مقاربات فنية وحضارية
فنانات خالدات في الذاكرة (1): دورا مار
ذكر صاحب كتاب (الفن والمجتمع عبر العصور) المؤرخ اورلند هانز بان الفنان القديم كان قد اهتم بتزيين المعابد بانواع النصب الدينية من تماثيل ورسوم تمثل الالهه بينما اهتمت المرأة بزخرفة الفخاريات والاواني بالاشكال الهندسية الجميلة المبسطة والتي اخذت لها احيانا طابعا رمزيا، وكانت تمتاز بالدقة والتأني والصبر الطويل. وبذلك فقد كان دور المرأة موازيا لدور الرجل في صناعة الفنون والزينة وحب الجمال. ولا نريد ان نقرأ سيرة تاريخ كل الفنانات في تلك العصور الغابرة اذ كانت حافلة بشخصيات نسوية تركت بصماتها على مجرى التاريخ بالانجازات الفنية والابداعية النادرة ، ولازالت هذه الاعمال لحد اليوم تزين كثير من المتاحف والمراكز الفنية في العالم. ولكن سنأخذ بعض من الفنانات كنماذج شغلت المؤرخين والنقاد وانارة جانبا من التاريخ الفني وبقت خالدة في الذاكرة الانسانية مثل الفنانة ارتيميسيا جنتليشي الايطالية 1593، وماري كاسات الامريكية 1844، ومورينسوت الفرنسية 1841، ودورا مار وسوزان دوجامب وفرانسواز جيلو وريميديو بارو وفريدا كاهلو وغيرهن...
دورامار Dora maar المرأة التي ساعدت بيكاسو في رسم جرنيكا..
كانت دورا من اكثر صديقات بيكاسو ثقافة ونشاطاً وكانت يسارية مناضلة ومن جماعة السرياليين وكان لها دورا كبيراً في تفتح عقلية بيكاسو الفكرية حيث كانت كثير ما تصتدم معه في نقاشات فكرية وسياسية حادة.
ولدت دورا في عام 1907 في باريس وهي بنت رجل مهندس ومعماري من اصل كرواتي اسمه جوزيب ماركو فيث Josph Marko Vith ونتيجة لظروف العمل فقد انتقل الاب الى الارجنتين واستقر في العاصمة بوينوس آيرس وكانت دورا مع أبيها حيث تعلمت هنالك اللغة الاسبانية السائدة في اللارجنتين، وحسب مانقلته دورا الى صديقها خاميس لورد James lord بأن طفولتها كانت معذبة ومليئة بالاحزان حيث كانت أمها مطلقة أو منفصلة عن أبيها. وكانت تعاني من فقدان الحنان والعاطفة والحب، ولهذا فأن هذه الالام تركت بصماتها على حياة دور الى آخر عمرها. وقد وجدناها تبكي في مواقف كثيرة مع بيكاسو وانها تتصرف بطريقة عنيفة وعنيدة خاصة عندما تدخل في نقاش فكري مع بيكاسو...
رجعت دورا من الارجنتين وكان عمرها 19 سنة فدخلت مدرسة فنون الديكور ثم درست في قسم التصوير الفوتغرافي وكذلك درست في قسم الرسم في اكاديمية جوليان Julain ودرست ايضا الرسم في استوديو اندري لوتي Andre lhote وبعد هذه الدراسات المتنوعة بدأت دورا تبحث عن عمل فأشتغلت في مجلة للموضة تسمى Lluustration وأخذت تنشر فيها صورها الفوتوغرافية المتنوعة المواضيع وبحرفة عالية، كما نشرت عن جماعة السريالية، وكذلك صورت باريس ايام الثلاثينات، وبعد فترة لاحقة فتحت لها استوديو للتصوير الفوتغرافي بالتعاون مع شخص يدعى بيري كافر Pierre Kafer ومن خلال هذا الاستوديو بدأت بعمل الاعلانات التجارية لجميع المنتجات الصناعية وكذلك تزويد الصحف بالصور الفنية النادرة بالاضافة الى عمل الصور الشخصية الفوتغرافية.
وبالتالي نالت دورا شهرة واسعة في المجتمع الباريسي في مجال التصوير واستخدام احدث التكنلوجيا في ذلك الوقت.
بعد ذلك دخلت مع جماعة السريالية واتجاهها الفني والسياسي اليساري وكانت لها علاقة عاطفية مع لويس دي جابانثي Lous de chavance عام 1932، بعد ذلك مع كيورغي باتايليQeorge Bataille وكان الاثنان من نفس الاتجاه الفكري اليساري، وكان هؤلاء يشكلون جماعة سياسية معتبرة كان لها نشاطات واسعة في المجتمع الباريسي خاصة ضد الاتجاه الفكري الرأسمالي ومن ابرز تلك الشخصيات اندريه بيرتون مؤسس الحركة السريالية Andre Breton وباول اياردBaul Eluard ومارثيل خيان Marcel Jean وبيري كلوسكي Pierre Klosswski وغيرهم من رموز اليسار السريالي.
تعرف بيكاسو على دورا مار في نهاية عام 1936 وبداية الحرب الاهلية في اسبانيا في مقهى تسمى دوكس ماغوتس Deux Magots وكان بيكاسو جالسا مع صديقه- باول الوارد - على طاولة قريبة لجلوس دورا مار حيث كانت تلعب بالسكين، وحسب شاهد عيان يدعى خوان باول Jean Paul بأن دورا كانت تفرش يدها وتنقر بالسكين في الفراغات بين الاصابع، واحيانا تخطىء فتجرح احد الاصابع فتظهر بقع دم حمراء على الطاولة، كما كانت دورا تلبس اكثر الاحيان كفوف سوداء، وقد طلب منها بيكاسو الكفوف للذكرى فمنحتها له، ولا زال يحتفظ بها حتى وفاته عام 1973.
فقدم صديق بيكاسو باول الوارد دورامار الى بيكاسو للتعارف، وقد حياها بيكاسو بالفرنسية بينما هي ردت عليه بالاسبانية لانها تعلمت الاسبانية في الارجنتين عندما كان والدها المهندس يعمل هناك، وكان رد دورا مقصودا لتنبيه بيكاسو بآصله ولغته.
ان جاذبية بيكاسو وحواره البشوش جعل دورا تتعلق به واعتبرتها فرصة كبيرة ومميزة خاصة بعدما علمت بأتجاهه االيساري كما ان بيكاسو وجد فيها حالة خاصة من الاغراء والاناقة، يضاف الى ذلك فأن دورا هي من فتيات الموضوه الحديثة في ذلك الوقت والخارجة على التقاليد والعادات والانحراف والشذوذ والحرية المطلقة، وقد أحس بيكاسو ان ماتملكه دورا من الذوق والجمال له ايقاع في قلبه يختلف عن الاخرين لهذا دعاها اليه ليرسمها... رسم بيكاسو دورا مع قبعتها الجميلة في عدة لوحات وفي اثناء ذلك أحس الاثنان ان هناك مشتركات بينهما رغم الفرق الكبير في العمر والتجربة حيث كان عمر بيكاسو يوم تعرف عليها 55 سنة بينما كان عمر دورا 29 سنة، كما انها لازالت تعيش مع والدها ولكنها تملك شخصية وحرية مطلقة.
ان الميل نحو المغامرة والمخاطرة والتحدي نجدها عند الاثنين وكان بيكاسو قد احتفظ بكفوف دورا الملطخة بالدماء، بينما هي كانت قد احتفظت بنقطة دم جافة لبيكاسو كما كانت هي مياله الى الطقوس الدينية الغريبة مثل الصوفية والبوذية بينما لانجدها عند بيكاسو ابدا، ولكن الاثنان يمتلكان روحا وحسا رومانسيا وطموحات كبيرة.
ويذكر ان بيكاسو غادر باريس في صيف عام 1936 الى شواطىء فرنسا الجنوبية وحصرا في مدينة مونخينس Mongins حيث هرب مع عشيقته الجديدة دورا مار على غفلة من صديقته القديمة النرويجية الاصل ماري تيريسا، ثم التقى الاثنان مرة اخرى في الصيف الثاني في نفس المدينة والسير الطويل على شواطئها والتردد على كبريهاتها الحمراء البوهيمية. وفي فترة الاصطياف لعامي 1936 و1937 كانت قد سجلت لنا كامرة دورا مار صورا متعددة ورائعة لبيكاسو واصدقاءه وصديقته الجديدة دورا مار، امثال باول الوارد واندريه بريتون وجاكلين ولي ميللر Lee Miller، Eluard، Breton، Jacqueline ، وقد كتب هؤلاء قصصا وقصائد شعرية غرامية وعاطفية لتلك الرحلات الاصطيافية الممتعة....
وكان الصيف الاول لبيكاسو مع دورا مار صيفا غراميا وعاطفيا واعجابا مفرطا بها وكانت صورتها جميلة وممتعة عنده ، ولكن بعد ذلك انخفضت وبردت العلاقة بينهما، وبدأ بيكاسو يسجل وضعها النفسي وحالتها المتردية والمتدهورة نتيجة تعامل بيكاسو السيء معها بعدما شبع منها واحس انه يجب البحث عن غيرها، وتمثل ذلك في لوحته التي رسمها لدورا عام 1937 اسمها – المرأة الباكية – حيث تعكس انزعاج بيكاسو وغضبه عليها وقد نفذت اللوحة بأسلوب تكعيبي لايرى فيها اي ملامح شخصية لدورا ولكن الاشارة كانت من بيكاسو بأن اللوحة هي لدورا.. وحسب صديقة بيكاسو فرانسوا خيلو بأن بيكاسو لم يكن قادرا على رسم دورا مبتسمة، وانما اراد ان يعكس وضعها الداخلي وحالتها الهستيرية، بعدما احست ان بيكاسو قد ضجر منها واهملها وغادرها.
مع ذلك فأن المراحل الاولى كانت طيبة وجميلة ورسم بها بيكاسو دورا بأناقة وجمال ساحر خاصة في فترة رسم لوحة جرنيكا ، وعندما اراد بيكاسو رسم جرنيكا بتكليف من الجمهوريين كانت دورا قد استأجرت لبيكاسو مكانا للعمل وكانت هي اول من وثق وصور اللوحة اثناء عمل بيكاسو، وفي نفس الوقت غادرت دورا حرفة التصوير الفوتغرافي وباعت كل معداتها وادواتها الى بيكاسو وقررت ان تبدأ بتعليم الرسم.
وكان لدورامار دورا عظيما في مساعدة بيكاسو في رسم لوحة جرنيكا حيث كانت تمده بالافكار والاقتراحات وكانت تراقبه اثناء مراحل العمل وتصور كل مرحلة، لكن بيكاسو الرجل المتقلب والغير مستقر في علاقاته لم يهتم بها كثيرا، وكما قالت امه ماريه (ليس هناك أمرأة تستطيع ان تكون سعيدة مع أبني فهو لاينتمي الى اي احد سوى نفسه)، وقد أخذ يستخف ويستهجن من دورا خاصة عندما يدخلان في نقاش حاد في الفكر اليساري والسريالي والدفاع عن المرأة وحقوقها، وكانت دورا مثقفة ومناضلة يسارية ومن جماعة السرياليين التي يرأسها اندريه بريتون، كما كانت دورا تغار من علاقة بيكاسو مع ماري تيريسا وتتكلم عنها بسوء وكان بيكاسو يحب ماري حبا عظيما رغم مغامراته الغرامية وعلم ماري بذلك.. وقد كانت ماري مؤدبة وخلوقه ولاتغار من صديقات بيكاسو، وقد انجبت له اول طفلة وهي مايا Maya ولهذا كانت لوحات ماري التي رسمها بيكاسو تعتبر من اغلى الاعمال في سوق تجار اللوحات.
وكانت بداية دورا مع بيكاسو عامرة بالطموحات والافكار والنضال، حيث عملا على تنشيط الحركة الفنية في ذلك الوقت وغذيا اعمال الفنانين الاخرين بالثورة على التقاليد الفنية القديمة، وكانت دورا قد ضحت بكل ماتملك من فكر وذكاء من اجل حب بيكاسو وقد ذكرت ذلك بعد سنين من الانفصال، وكانت بحق اسطورة المرأة المناضلة والمتحدية والمجددة، رغم المؤآخذات الشاذة والمنحرفة عليها، وهي اكثر صديقات بيكاسو فنا وفكرا ونضالا، وقد شهدت لها مجالس النقاش والجدل الفكري مع الجماعات اليسارية والسريالية، حتى ان بيكاسو لم يستطع ان يقف امام شخصيتها الثقافية وجدلها الحاد. لكن بيكاسو كعادته مع الاسف ليس له صديقا دائما مهما كانت مكانته، فسرعان ما يغادره ويمسحه من ذاكرته؟.. ماتت دورا مار عام 1997 عن عمر بلغ 90 سنة.
***
د. كاظم شمهود