المعلومات المهمة كتاريخ محفوظ في أضعف الأحوال. ومن حسن الحظ أنّ الدكتورة نورا عبدالرحمن الگيلاني قد طمأنت الخطيب بأنّ هذه الأقراط ما تزال موجودة في البنك المركزي العراقي ولم تُسلّم إلى المتحف العراقي. وقد وعدنا الخطيب أن يحاول مرة أخرى لاستكمال المشروع الذي بدأه في أوائل التسعينات من القرن الماضي. تطرق المايسترو إلى الفروقات العلمية الكبيرة في معرفة القيراط والسبائك الذهبية التي يتوصلون إليها بواسطة الحكّ أو الخدش في العراق بينما وصلت الاكتشافات العلمية الحديثة إلى معرفة الخارصين أو الزنك وغيرها من المعادن بواسطة الطيف الصوتي. وقبل أن يطوي هذه الحكاية الشائقة ارتأى المايسترو أن ينقلنا من العالم الآشوري الموغل في القدم إلى عالم بيتهوڤن المليء بالحكايات الغريبة والشائقة في آنٍ معًا.
العازف الأصمّ الذي بهر الناس
وُلد بيتهوڤن في مدينة بون في 17 ديسمبر 1770م. وقد ظهرت موهبته الموسيقية في سن مبكرة جدًا. درس الموسيقى على أيدي موسيقييَن مشهورَين وهما والده العازف والمغنّي يوهان ڤان بيتهوڤن ومؤلف الأوپرا المعروف كريستيان غوتلوب نيفه. كما درس الموسيقى لاحقًا مع موزارت، وأصبح صديقًا لجوزيف هايدن. ثم انتقل إلى ڤيينا سنة 1792م وبقي فيها حتى وفاته في26 مارس م1827. ثمة معلومات متفرقة أوردها الخطيب في محاضرته من بينها أنه الشخصية الموسيقية التي كُتب عنها الكثير سواء في حياته أو بعد وفاته. وحينما بلغ سن الثالثة عشرة رُسِم له أول پورتريه فني. كما أنّ شخصيته الثورية المتجددة قد أثرّت عليه وعلى قراراته الحياتية اليومية إذ غيّر سكنهُ، كما يذهب المحاضر، سبعين مرة خلال أربعين عامًا؛ أي بمعدل ستة أشهر في كل بيت. المعروف عن بيتهوڤن أنه كان أطرشَ لكنه، في حقيقة الأمر، تعرّض في أواسط حياته، إلى مرض في أذنه، ثم بدأ يفقد السمع تدريجيًا. وكان يستعين بأدوات وأجهزة طبية تُعتبر غريبة الشكل في هذه الأيام لكنها كانت الوسيلة الوحيدة التي يستعملها لتحسين نوعية السمع. وفي الربع الأخير من حياته فقدَ السمع تمامًا وأصبح أصمَّ لكنه ألّف أعظم أعماله الموسيقية التي خلّدته إلى يوم الناس هذا. كما أشار الخطيب إلى الصورة الفوتوغرافية الوحيدة التي نشرتها إحدى الصحف الروسية التي تُعتبر من النوادر لأنها الصورة الوحيدة التي أُرشفت لبيتهوڤن.
تأثر بيتهوڤن بقصة أورفيوس وأوريديچة الأغريقية؛ إذ ألّف الكونسيرتو الرابع للپيانو والمقطع الثاني المبني على هذه القصة التي استحوذت على اهتمام الكثير من الموسيقيين والفنانين التشكيليين العالميين وتعتبر أول أوپرا في تاريخ الموسيقى. أخذ بيتهوڤن مقطعًا من حوار أورفيوس مع الآلهة الأغريقية وحاول أن يُقنعهم بإرجاع حبيبته أوريديچة من الموت أو العالم السفلي إلى الحياة مرة أخرى. فالأوركسترا تمثل الآلهة الأغريقية والپيانو هو أوفيوس نفسه. كل الآلات تمثل الآلهة الأغريقية الغاضبة أمّا أورفيوس فهو هادئ حزين ويتوسل لأكثر من مرة. وبحسب القصة الأغريقية فعندما يغني أورفيوس كانت جميع الحيوانات تجلس وتنصت إليه، وقد جسّدت العديد من اللوحات التشكيلية العالمية هذه المَشاهد. وقد أشار الخطيب إلى أنّ بعض اللوحات رُسم عليها الجمل في إشارة واضحة إلى التأثيرات الشرقية على الفنون العالمية. ويمكن التعرّف على أورفيوس في اللوحات العالمية من خلال آلته الشهير الهارپ التي كانت تلازمه أنّى حلّ أو ارتحل سواء أكان نائمًا أو متواجدًا مع الناس أو مع الحيوانات. ويشير الخطيب إلى أنّ أغرب لوحة حديثة رُسمت لأورفيوس هي للرسّام الإيطالي جورجيو دي كيريكو. وبعد الحوار القصير سوف تغيّر الآلهة رأيها وتنتقل من الشدة والعنف إلى الليونة والقبول ويتمكن أورفيوس من النزول إلى العالم السفلي ويصعد ثانية بصحبة أوريديچة إلى الحياة. لم تحصل هذه الموافقة إلّا بشروط قاسية جدًا من بينها ألّا يلتفت إلى الخلف وألّا ينظر إلى أوريديچة مهما حصل، وإذا التفت فإنه سيكون في عداد الموتى. يقول الخطيب لو عدنا إلى أصل الأساطير الأغريقية وأسلوبها الأدبي المبني على الخرافة ومغزاها الفلسفي فسوف نستنتج أنها تفسير لظواهر الطبيعة. كما تناول سؤال الموت الذي أرّق البشرية منذ الأزل وسوف يظل يؤرقها حتى الأبد. وأنّ قصة أورفيوس تتمحور على هذا السؤال المحيّر الذي يعني من بين ما يعنيه أن لا عودة للحياة بعد الموت. وحينما وضعت الآلهة الأغريقية هذا الشرط القاسي الذي يتمثل بعدم النظر إلى الوراء كانت متيقنة بأنّ أورفيوس لن يقاوم حتى النهاية لأنه يتحرق شوقًا لرؤية حبيبته أوريديچة. لم يقتبس بيتهوڤن القصة كما هي عليه وإنما غيّر النهاية الحزينة التي بلغ عمرها ألوف السنين وحوّلها إلى نهاية سعيدة لينقذ هذا الحُب الأسطوري. كانت أوطأ نوطة للآلهة وهي تعلن قبولها وسوف يُنهي أورفيوس الأوپرا بأعلى نوطة. ويفسر الخطيب هذا الاختلاف في النوطات بعد أن يُحلل شخصية بيتهوڤن الذي مرّ بقصص عاطفية كثيرة لكنها باءت بالفشل جميعًا. وهذا التغيير الذي أحدثهُ في النهاية هو تعويض له عن الحُب الذي انتظره طوال حياته.
شهادة تُثلج الصدر
يتلقى الخطيب بين آونة وأخرى إشادة من هنا أو هناك للجهود التي يبذلها في أبحاثه القيمة من بينها ما قاله عازف الپيانو وقائد الأوركسترا دانييل بارنبويم حينما رأى أحد الفيديوهات التي أعدّها الخطيب وقد بعث الرسالة الآتية يقول فيها:
"سيدي العزيز،
منذ مدة قريبة، أتيحت لي فرصة مشاهدة فيلم وثائقي عن الحركة الثانية من كونشرتو الپيانو الرابع لبيتهوڤن، من إعداد وتطوير عازف البيانو سلطان الخطيب. في هذا البرنامج الغني بالمعلومات، يُبدع السيد الخطيب في تقديم عمل موسيقي معقد وخلفيته للجمهور العادي. بناءً على خبرتي الشخصية كعازف وقائد أوركسترا ومعلم، أعلم أن هذا يمثل تحديًا هائلاً يتقنه السيد الخطيب بثقة، حيث يؤدي بنفسه مع أوركسترا يريفان السيمفونية الدولية، وتُتيح تعليقاته وتحليلاته لجمهور أوسع فهم موسيقى بيتهوڤن وتقديرها على مستوى أعمق. وهو يفعل ذلك بأسلوب شائق للغاية، وقد استمتعت به كثيرًا. أود أن أهنئ سلطان الخطيب على إنجازه، وأتمنى له التوفيق في إنتاج المزيد من الحلقات الممتعة والتثقيفية التي حظيتُ بشرف مشاهدتها"مع خالص التحيات. ". والرسالة مذيلة بتوقيع قائد الأوركستر دانييل بارنبويم.
أعرب الخطيب عن إعجابه بعدد من المؤلفين الموسيقيين والروائيين من بينهم الموسيقار النمساوي غوستاف مالر والروائي الياباني هاروكي موراكامي وقد قرأ لهذا الأخير أكثر من عشرين رواية بعضها بعدة أجزاء ولعل السبب الرئيس في الإفراط بقراءة هذه الأعمال الروائية هو أنّ الروائي يتطرق إلى الموسيقى في غالبية رواياته ويتحدث عن الآلات الموسيقية مثل الكلارنيت والچلو والپيانو وما إلى ذلك أو يربط رواياته بأوپرا "دون جيوفاني" لموزارت. ويبدو أن الخطيب منهمك في قراءة هذه الأعمال الروائية لموراكامي ودراسة وتحليل الأعمال الموسيقية التي يتعالق معها. وفي نهاية المحاضرة أثار الحاضرون بعض الأسئلة التي أجاب عليها المايسترو بصراحة تامة وأريحية قلّما تتوفر في الندوات والأماسي الفنية والثقافية.
***
عدنان حسين أحمد - لندن