اخترنا لكم

السيد ولد أباه: الديمقراطيات الجديدة وتحولات العالم الراهن

لقد لاحظ المفكر الاستراتيجي والمؤرخ الفرنسي إمانويل تود أن الديمقراطيات التعددية في الغرب انتقلت إلى نمط من «الأوليغارشيات الليبرالية» التي تتحكم فيها مجموعة من النخب التقنية والتسييرية المسيطرة، في تعارض واضح مع المنظومة الليبرالية الكلاسيكية القائمة على مبدأ السيادة الشعبية والإرادة الجماعية المشتركة. لا يتعلق الأمر فقط بالتوجه الذي يكثر الحديث عنه حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، ولا بالوضع السياسي الروسي، بل بتحول نوعي في صلب الأنظمة السياسية الغربية، له علاقة بطبيعة الثورة المعلوماتية الجديدة وحركية العولمة التقنية والاقتصادية. وتعود عبارة «أوليغارشيا» التي يكثر استخدامها في أيامنا هذه إلى المعجم السياسي اليوناني، ونلمسها في أدبيات أفلاطون وأرسطو بمعنى حكم الأقلية المهيمنة، وإن مُنحت دلالةً جديدة في الفكر السياسي الحديث من منظور المقارنة مع الديمقراطية من حيث هي حكم المجموعة المندمجة العضوية.

ومن أهم مَن بلور النظرية الجديدة للأوليغارشيا عالم السياسة الأميركي جيفري ونترس الذي أصدر كتاباً متميزاً بعنوان «الأوليغارشيا» oligarchy أثار جدلاً واسعاً في السنوات الأخيرة. وفي تعريفه لهذا المفهوم، يرجع ونترس إلى أرسطو، معتبراً أن العنصر الأساسي المحدد للأوليغارشيا هو «سياسة الدفاع عن الثروة وتحويلها إلى آلية من آليات الحكم والسلطة». علاقة النخب الأوليغارشية في الغرب بالنظام الديمقراطي معقدة وملتبسة، لكونها تسعى إلى الاستفادة من الحراك التمثيلي والانتخابي من أجل تثبيت مواقعها في هرم السلطة، لكنها في الآن نفسه تتخوف من المنطق السياسي للدولة الليبرالية من حيث هي دولة قانون ومؤسسات وتوازن سُلط. الديمقراطية في أحد وجهيها ترجمة لموازين التحكم الاجتماعي القائمة، لكنها في وجهها الآخر نظامٌ للعدالة الاجتماعية ولدمج المجموعات المهمشة والمغبونة.

لقد ضمنت الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية في الغرب الاستقرارَ الاجتماعي والسلم الأهلي، نتيجة لتحكمها في سياسات توزيع الثروة والديناميكية الاقتصادية، لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو اختلال هذه التوازنات الدقيقة بخروج الاقتصاد الفعلي عن المجال السياسي السيادي للدولة. ولهذا التحول الذي رصده ونترس ارتباطٌ مباشر بظواهر ثلاث نعتقد أنها تحتاج لوقفة تشخيص ومتابعة. الظاهرة الأولى تتعلق بتغير عميق في تركيبة المنظومة القانونية الدولية التي تعيش أزمة عميقة في مقوماتها النظرية وبنياتها المؤسسية.

وإذا كان البعض اعتبر أن كل محددات النظام الدولي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية قد تبدلت كلياً، كما هو واضح من سياسات القوى الكبرى التي رجعت لمنطق القوة وتوزّع المجالات الخارجية الحيوية، فإن هذه الملاحظة الصائبة يجب أن لا تغطي على الأزمة العميقة التي عرفتها هذه المنظومة الدولية نفسها نتيجة لفشل ديناميكية التمدد العالمي لنظام الشرعية القانونية الذي تأسست عليه الديمقراطية الليبرالية الحديثة. الظاهرة الثانية تتعلق بالتحولات الجوهرية التي عرفتها الدولةُ الوطنية ذاتها في العالم الليبرالي الغربي خلال العقود الأخيرة. ومن أهم هذه التحولات انتقال التناقض الداخلي في صلب النظام السياسي إلى معايير الحكم السياسي في أبعادها الاجتماعية والقيمية، بما ينعكس في أوجه التصدع المتزايدة بين القطب المحافظ الذي أطلق عليه مؤخراً الرئيس الفرنسي ماكرون عبارة «الأممية الرجعية»، والقطب التقدمي «الليبرالي» الذي لا يزال متشبثاً بمفاهيم الحرية الذاتية المطلقة ودولة القانون المجردة. الظاهرة الثالثة هي الارتباط الجديد بين الأيديولوجيا الليبرتارية في نسختها الجديدة والنخب التقنية المعولمة التي ترفض القيود المؤسسية التقليدية على حريات التملك والإبداع والتعبير.

ولا يمكن اختزال هذا التحول في ما تحدث البعض عنه مِن تحالف غير مسبوق بين الاتجاهات المحافظة الانكفائية والأوليغارشيات المالية والتقنية، بل من الأدق النظر إلى هذا التغير من داخل المنظومة الليبرالية نفسها التي تعيش ما أشار إليه العديد من الباحثين من انفصام الاقتران الذي قام في العصور الحديثة بين مبدئي الحرية والديمقراطية. بعد المحادثة الهاتفية الأخيرة بين الرئيسين ترامب وبوتين، ذهب البعض إلى أن النظام العالمي يتجه إلى تحالف جديد بين أميركا في وجهها المحافظ الجديد، وروسيا في توجهاتها الارثوذوكسية المعلنة، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن التغيرات الجيوسياسية العالمية الراهنة تعكس أبعد من هذه التفاهمات الظرفية تركيبة جديدة للعمل السياسي في أبعاده الداخلية والدبلوماسية. ولعل المدخل الصحيح لفهم هذه التحولات هو توجيه النظر إلى الأزمة العميقة التي يعرفها منذ سنوات النظام الليبرالي العالمي، والتي لم تبدأ مع بوتين وترامب نفسيهما.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

16 فبراير 2025 23:45

 

في المثقف اليوم