أقلام حرة
جمال العتابي: قضية للمناقشة: لماذا التماثيل للشعراء وحدهم؟

في ساحات مدننا تقف قامات شعراء منتصبة في تماثيل تحولت إلى حضور أبدي في حياة الناس وكوسيلة لحفظ الذاكرة من الضياع، أوثيقة بصرية تذكّرهم برموزهم الثقافية والوطنية المهددة بالنسيان، فضلاً عن بُعدها الجمالي في المدينة، تماثيل موزعة على مدن العراق من الشمال حتى الجنوب: أبو تمام، المتنبي، الرصافي، الكاظمي، السياب، نازك الملائكة، الحبوبي، موفق محمد.. وسينضمّ الجواهري إلى المجموعة قريباً، منصّات تروي للأجيال إرثها الأدبي والروحي، بينما يندر أن نرى نَصبا أو تمثالاً لعلي الوردي، أو نوري جعفر، أو عبد الجبار عبد الله، لعالم رياضيات أو فيزياء أو طبيب أنقذ البشرية من العلّل.
هذه الظاهرة تدعونا إلى التساؤل: لماذا يقيم العراقيون تماثيل لشعرائهم؟ بينما لا يقيمون لروائي أوقاص مثل محمد خضير؟ لرائد صحفي، لعالم في اللغة كمهدي المخزومي، لجواد سليم، أو فائق حسن مثلاً. لماذا لم نلتفت إلى مفكر أو مؤرخ مثل جواد علي؟
لا شك أن الإجابة على هذه الأسئلة تدعونا إلى الذهاب بعيداً في البحث عن جذور الظاهرة تاريخياً وثقافياً، ونحن بحاجة إلى تفسير نقدي يبتعد عن العواطف، يتوقف عند قيمة "الصوت" على حساب "الفعل". هذا لا يعني بالضرورة، ألّا نحتفي بشعرائنا ومبدعينا، لكن الحقيقة تعكس أولويات ذاكرة ثقافية ومعمارَ حضور اجتماعي يمتد عبر التاريخ، يتمثل بالشعراء بوصفهم صناعاً للحكايات التي تنمّي الذات الجمعية. فإقامة تماثيل لهم تعبير عن ثقافة تمجّد الصوت والصورة البلاغية.
لأن الصوت أعلى من العقل، والخيال أبهى من البرهان العقلي والعلمي، فيما غاب عنها وجه الطبيب الذي أنقذ آلاف الأرواح، هذه ليست صدفة بريئة، بل لأن الأمة لم تنشئ تقليداً راسخاً يضع المفكر والعالم في مقام الريادة، وأنها استسلمت لسطوة تراثها الشعري، والخطابة. لكن السبب ليس عيباً في الشعر والشعراء، إنما هو نتاج بنى اجتماعية وثقافية وسياسية كرّست الرمزية الصوتية وأهملت البناء المعرفي والعلمي.
تأخذنا هذه المقدمات إلى الجذور الأولى، إلى التعاليم الإسلامية التي كانت تتجنب الدعوة إلى نحت تماثيل بشرية لأسباب تتعلق بالمقدس، فلجأ الفنان آنذاك إلى الزخارف والنقوش والريازة والخط في التعبير عن قدراته الإبداعية. بيد أن الانتقال إلى عصر الأفكار القومية والوطنية والتحرر من النفوذ الأجنبي، تصاعدت معها شعارات: الهوية الوطنية، الوحدة، الاستقلال، المقاومة.. تلك عناوين ومعاني استثمرتها السلطات الجديدة والأحزاب السياسية في البحث عن رموز قابلة لتوظيفها في خطابها السياسي، فكان (الشاعر) أفضل من يجيد هذا الخطاب في المناسبات العامة. لذلك يُحتفى بالشاعر أولاً، ويظلّ المبدع الآخر في الهامش. فنحن أمة تحتفي بالخيال أكثر ما نحتفي بالبنى التحتية التي تديم الحياة.
لا شك أننا لا نجد ما يشبه هذه الظاهرة في بلدان أوربا والغرب عموماً، تلك البلدان خلقت حالة من التوازن في تمثيل رموز الابداع كافة، للفلاسفة، والعلماء والفنانين والموسيقيين، للأطباء ـ أبقراط في اليونان ـ هناك ساحات وشوارع تحمل أسماء علماء ومفكرين، لأن المجتمع هناك يدرك أن هؤلاء أسهموا في بناء حضارته المادية والفكرية والروحية.
في بلداننا ثمة عوامل تفسر الإهمال منها: غياب التقاليد المؤسساتية التي تهتم بشؤون المبدعين بوصفها جزءاً من ثقافة الحفاظ على الإرث الفكري والعلمي والفني، واحترام تاريخ صناع هذا الإرث. فضلاً عن الجوانب النفسية والاجتماعية المرتبطة بالوعي الجمعي العام.. بمزاج وذائقة الناس، التي تستجيب للصوت الملهم والمثير.
الشعر عند العرب ديوانهم الأول، وفي بنيته الكلاسيكية يتناغم مع وجدان الجماعة في ايقاعه الموسيقي، وصوره البلاغية، يستمع إليه الجمهور في الساحات والشوارع، يلهب حماس متظاهري الاحتجاجات، يرون فيه بطلاً وجدانياً يستحق أن يخلّد بتمثال، ولقب' فهذا شاعر الأمة وذاك شاعر الشعب، وشاعر العرب،وذا شاعر ام المعارك أوالقادسية، بينما يقدم العالم في كل دقيقة منجزاً جديدا، لا يشكل مصدر اثارة أو انتباه. كلها عناصر تثير في الناس احساساً بالتماهي والاندماج. يحفظون القصائد الخالدة، التي قيلت في مناسبات متباينة الأغراض، يرددونها ويتناقلونها جيلاً بعد جيل.
وعلى الرغم من أن التماثيل تظل علامة إيجابية لحضور الذاكرة الشعرية في الحياة العامة، حتى وإن كشفت عن خلل في موازين التكريم. ( أسوق مثلا عن تمثال لطالب السهيل في مدخل الكاظمية الشمالي، بينما لا ذكرى واحدة لعلي الوردي) فهناك بدائل حضارية أخرى أكثر رسوخاً وفاعلية، للاحتفاء بمبدعينا، لها قوة تأثير طويلة المدى، التمثال وحده لا يمنح الخلود، بل حين يتحول الاسم إلى رمز متداول حيّ عبر الخطوات الآتية:
ـ إنتاج أفلام وثائقية ومسلسلات عن الشخصيات الفكرية والعلمية.
ـ تخصيص أيام وطنية للاحتفاء بهم.
ـ تسمّى الساحات والشوارع ومؤسسات التعليم بمختلف المستويات بأسمائهم.
ـ إدخال سيرهم الإبداعية في المناهج الدراسية.
ـ إحياء تراثهم الفكري والعلمي، بإعادة طبع مؤلفاتهم، وتوزيعها على الطلبة مجاناً.
ـ تتبنى مؤسسات البحث العلمي مسؤولية تأسيس موقع الكتروني يجد فيه الباحث كل ما له علاقة بهؤلاء المبدعين، بكادر كفوء ومتخصص، وإدارة مدرّبة. ويكون الموقع متاحاً للجميع .
***
د. جمال العتابي