تقارير وتحقيقات

أمسية ثقافية حول مفهوم الثقافة واغتراب المثقف

عقدت حول مفهوم الثقافة بشكل عام واغتراب المثقف وانسلاخه عن قضايا مجتمعه. تميزت الجلسة بتفاعل كبير لما أثارته من حوار غني ومداخلات نوعية وطرح للأسئلة حول مفهوم الثقافة وأزمة المثقف، شارك فيها كل من: د.مصطفى سبيتي، د.علي نسر، د.داوود مهنا، د.علي بيضون، د.إبراهيم الحصري، د.عبد الرحمن مكّي، الإعلامي د.عماد خليل، الأستاذ نصر الظاهر، الأستاذ أسد غندور، الاستاذة إبتسام كحالة الزعتري، الأستاذ عصام الحر، الدكتور هاني الزعتري، الأستاذ عباس ترحيني والاستاذ بسام سكيني .

عقدت الجلسة مساء يوم السبت 21/6/2025 في دارة رئيس بلدية قناريت المحامي الأستاذ زين خليفة الذي أصر على أن يبقى موعد الجلسة قائما رغم إضطراره للسفر. فأصالة عن نفسي ونيابة عن الأصدقاء المشاركين نتقدم منه بالشكر على حسن الإستقبال والضيافة على أمل ان يكون حاضرا معنا في اللقاءات القادمة. وكانت لي كلمة في بداية اللقاء جاء فيها:

في هذه الظروف الصعبة والإستثنائية يتساءل المرء عن المثقف أين هو مما يجري؟ ما هو دوره في المجتمع؟ وما هو موقفه مما يحدث من حوله؟. لنسأل ونناقش معا ما إذا كان هناك فعلا إغتراب للمثقف عن قضايا مجتمعه؟ فالمثقف لا يستحق صفته إلا عندما يتطابق وعيه وفكره مع دوره الاجتماعي. وقدرته على استنباط رؤية نقدية تمكنه من أداء دوره تجاه القضايا المطروحة . والثقافة ليست في مجموعة نصوص تكتب أو كتب تنشر فقط لتزدان بها الرفوف، أو كتابة مقالات قد لا يقرأها أحد، والكاتب هنا في أحسن الأحوال يمكن وصفه بالمبدع وليس بالمثقف.

لماذا هذه الفجوة بين المثقف والمجتمع، ولماذا هذه العلاقة المضطربة بين المرسل والمتلقي؟ هل هي نتيجة لإغراق المجتمع والناس عمدا من قبل السلطة وممثليها بمجموعة من الهموم الحياتية الضاغطة بحيث فقد معظمهم الأمل بكل ما يقال ويطرح عليهم؟ ام ان المثقف عجزعن فهم لغة مجتمعه فاتسعت الهوة بينهما، فمن دون لغة مشتركة مفهومة يستوعبها الجميع وليس النخبة قد لا تكتمل عملية التأثير والتأثر. وهنا يبرز السؤال :هل كان المثقف في وطننا على مستوى الآمال المعقودة عليه بأن يكون قوة دافعة لأي حراك مجتمعي؟ أم إنه كان غائبًا عن الاضطلاع بهذا الدور؟ هل كان حاضرًا أم غائبًا؟ وإذا كان حاضًرا، فما هي صور حضوره؟ وإن كان غائبًا، فما هي أسباب غيابه؟

وأورد هنا مقتطفات من مداخلات الأصدقاء:

1- الأستاذ دكتور مصطفى سبيتي رأى ان كلمة ثقافة إذا لفظت مجردة تصبح بلا معنى، يجب أن تنعت أو تضاف لنعرف عن أي ثقافة نتكلم، وأيضا كلمة مثقف يجب أن تنعت او تضاف فهناك المثقف الديمقراطي، المثقف الرجعي، المثقف التقدمي وحتى المثقف الديني..والثقافة بكل أنواعها هي حركة الفكر في المفاهيم الإنسانية التي هي في تغير دائم ولو ببطء، وهي حركة تنعكس عن حركة الواقع المادي والإجتماعي. والمثقف هنا هو من يدرك منحى هذه الحركة ويتخذ موقفا منها سواء بقبولها او التصدي لها، وفقا لقناعاته وإن لم يتخذ مثل هذا الموقف لايمكن وصفه بالمثقف.لأن المثقف من طبيعته انه مناضل. ولكي يتحول الإبداع إلى ثقافة يجب أن يوظف هذا الإبداع في خدمة دفع حركة المجتمع إلى الأمام أو التصدي لها وهنا نكون أمام المثقف التقدمي والمثقف الرجعي وكلاهما نحترمه لما يمثلانه من صراع فكري.

2- كلمة الدكتور علي نسر وتعليقاته تمحورت حول التفريق بين العلم والثقافة حيث كثر حاملو الشهادات العلمية في وقت تتراجع الثقافة بشكل مخيف... وهذا ما يستدعي نهضة ثورية تعيد للمثقف دوره النخبوي في رسم وعي ممكن للخلاص بعد أن اصبحت صورة وعينا القائم قاتمة أو ضبابية معكرة... والمازق اليوم، يمكن رده إلى العقلية العربية وما تنتجه، وليس الخلل في ما تقدمه بل ينبغي البحث عما تتركب منه تلك العقلية من مركبات تخلفت عن مواكبة الحياة العصرية...

3- الدكتور داوود مهنا اعتبر في مداخلته مسألة انسلاخ المثقف عن قضايا مجتمعه ظاهرة خطيرة، لأنها تمثّل غياب أحد أهم الروابط بين الفكر والواقع، بين التنظير والحياة اليومية. فالمثقف العربي، في كثير من السياقات، لم يعد صوت الناس، بل صار يكتب لنفسه أو لحلقات ضيقة من النخبة، مستنكفًا النزول إلى ساحة المواجهة.

كثير من المثقفين وجدوا أنفسهم أمام خيارين: التماهي مع السلطة أو الصمت. وخلص إلى أن الحاجة اليوم ليست فقط إلى مثقف يتكلم، بل إلى مثقف يتحرك، ويعيد تشكيل جسور الثقة مع الناس، لا أن يظل معلقًا في أبراج العزلة.

4- الإعلامي الدكتورعماد خليل رأى أن المثقف ليس بالضرورة من يملك حق أو حصرية التعلم والتعليم، فقد يكون المثقف غير متعلم. ولم يكن العقّاد مثلا متعلماً ولكنه أبدع وكان مثقفاً.وربط الدكتور عماد الثفافة بمفهوم الإنتاج والزراعة مشيرا إلى التجربة الماليزية وكيف استطاع مهاتيرمحمد أن يشكل سلطة ينسجم فيها المثقف مع العمل السياسي. ورأى الدكتور عماد ان هناك أزمة حقيقية ومنظومة فكرية تغيرت. وشدد على ان الرهان يجب ان يكون على الحاضر والمستقبل معا من خلال حركة تغيرية ينبغي أن تولد في الجامعات.

5- الاستاذ د.عبد الرحمن مكي تطرق في مداخلته الى الشأن التربوي والتعليمي وسأل ماذا تُخرج المدرسة اللبنانية اليوم؟ "هل نُخرّج أدمغة تحفظ..أم عقولاً تُفكر؟". فمعظم مدارسنا سواء في القطاعين الرسمي والخاص تخرج ما يمكن أن نسميه "جهازا معرفياً أكثر من إنسان مفكّر". والمدرسة اليوم تزرع في الطالب ثقافة العلامة وليست ثقافة المعنى.وشدد في مداخلته على أن التربية كأداة للتغيير الإجتماعي تطال الجميع، مشيرا إلى تجربة ماليزيا التي كان عمادها التربية والتعليم. ولفت الى المادة العاشرة من الدستور اللبناني التي تعتبر ان التعليم حق مشروع للجميع ولا يجوز أن تُمس حقوق الطوائف في أن يكون لها مدارسها ومناهجها الخاصة. وهنا مكمن الخطر الحقيقي.

6- الأستاذ نصر الظاهر رأى وجوب وتوضيح تحديد شخصية المثقف الحقيقي الذي يمكنه أن يساهم في تنمية الوعي العام في ما يقدمه من إبداع فكري أو إنساني...

وتساءل عن موقف الثقافة والمثقفين من مفهوم خاطيء عممتْه قوى سلطة الأمر الواقع كعنوان للإنتخابات البلدية والإختيارية بكونها " خيارا عائليا" .. حيث لم نجد في نشاط الثقافة والمثقفين مَن ينبري لمواجهة هذا المفهوم الخاطئ والقاتل وتصويب الوعي العام لحقيقة الموقف...وامل ان تتولد من إجتماعنا هذا فكرة واقعية لمواجهة الواقع ولو بأحرفها الأولى.

7- مداخلة الدكتورعلي بيضون تناولت النقاط التالية :

-علاقة المثقف ببيئته وقدرته على التأثير وقيادة المجتمع.

- ضرورة ان يتحول المثقف الى مصلح للمجتمع بما يمتلك من جانب معرفي وتجربة تؤهله للعب دور المنقذ وان عملية الاصلاح لا بد ان تكون عبر المصلحين .

- تطور انظمة الحكم عبر نظرية الدورة الدموية للدساتير او عجلة الدساتير التي اطلقها الفيلسوف بوليب وتطور الانظمة التي تأتي وفق ارادة الاكثرية بدون الاعتبار للنخب والمثقفين في عملية الحكم.

- تأثير العامل المادي والاقتصادي على المثقف، واختيار المجتمع والناس للأغنياء الذي يؤثرون في اراء الناس وقراراتهم.

- التحدي الذي يواجهه المثقف من خلال الضغط السياسي والاحزاب لاستمالته او اقصائه في المجتمع.

- جرأة المثقف في تحمل الضغوط ومتابعة اهدافه.

8- الأستاذ أسد عندور رأى أن الثقافة باتساعها وتنوعها أرحب من أن تُحصر في تعريف، وهي بطبيعتها المتحركة الدائمة التغير لا تعرف حدودًا، وبالتالي لا يمكن ظبطها في أطرٍ ثابتة. وتعريفها عند كل شخصٍ أو منطقةٍ أو عصرٍ ينطلق من نقطة اهتمام معينة تعني هذا الشخص أو الفئة أو المنطقة.

والثقافة بهذا المعنى هي إذًا موقفٌ ملتزمٌ ومُلزمٌ لذات صاحبه قبل الآخرين. هذا الإلزام للذات قبل الآخر يحفظ الثقافة ويمنع عنها السقوط في المتاهات.فإذا صارت ثقافتنا موقفًا... فشهادة، تُردم الهوة بين النظري والعملي، وتصبح ممارسة عفوية صادقة متواضعة. والثقافة لا تستحق اسمها إلاّ متى وصلت إلى هذا الحدّ، وكل ثقافةٍ لا تبرمج الموقف فيها ممارسة والتزامًا، كل ثقافةٍ لا تدفعُ بالموقفِ إلى الشهادة، هي ضربٌ من الترف الفكري القائم على انفصام، أو هي ضربٌ من الرياء والكذب على الذات قبلَ أن تكون كذبًا على الآخرين.

9- الاستاذة إبتسام كحّالة ركزت في مداخلتها على أن المثقف الحقيقي هو كما يقال نبي مجتمعه وزمانه والنبوة هنا تعني الحكمة وليس الرسالة الدينية. والمثقف ليس هو الكاتب أو الشاعر بل هو المنتمي إلى النخبة التي نجدها في الإعلام والتعليم. ولكن وللاسف تحولت النخبة في هذا الزمن من ضمير للمجتمع إلى ظلٍ باهت، واصبحت تجيد الإصغاء وتضيء طريق الخضوع بعد إنفصالها عن مجتمعها الذي تمثله ولم تصمد أمام الواقع فهي وإن كانت تدعي تمثيله إلا انها تعلو عليه ولا تضغي إلى نبض الشارع. مما يدعو للتساؤل هل ما زالت النخبة تمثل مرآة لمتطلبات الناس أم هي تتمرد لتمثل السلطة. ورأت أن النخبة لم تعد مطالبة بإنتاج المعرفة النقدية بل اصبحت تنتج الوهم وتشارك في تسطيح الوعي وتعيث بالفكر فساداً. ولم يعد وصفها كقلعة تغيير بل أداة تطبيع للوضع القائم.أصبحت النخبة تدير العجز بدلا من أن تدير الأمل، تحرس المعبد بدلا من أن تعمل على هدمه.

10- الدكتور ابراهيم حصري اعتبر في مداخلته بأن ازمة الثقافة العربية هي موضوع مزمن منذ سقوط الخلافة العباسية وسيطرة الشعوبية على المشهد برمته، ومع سقوط قرطبة ضاع مخزون جم من الموروث الثقافي الأندلسي . كما ان تعدد الولاءات خلق انقسامات حادة في وحدة الثقافة الإسلامية والعربية. ورأى أن ازمة المثقف العربي كانت ولا تزال موقعه من السلطة فالمثقف صاحب مشروع قومي لا يملك كل وسائل تحقيقه الا عن طريق السلطة والمال حيث تتجلى ازمته: الاستيعاب ، المهادنة، أو الصدام. ولأن المثقف يحمل مشروعا وطنيا وقوميا لا تفريط فيه فإن موقعه هو في تلك المسافة بين هدف المشروع ومركز القرار .. وعليه فاختياره المواجهة هو ضمانة لحيوية مشروعه. مشيرا إلى ما يقوله كل من ادوارد سعيد وتشومسكي وميشال فوكو بأن المثقف هو المشاكس وليس المهادن.

ختاما نكرر الشكر لكل من شاركنا أمسيتنا هذه والشكر موصول طبعا لحضرة رئيس البلدية المحامي زين خليفة لرعايته مثلهذه اللقاءات التي ستتابع بعون الله.

***

عفيف قاووق - لبنان

 

في المثقف اليوم