بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشّعر الذي نطمته جمعية اِبن عرفة التونسية يوم الثلاثاء 21 مارس 2023
الشاعر المختار المختاري الزاراتي
هو ثالث الثلاثة من الذين لفحتهم شمس الجنوب في عنفان العطاء هو. لا تكاد تراه جالسا إلا لينهض نشيطا من جديد لأنه حريص على نجاح اللقاءات الأدبية التي يشرف عليها في جمعية مراجعات وقد أضجت من أنشط الجمعيات الثقافية في تونس. هو ثالث شعراء ثلاثة كلهم إليها ينتسبون وينتمون إليها في عزة وإباء، ألا وهي الزارات، واحة تمتدّ على ساحل خليج قابس مُتسربلةً في اللون الأخضر ومتوشّحةً هدوءً وسلامًا أزرق البحر، هو ثالث ثلاثة:
أولهم الشاعر أحمد اللغماني وهو من فحول الشعراء التونسيين
ثانيهم الشاعر مختار اللغماني وهو من أبرز الشعراء الطلائعيين
والثالث صاحبنا هذا ـ الزاراتي مختار المختاري
صاحب هذه القصيدة التي تعبّر عن الحيرة الوجودية التي ما اِنفكت تلازم الإنسان الأول في عهود ما قبل فجر التاريخ إلى اليوم وقد عبّر الأدب التونسي القديم منذ اِعترافات القديس أوغسطين عن تلك الأسئلة حول الحياة والموت ناهيك عن تساؤلات أبي العلاء المعري في قصائد لزومياته وحيرة الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال وهاهي قصيدة الزاراتي مختار تواصل حمل تلك الإرهاصات الإنسانية في شفافية البوح وقد أرخى الليل سُدوله ليبيّن تأرجحه بين الإيمان الوثوقي المطمئن وبين الحيرة الحارقة التي لا تهدأ ولا تستكين حتى كأني به يصل بعد هذه الحيرة إلى تخوم القول بوحدة الوجود في إيحاءات صوفية مشرقة بيّنت له الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. قصيد تجديدي في معاني الوجود..
شيء من شيء ما
هذا الهدوء يخفي وجها ما
والليل نرجسيّ يحتمل التأويل
خارج السيطرة..
هذا الهدوء يسكن قاعا الأصناف
وأنا ما عدت أرتّب كلماتي
بما يصرف عنّي عقاب الصمت..
يا نرجسة اللّيل
يا منسيّة في خرافة تخفيها الذاكرة
عن تصابي الأجداد
يا حبّا يقف خارج مناطق الحياد
هذا الهدوء يسجن ما تبقى منّيا
في أصفاد الشوارع المكبوتة
بما يجب
وما لا يجب
من التعايش في هذي البلاد
وها أسقي التراب شذاك
واختم مشيئة الذهاب بغرس العناد
في أسطر يزرورق بحرها بحبر الليل
وخبر السواد..
و هذا الهدوء يخفي وجها ما
والليل نرجسيّ يحتمل التأويل
خارج السيطرة..
والهدوء استسلاما للغائب
في رقصة العبّاد..
أأكون ناسكا في الحبّ
أم من سلالة الزهّاد؟
أم أنني تركت جثتي مقبورة في صحراء
أولها كآخرها
موت وتشرّد وضياع وانقياد
لمطلق في مطلقه يرسم عدميّة الوجود
وانعدام الذات المرتلة في أوراد
ها أنا أعيش الليل وحدي
وأقبل على روحي برحابة روحي
لأثبت لي أنني عصيّ على التعداد
وأنني مفرد جامع
وأنني جمع زمن الآحاد..
وأنّك أضعت فرصة أخيرة
لتكوني خارج منطقة المزاد
لأنّ هذا الهدوء يخفي وجها ما
والليل نرجسيّ يحتمل التأويل
خارج السيطرة
وهذا الهدوء يسكن قاع الأصناف
وأنا ما عدت أرتّب كلماتي
بما يصرف عنّي عقاب الصّمت
واحتمال اختزال الحبّ
في تهمة الإلحاد
***
الشاعرة سليمى السرايري
أسمّيها ـ الفراشة التونسية ـ لأنها عاشقة الألوان فمن أحمر وأخضر إلى أصفر وأزرق تتوشح بها من الرأس إلى القدم بل من حقيبة يدها إلى قبعتها إلى حذائها أيضا وكل ذلك في انسجام وتناسق فتخالها وهي قادمة كأنها فراشة تحلق في الفضاء..
تلك هي سليمة السرايري ذات المواهب المتعددة فهي شاعرة وكاتبة ورسامة ونحاتة وإذاعية ولها في التزويق والتحف وحتى في ابتكارات موضة الأزياء لمسات رائعة وقد ساعدها على في ذلك نهلها من تراث الأمازيغ في الجنوب التونسي فأخذت منه نصاعة الألوان المشرقة والهندسات والرموز وجعلتها ميزة واضحة في إبداعاته التشكيلية خاصة مما أكسبها التفرد في هذا المجال الفني.
أما شعر سليمى السرايري فهو تعبير عن وجدانها الكاشف عن شجونها وأحلامها وقد اتخذت الرموز والصور قناعا فأضحت بوحا يكاد يكون تصريحا بما فيه من توهج وصدق المعاناة فقصائدها أنات حينا وصرخات أحيانا واختلاجات ورغبات وأحلام وإرهاصات كامنة تتراوح بين القلق والشبق تنساق في لغة صافية رقراقة.. وأنت حين تسمعها وهي تنشد شعرها بصوتها الحالم تجعلك ترفل أو ترفرف في فضاء جنتك الضائعة
وكيف أنسى ـ صالون السّرايا ـ وهو ملتقى الشعراء والأدباء والمبدعين على اِختلاف مجالاتهم وبلدانهم وهو الفضاء الثقافي الذي تديره سليمى السرايري بمهجة ومتعة وتنفق عليه بكرم وترعاه بحدب وعناية فيلقى فيه روّاده الترحيب والتكريم بحيث صار ـ صالون السّراياـ أحد العلامات الثقافية في تونس العاصمة فتحية تقدير لهذه الشاعرة والفنانة التي أرجو أن تجد الدّعم والتشجيع لتواصل مسيرتها الإبداعية
القصيدة
كم أتمنّـى أن تختفي من المرآة
مِنْ جديدٍ أَرْتَطِمُ بِهذَا الأرَقِ
أَتَمَسَّكُ كَيْ لا أَهْوِيَ كَطَائِرٍ فاقِدِ الوَعْيِ
أو كطائرةٍ ورقيّةٍ تحطَّمَتْ أَجْنِحَتُها
مِثْلَ أيِّ وقتٍ مُنْهَكٍ
أسْتَرِقُ السَّمْعَ لِوَشْوَشَةِ جَارِنَا المُتَصَابِي
في تِلْكَ الغُرْفَةِ الواقِفَةِ على سَطْحِ العمارةِ
وهْوَ يُمارِسُ حَقَّهُ في العِشْقِ الحرامِ.
مِنْ جَدِيدٍ أَحْتَضِنُ صَمْتِي
أُقَبِّلُ وَجْهِي في المِرآةِ
يُرَاوِدُنِي طَيْفُكَ
كُلَّما أطَلّتِ الشَّهْوَةُ مِنْ عيْنَيْكَ
وَأَطْلَقَتْ صَفَّاراتِ جُنُونِها
أُدْرِكُ جَيِّدًا حينها
انًّكَ لن تتوقّفَ في فاصِلٍ ولا نُقْطَةٍ
عُبُورُكَ يَسْحَبُني للغَرَقِ
إلى شَغَفِ الإحْتِرَاقِ
كَأنَّناَ نَعْصِرُ عِنَبَا
نَرْتَشِفُ كُؤُوسَها بِبُطءٍ لذيذٍ
ونحنُ نُلَملِمُ ما وَقَعَ مِنّا مِنْ تَنْهيداتٍ..
أُدْرِكُ أنّي بِجانِبِ شُرُودِي
أتَمَعَّنُ في وجهي المتورّدِ
بينما تَنْهمِرُ القُبُلاتُ مِنَ المرآةِ
وَجْهِي الَّذِي يُشْبِهُ هذا السُّكُونَ
وتلك العُزْلَةَ الّتي تَمُدُّ ألْسِنَتَها
كلّما اشْتاقَني جُنوني
وانكَمَشَتْ أُنُوثَتي
كصبيَّةٍ مُنْكَسَرَةٍ في وحدتِها..
كَشُرْفَةٍ وحيدةٍ دون حِيطَان
سألتُني
وأنا أتسمّعُ إلى جارِنا النّحيلِ
وقد برَزَتْ عِظامُه ُمن تحتِ القَميصِ
(من أين يأتي بالفصاحةِ كُلِّها)
أُلامِسُ جَسَدِي الصّارخَ بالأُنوثةِ
أَلْمَحُ طَيْفكَ في هواجِسِي
عَبْرَ المرآةِ
يَتَحَوَّلُ فَجْأَةً إلى طائرةٍ ورقيّةٍ
عبثاً أُحَاوِلُ أنْ أُمْسِكَ الخَيْطَ الوحيدَ
الّذي يَشُدُّنِي إليكَ..
أنْزَلِقُ داخِلَ ارتِعاشاتي
الغرفةُ تَطِيرُ خَلْفَكَ
التفاصيلُ الصّغيرةُ تطيرُ أيضا..
الولاّعةُ الذّهَبيّةُ الّتي نسِيتَها
وربطةُ العُنُقِ المنقّطَةُ الّتي أحبُّها
الأشياء التي اقترفناها،
أعلنت كسرَ قوانينِ القبيلةِ
وطارتْ كَسرْبِ العصافيرِ.
لكنّك كنتَ بعيداً
بعيدا جدّا
تحاورُ حورياتِ السَّواقِي
وهُنَّ يُهَرْوِلْنَ تحت أَشْجارِ التُّوتِ.
دونك انا ألثُمُ الغيابَ الكَالحَ والسّرابَ..
مجرّدٌ هذا الهُراءُ المثقوبُ
من الرَّقصِ والنِّثارِ..
ولحظةُ اغرائي مسكونةٌ بقسوةِ الفقدِ
ووحشةِ الفراغِ
ماذا أنا بعدك؟
كتلةُ أشواقٍ في غُرْفةٍ خاويةٍ؟
وِسادةٌ صارخةٌ بلذّةِ سياطِ البُعدِ
تُذرِفُ دُموعَها في المسافةِ الفاصلةِ؟
مواكبُ الفوضى التي أقمتَها بداخلي
تصدّ عنك صهيلَ الرِّياحِ..
قوافلُ توسّلاتي،.. تصرخ:
رجاء لا ترحل..
والآنَ،
الآنَ فقط، كم أشتهي غِيابَك..
لم أعُدْ أنتظرك على ضفافِ شَهْوَتي
لقد أغلقتُ ميناءَ الوصولِ إليَّ
وأطلقتُ زوابعَ أمواجي الجارحةِ..
الرِّيحُ عاتيةٌ هذا المساءَ
السَّاعةُ الكبيرةُ توقَّفت دقّاتُ نواقيسِها..
فساتيني الشّفّافةُ تمرّدَت
أخرجت أكمامَها من الخزانةِ
كأنّها تُلوّحُ لِهذياني..
هي، وأناَ،
انتظرناك طويلا.. طويلا..
انفرَطْنا كعِقْدٍ
وتَدَحْرجْنَا كحبّاتِ خِرَزٍ
كم أتمنّى أن لا تأتِيَ هذه الليلةَ!!!
وكم أتمنّى أن يَختفيَ طيفُكَ منَ المِرْآةِ!!!
***
الشاعر الحبيب المبروك الزيطاني
على البحر البسيط وردت قصيدة الشاعر الحبيب المبروك ليتغنى بتونس مستهلا قصيدته بالفخر في امتلاك ناصية الشعر وذلك جريا على سنة العرب القدامى وكذلك على عادة شعراء اللهجة التونسية في الإعتداد بأنفسهم ولكن صديقنا الشاعر أضاف إلى فخره بنفسه الفخر بشعراء تونس فذكر مثلا الشابي والميداني بن صالح ونور الدين صمود مشيرا إلى خصائص كل منهما في إشارة بليغة لطيفة.
إن قصيدة الحبيب المبروك لئن وردت على نمط الإيقاع العروضي التقليدي إلا أنها نحت منحى التجديد في معاني التغني بالوطن عند استعراضها شواهد من أيقونات الشعر التونسي المعاصر وفي هذا دعوة إلى الاعتزاز برصيدنا الأدبي التونسي ضد كل محاولات التهميش والاستنقاص من مساهمة التونسيين في مختلف العصور وتتالي الأجيال في إثراء الأدب العربي والحضارة الإنسانية
القصيدة
تونس الشِّعر والأدب
يا تونسَ الشِّعرِ كم أمتعتنا ادبَا
واحاتِ نخلٍ وعِذقٍ أغدق الرُّطَبَا
إني مَدحتُ وما أنصفتُ مَن تَركوا
مِن شِعرِهم ما تحدَّى العُجمَ والعَرَبَا
فالحِبرُ يُدفَقُ والأقلامُ نابضة
كالبحر يَدفَع بالأمواجِ ما تعبَا
أمواجَ ابداعِكِ المرموقِ مَلحَمَة
تَعلو وترسُو فتُلقي الدرَّ والذَّهبَا
و الكُلُّ مُنْبهرٌ مِن حُسن ما نقشتْ
أيدي الفطاحِلِ مِن أشعارهم عَجَبَا
يا ويح قلبي كَمِ الأبيات تُثملني
كالكأس تُسكِرُ مَن قد ذاق أو شَرِبَا
تُتلى فتُفحِمُ مَن يَرجو يَعارِضُهَا
مَن ذا يُعارض هَطلَ الغَيثِ إن سَكَبَا
مهما يُحاولُ لا يَرقي لقمٌَتهِ
فالأصلُ يفحِمُ مَن في القعر قد رَسَبَ
ياموطِنا مَلَك التَّعبيرَ مِن قِدمٍ
مِنهُ المحابرُ قد غاضَتْ بما كَتَبَ
بلقاسِمُ العَلمُ المشهورُ يُرسِلُها
مِن شِعرهِ مُثُل تَستلهِمُ النُّخبَا
بن صالحُ ودواينٌ له نُشِرتْ
قد خلَّدت باسمهِ التّاريخ والحِقبَ
وجعفرُ الماجِدُ الرَّاقي ببَصمَتِهِ
ما زال مَنبعهُ الرَّقراقُ ما نَضَبَا
صمَّودُ بسَّط ما جاء الخليلُ بهِ
في عِلمه لخَّص الأوزان واقتضَبَ
وغيرُهم مِن ذوي الأقلام سامِقة
مَن ارسلوا الحرفَ في الٱفاق فانتَصَبَا
هم في الأعالي وما التَّكريم أنصَفهم
و الغيرُ يَكْرم مهما احتال أو لعِبَ
و رائدُ القول لا يُلقى لقولَته
ألا الفُتاتَ وإن زادوا فكم لقبَا
غَضبى حُروفي فما بالظُّلم قد رضِيَتْ
على الذي زيَّفَ الألقاب والرَّتُبَا
لكنَّني رَغمَ هذا الضَّيم مُلتمِسٌ
مَستقبلا فاضلا نَجلو به الحُجُبَا
***
الشاعر عمار النميري
الشاعر عمار النميري كاتب صحفي أيضا ولعل مسيرته الإعلامية كانت على حساب موهبته الشعرية التي كانت تتجلّى من حين إلى آخر في بعض المناسبات ويبدو أنها تغلّبت على قلمه الصحفي لكنه في السنوات الأخيرة قد ـ عاد الدرّ إلى معدنه ـ كما يقول المثل وما هذه القصيدة الملحمة التي ننشر منها ثلاثة مقاطع إلا فيض من غيض من قادم منشوراته فالشاعر عمار النميري يُعتبر من شعراء التسعينيات في تونس أولئك الشعراء الذين تميّزوا باِطلاعهم الواسع على التجارب السابقة في الشعر التونسي فاستفادوا من إنجازاته الفنية وفتحوا ل لهم آفاقا جديدة باِطلاعهم على التراث العربي والإنساني وهذا ما يبدو واضحا في هذا الجزء المتميّز من ملحمة ـ سليانوس ـ وهو الاِسم القديم لمدينة ـ سليانة ـ التونسية
سليانوس.. يا سليل الأنبياء
ــــ 1 ـــ
في وحدتي..
ونيازك الأرق تُعربد تحت مئذنة القصيد،
لم تزرني سوى نملة ضريرة/كسيحة،
كانت هاربة من تحت أقدام جند سليمان،
تحمل على ظهرها الزّجاجيّ عراجينا من رمال..
وفي صمتها نبرة سراب، ورنين مسبحة من طين،
تقبس منها أجراس حلم طاعن في الموت،
وزئير حبّة قمح،
تعلوها غيوم من غبار زلال..
وفي شرفة من عينها تخبّىء بيضها،
النّاصع بالحياة..
وتسعى بين النّوء والضّوء،
ثم تتوضّأ بريقها المثخن بالأمنيات،
حين يحين وقت الصلاة..
وكانت تواري تقاسيم دموعها تحت أجنحتها،
حين أعلمتها أن وطني مازال على عواهن الزمان،
وعلى حاله، تماماً كدار لقمان..
لامستُها بأعلى صمتي،
وسيزيف يجترّ تحت صخرته، صرير صوتي..
نظرت وفي مقلتيها زغاريد آهات،
وقناديل من رثاء..
و.. همست:
- أراك إلها، يا.. سليانوس،
تبعث بين الكلمات رُسلا وأنبياء !!..
أذن سارع إلى مغفرة من نصّك المتمرّد،
الماكث تحت ظلال أناملك،
والطّاعن في الوفاء،
وتدثّر بقصيدة عرضها البحار والأرض،
أُعدّت للأنبياء، و.. للأحرار من الشعراء..
فإنّك جمعٌ حين تختلي بوحدتك،
كما النّسر سرب بمفرده،
وصمتك هدير،
قصيدتك تردّده …
ــ 2 ـــ
وحين غزاني الظّمأ،
لمحت هدهدا على أعتاب بيت القصيد..
رمقني ببسمة، بدت لي وميضا من بروق هادلة في عينيه..
و.. غمغم:
- ها إنني هنا، يا.. سليانوس،
بعد مفاوضاتك مع الله وسليمان،
ماذا ترجو، يا.. سليانوس ؟!
قلتُ ومنطق الطير مصقول في عينيّ:
- إن السّراب يعمّدني، أيها الحكيم،
يا من بجناحيك لنبض الحياة كاشف،
إنني ظمآن إليّ،
فهل من رغيف نور وماء ؟!
تصفّحني من خلال شرفة نصّ رضيع،
وعبر ثقوب ظلّي،
وبين ثنايا نمارق الحروف والكَلِم المنفوش،
و.. حلّق مرفرفا بعينيه في قباب البيت، بيت القصيد..
ملوّحًا بجناحين من غيمات ودلاء..
و.. ضرب بنظراته اللّاهوتيّة تحت قدميه،
فتدفّقت في راحتيّ بئر نور وماء..
وبعد هنيهة من رذاذ،
طار "هدهدي"، وهو يغنّي بين بروج السماء:
- هذه "زمزمك" يا.. سليانوس، بين كفّيك،
جنّات عدن تجري من تحتها أنهار الوفاء..
فيها النّخيل والعنب والتّين..
فاغتسل بعَرَقِ الحروف،
و.. كن قرير الشّعر،
ولا تكن من الغاوين ..
فأنت يا صاحبي سليل الأنبياء …
ـــ 3 ــ
ومن تحت ظلّ نهديْ قصيدة سافرة،
لها غمّازتان من وله،
أرهفتُ النّظر وأمعنتُ السّمع،
فإذا بريح ممشوقة الأصابع،
مصقولة الخصر،
تتماوج على شفاه غيمة حبلى بدهشة ومضة متسلّلة،
من قصيدة طويلة الوجع، نازفة الوتين،
تراودها أنامل قوس قزح،
تهتفُ متسلّقة كتفيّ:
- هذه أكفّي لا شرقيّة ولا غربيّة،
تكاد أناملها تضيء،
وهي لك، مرعى لسنابل أحلامك والأمنيات ..
فارجع إليك راضياً مرضيّا،
واقطف من أهداب سنابكها، يا.. سليانوس، رطبا شهيّا..
قلتُ وعناكب الغياب عنّي، تغتالني،
وتطوّقني النّوستالجيا:
- إنني حفيد سليمان، فاجعلي لي بساطا لا ذهب يؤثّثه
ولا فضّة..
أركانه، فقط، من ينابيع عطر معتّق،
وسلال حرير من الكلمات..
فالشّوق الجائع إليّ، أيتها الرّيح،
يخترق كل مسامّي بلهفة عصفور أجنحته متكسّرة،
وظامىء إلى هبّة نسمة هاربة من جثة الغسق،
وهو على أعتاب ظل شجرة ثكلى بلا معطف ولا منسأة..
حدجتني بنظرة وخرير سراب مدلهمّ في مقلتيها،
ثم بلكنة نابضة تحت جفنيها، همست:
- هذا بساطك، يا.. سليانوس، مكتظّ بك،
مدجّج بأمنياتك،
لك فيه عرش باذخ، فامضِ بقصائدك،
وهذه كاليوبي الإلهة تنحني تحت نواقيس ظلّك،
لالتقاط النبيذ من حبرك،
إنّك الأقدس والأكبر..
فاسرِ إليك،
واعرج إلى ذاتك متى تشاء،
بوراقك الشعر،
وثق، يا.. سليانوس، انّك من فصيلة الأنبياء..
- ولكنّني، يا.. أيتها الرّيح،
أجّلتهن إلى فلق مسمّى،
بين المجاز والمعنى،
وإذا جاء مولدهنّ،
فإنّني كنتُ بقصائدي بصيرَا..
**
الشاعرة فاطمة عبد القادر
إن هذا العمر ماض في سطورْ
في ثنايا الموت في صمت القبور
سينادينا مناد ذات يوم في الغيوب
ذات يوم تَسقط الألوان منا.. نُفرغ كل الجيوب
إنّ هذا العمر أفّاك غرور
إن هذا العمر لصٌّ.. حُصِّل ما في الصُّدور..
هكذا تنتهي قصيدة الشاعرة فاطمة عبد القادر بمعاني التأمل في الحياة والموت على منهج شعر الزّهد من تراجيع قصائد أبي العتاهية ورابعة العدويّة وفي إشراقات قصائد التصوّف لابن الفارض وعمر الخيام فالقصيدة ذات معان ضاربة الجذور في ذاكرة الشعر العربي ومثل هذه النفثات صادرة عن إحساس إنساني يتجلى عند تأملات الحياة والموت وقد عبّرت القصيدة عنه في وقفة تأملية بعدما استعرضت الشاعرة مسيرتها في الحياة كأنها تحاسب نفسها حيث تقول:
كنت ألهو في الحياة كالمها
أففز بين العيون
أنسج الحلم وأبني لي قلاعا في الأعالي
رافضهْ كل السّجون
كان حلمي أن أراني طائرة
دون قيد يدمي نبض معصميّ
فإذا بها تجد نفسها كأنها في آخر الطريق قائلة:
إنّا صرنا في ختام العمر نعدو نحو وهم
غادر الحسن وصرنا كطيوف غرباء
تسحب منا حصيّات الطريق
القصيدة مطارحة ذاتية في شجون وحنين لشاعرة خبرت الحياة فجاءت وقد لفحها وهج الصدق والمكابدة.. نعم من الألم تزهر مثل هذه القصائد
نحو أبواب العروج
كنت ألهو في الحياة كالمها
أففز بين العيون
أنسج الحلم وأبني لي قلاعا في الأعالي
رافضهْ كل السّجون
كان حلمي أن أراني طائرة
دون قيد يدمي نبض معصميّ
دون قسّ يقبض ليلا عليّ
فمضيت نحو هاتيك العيون
أنهل من مائها العذب الجسور
كنت أسقي في طريقي كل جدب
ثم أعلو في ارتحال كالطيور
هذه الدنيا جبال من خطايا فاخرة
هذه الدّنيا فتون وفصول ساخرة
يركب الانسان صهوة العمر المسرّج بالذنوب ثم هيهات يعود.. ثم هيهات يتوب
كيف أنجو من خطايا ساقني الحب إليها
كيف أغدو كملاك يسكن عند الغيوب
هذه الدّنيا سقتني حين جادت بسخاء
وأراقت خمرها فوق الشّفاه
وأرتني رغد عيش وصنوفا من رفاه
إن قلبي يا إلهي فاض منه لك حبٌ عبّأ حبل الوتين
إنّ قلبي كالقلوب يخطئ رغم اليقين
إنما المرء ضعيف حين يهوى
يلبس ثوب الجنون
في مواقيت التجلي في ترانيم الخشوع
تصعد الاشواق مني
والصفا مني يضوع
يخرس التوق إليك
صوت شيطاني الرجيم
غير أن الأوب مني لا يدوم
أمضي عدوا نحو أنخاب الحياة
أغنم منها كؤوسا من نعيم
وأعود لطقوس الأوْب أختار النجاة
كم تبقّى في الحياة.. ؟
يملأ الدّمع الغزير محجريّ
كلما ألفيت ربي يستجيب
فإلهي رغم طيشي يسكن في قريب
هذه الدنيا تلوّح دوما لاشتهائي
هذه الدنيا تزيد بالسّخاء في بلائي
تمنح عمري ظلاّ ساحرا حلوا ظليلْ
وعطايا لم تهبها لسواي كسليمان الجليلْ
إنني أرنو لعفو من إلهي وخروجْ
ودليل يحذو روحي نحو أبراج العروجْ
يا رفيقي لا تسلني كيف أنكرت الدّنى
إنّا صرنا في ختام العمر نعدو نحو وهم
غادر الحسن وصرنا كطيوف غرباء
تسحب منا حصيّات الطريق
تفلت كف الرفيق
نقطع العمر وجوما في دروب الانتهاء
لا تسلني كيف أنكرت اللّيالي الساهرات
وتنكرت لهمس من نجوم سامرتنا لامعات
إنما العمر معنّى بالسّراب
واستفقنا يارفيقي حين أدركنا اليباب
فإذا الدنيا التي قد فديناها.. سراب
واذا العمر الذي شقه النهر يباب
اندفعت أنضو عن عمري القصير
ما تبقى فوق جسمي من لباس الدنيا
من همس الحرير
إن هذا العمر ماض في سطورْ
في ثنايا الموت في صمت القبور
سينادينا مناد ذات يوم في الغيوب
ذات يوم تَسقط الألوان منا.. نُفرغ كل الجيوب
إنّ هذا العمر أفّاك غرور
إن هذا العمر لصٌّ.. حُصِّل ما في الصُّدور
***
الشاعرة تاج الخياري
حِبرُ قصيدة الشاعرة تاج الخياري كأنه كُتب بماء البحر فهي تتماهي فيه موجةً من أمواجه العاتية إنها الصخب والهدير والزّبد وفي ذلك تعبير عن ثورتها وحيرتها بين الشك واليقين هي التي مضت إلى البحر قائلة
سأظل في حماك
وقد محت أصدافك أوزار سنيني
على موجك الهادر
أرسيت سفيني
فالبحر هو الملاذ وهو الصدر الحنون الذي تبثه شجونهاولا تعبأ الشاعرة حتى أن تتكسر على سواحله أو أن تغرق في يمّه وإنّ هذا الفرار إلى البحر واعتباره الحمى والنّجاة حيث تجد فيه الراحة والسكينة والهدوء والسلام يدلّ من حيث لم تصرّح أنها في قطيعة من دنيا الناس الذين هجرتهم إلى البحر وسواحله وأصدافه واِعتبرت نفسها موجة صاخبة لتؤكد رفضها وثورتها على الواقع فهذه القصيدة إضافة جديدة لمتون الشعر التونسي الذي جفلت قصائده المعاصرة بالبحر من بينها خاصة القصيدة الغزلية ـ حورية الموج ـ لمصطفى خريّف
شفّ صدر البحر عن سر الجلال، وطفت فيه اللآلي
فوق موج فاض من سحر الجمال، فاق تصوير الخيال
جال في حسن وإشراق
مستجيشا مثل أشواقي
والشاعر الحبيب الزنّاد في قصيدة ـ بكائية البحر ـ في موضوع الرّثاء والتي مطلعها
خرجتْ تتفقد الأحباب
كان البحرجميلا ساخرا كذاب
عقدت عليه أشواق الأهداب
ورمت إليه بما في العمر من أتعاب
أعجبها النخل على زيفه
و الرمل وضوح سراب
غير أنّ قصيدة تاج الخياري وردت في موضوع التأملات الذاتية وهي بذلك تمثّل إضافة نوعية للشعر التونسي هذا الشعر الذي يستحق التعريف به وجدير بالدّراسة وهذا ما دأبنا عليه بكل اعتزاز منذ سنوات عديدة
البحر
يا بحر
يا بحر
أنت مولاي سيدي
ومعيني
ذراعاك تحتويني
بين رموشك تهدهدني
سأظل في حماك
وقد محت أصدافك أوزار سنيني
على موجك الهادر
أرسيت سفيني
بحت إلى صدرك
لواعج حنيني
بحري أنت
اعماقك
شواطئك
على أمواجها تلقيني
أعشق صخبك
هدوءك.. لا.. لا
يستهويني
أنا ابنة موجة مجنونة
فدعني من فوضاك
أستلهم
شكي ويقيني
***
الشاعرة ثريا خلوط
قصيدة البُشرى والتفاؤل والتحدّي التي تعلن فيها الشاعرة انّها تودّع ماضي الآلام واليأس والظلام والضباب والسراب وتستقبل بملء الأمل الفجر الحديد معبّرة بمثل هذه الصور ـ أجمع للآتي ـ نجوم الثريا في حقائبِ السّفر ـ فكأنّ نجوم الثريا تعني الشاعرة نفسها حيث طابقت اِسمها وفي صورة شعرية أخرى نراها توقد للفجر الشمس لتنير الأقبية وفي صورة أخرى تجعل اليأس غريقا فلا يمكن ان يكون رفيقا لها وتعلن أن القلم هو الخلاص الذي سيخط ماضي الحرائق الماضية
تؤكد هذه القصيدة أن الشاعرة ثريا خلوط متمكنة من ناصية الكلمة الشعرية بما فيها من صور موحية ورموز ذات أبعاد تحيل على تحربة عميقة في الحياة نقرأ ظلالها وبصماتها في هذه القصيدة التي اِنطلقت ـ من رحم الصّمت ـ فنطق صمتها إبداعا
الآتي الغريب
مِن رَحِم صَمتٍ
آتِيَةٌ أنا
أشُقُّ رداءَ سَرابٍ عقيم
مِن أعالي هِضابِ النّسيان
أُعلِنُ عن ذاك الآتي الغريب
أنا هنا
على عتباتِ السّماء
أجمعُ للآتي نجوم الثّريا في حقائبَ للسفر
و أوقِدُ للفجر شمسا فتيّة
تُنيرُ أقبيةَ سُكونَ الثَّرى
آتيةٌ أنا
أرمي الشِباكَ في بحور الخفاء
أَصيدُ أسرار الأعماقِ
و أسألُ اليأسَ
هل أنتَ الرَّفيق؟
يَنْتَحِبُ الجوابُ
أنا الغَريق
بينَ الأنامِلِ ضَجَرٌ ضبَابِيّ
و على سِنّ القَلَمِ حيرة
و بينَ الصّفحات حريق
آتِيَةٌ أنا
مِنْ رَحِمِ صَمتٍ.. غريب
بقلمي
الثُّريا بن مسعود خلوط
***
سُوف عبيد