أقلام حرة
عبد السلام فاروق: انتحار ناقد أدبي!

أجدني في هذه الأيام، وأنا أتأمل حال نقاد الأدب، يتسرب إلى نفسي ذلك الشعور الغريب الذي يختلط فيه العجب بالحيرة والأسى. الناقد الذي كان يوماً ما أشبه بالكائنات النادرة، يحمل بين جنبيه سراً من أسرار الوجود، وميزاناً دقيقاً يميز بين الغث والسمين، يتحول أمامنا إلى كائنات أخرى متعددة، لا ندري أيها نحيي، ولا أيها نعيب.
الناقد الذي كان ينقب في النصوص، ويكشف عن مواطن الجمال والقبح فيها، أصبح اليوم "مفكراً" يطرح الرؤى، و "فيلسوفاً" يجيب عن أسرار الوجود، و"كاتب رأي" يصول ويجول في الصحف كالفارس الذي لا يشق له غبار. والأعجب من ذلك، أنه أصبح "مقرظاً ومداحاً" لا يمل من ترديد أسماء المبدعين، وكأنه يوزع صكوك الغفران الأدبية، و "طبالاً وزماراً" يضرب على الدفوف وينفخ في المزامير كلما مر موكب من مواكب الأدب، و "راقصاً على إيقاع الشعر" حتى ليخيل إليك أن القصيدة لم تعد تقرأ بل ترقص.
ولا تتوقف المواهب النادرة عند هذا الحد، فالرجل - أو المرأة- بات أيضاً "مقدماً لبرامج ثقافية" يلمع على الشاشات بابتساماته المصقولة، وكلماته الموزونة، وكأن الثقافة أصبحت ضرباً من أضواء المسرح وأصوات الميكروفونات. وها هو يعرض للإعلانات التجارية، فينتقل من الحديث عن فلسفة نيتشه إلى الحديث عن مزايا نوع جديد من الصابون، في سلاسة عجيبة، وبراعة لا تنكر.
فيا لها من مواهب رائعة حقاً! مواهب لو جمعت في إنسان واحد لعد من العباقرة النادرين الذين لا يظهرون إلا كل قرن. ولكن، ترى أين ذهب ذلك الناقد الذي كنا نعرفه؟ ذلك الذي كان يمتلك شجاعة القول لا موهبة الإطراء، والذي كان همه الأول والأخير النص لا العلاقات، والفكرة لا الصفقة، والجمال الحقيقي لا الجمال المصنوع للمسارح والإعلانات.
أخشى ما أخشاه، بعد كل هذه المواهب المتشعبة، أن يصبح الناقد "موديلاً وعارضا للأزياء". فما الذي يمنع؟ إذا كان قد أتقن كل تلك الفنون، فما الذي يعوقه عن إتقان فن العروض والأزياء، والوقوف على منصات العرض بابتسامة عريضة، وجسد معصوب بقطع القماش التي قد تكون آخر ما تبقى من حياء في هذا المشهد الساخر؟
يذكرني هذا المشهد بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي: "وقديمًا كان في الناس الحياء".. فكنا نستحي من أن نخلط بين الأدوار، ونحسب لكل مبدع ما يستحق. كان هناك حياء يمنع الناقد من أن يكون تاجراً، وحياء يمنع الفيلسوف من أن يكون مهرجاً، وحياء يمنع المثقف من أن يكون دلالاً للسلع والأفكار. كان الحياء هو ذلك البوصلة الخفية التي ترشدنا إلى الطريق، وتذكرنا بأن لكل منا رسالة، ووظيفة، وكرامة.
أما اليوم، فقد انقلبت الموازين. أصبحنا في زمن "الانسيابية" العجيبة، حيث تذوب الحدود بين المهن، بين القيم. وأصبح الناقد - في سعيه للحضور الدائم- يتحول إلى سائل يسيل في كل وعاء، لا يحتفظ بشكله ولا بكينونته. وهو في هذا، ربما، هذه حالة مجتمع بأكمله، يبحث عن شرعيته في كل مكان إلا مكانه الطبيعي.
فهل نلوم الناقد وحده؟ أم أننا يجب أن نلوم عالماً أصبح يكافئ الظهور على العمق، والضجيج على الصمت، والصورة على المضمون؟ عالمًا أصبحت فيه "القيمة" تقاس بعدد المرات التي تظهر فيها على الشاشة، لا بعدد الأفكار التي تثريها في العقول.
إنها معضلة العصر الذي نعيش فيه. عصر لم يعد فيه الحياء فضيلة، بل أصبحت "الوقاحة" – للأسف- هي مفتاح النجاح. وعسى أن يعود يوماً ذلك الحياء، ليس إلى النقاد وحدهم، بل إلى جميعنا، فنعرف لكل شيء قدره، ولكل إنسان حده.
وإذا تأملنا هذا التحول العجيب في وظيفة الناقد، لا نجد أنفسنا أمام ظاهرة ثقافية واجتماعية معقدة، تكشف عن تحولات أعمق في مفهوم "القيمة" ذاتها. فلم تعد قيمة العمل الأدبي تستمد من جودته الجوهرية أو عمقه الإنساني، لكن من "قيمة التداول" التي يخلقها حوله. وبالتالي يصبح الناقد هنا جزءًا من "آلة التسويق" الضخمة الذي يزيد من قيمتها السوقية، بغض النظر عن قيمتها الفعلية. أي أنه أصبح وسيطًا، أو "سمسار ثقافة"، يرفع السعر في سوق الأفكار الرخيصة .
هذا يدفعنا إلى التساؤل: من المسئول عن هذا التحول؟ أهو إغراء الشهرة السريعة والإمكانيات المادية التي تقدمها البرامج والإعلانات؟ أم هو الخوف من الغياب والنسيان في عصر يتسارع فيه إنتاج الثقافة ويتضخم الضجيج؟ أم أن النظام الثقافي برمته لم يعد قادرًا على استيعاب الناقد الحقيقي، ذلك الكائن المتأمل بطبيعته، البطيء في إصدار أحكامه، فاضطر الناقد إلى اختراع أدوار جديدة ليبقى موجودًا في الخريطة؟
الحقيقة أن اللوم لا يقع على عاتق الناقد وحده، فهو أيضًا ضحية لـ "عصر السوق". لقد تم اختطاف الحقل الثقافي برمته من قبل منطق السوق، حيث تحولت الثقافة إلى "صناعة" و"منتج" يحتاج إلى "ترويج" و"تسويق". والناقد، في هذه الحالة، هو من يوفر "شهادة الجودة" المزيفة، أو على الأقل، الضوضاء الإعلامية الكافية التي تجعل المنتج الثقافي مرئيًا وسط الزحام. لقد أصبحت مهمته هي "خلق الطلب" على سلعة قد لا تكون تستحق ذلك الطلب أساسًا.
المأساة الحقيقية هي أن النقد أصبح أداة في خدمة آلة أكبر تهدف للربح والاستهلاك. الناقد الذي كان يفترض أن يكون حارسًا للذوق العام، يصوب وينقح ويرتقي به، أصبح ملهِماً للذوق العام، يروج لأي شيء طالما أنه "مطلوب" و"مربح".
وفي خضم هذا، يفقد عنصر أساسي كان يشكل جوهر العملية النقدية: الثقة. ثقة القارئ في أن الناقد صادق معه، غير مخادع، لا يمدح إلا ما يستحق المدح حقًا، ولا يذم إلا ما يستحق الذم. عندما يتحول الناقد إلى "عارض إعلانات"، فإن هذه الثقة تنهار، ويصبح كل ما يقوله موضع شك وريبة. عندها، لا الخير يصل إلى مبدع حقيقي، ولا الشرور تكشف عن نصوص رديئة، ويدخل الجميع في دوامة من الضبابية والادعاء.
فأين المخرج؟
ربما يكمن في إحياء ذلك "الحياء" الذي أشار إليه أمير الشعراء، ولكن بوصفه قيمة مهنية وأخلاقية. حياء المرء الذي يمنعه من أن يخون مهنته، وحياء المثقف الذي يترفع أن يبيع قلمه، وحياء الإنسان الذي يعرف حدوده ويقدر رسالته. يحتاج الناقد إلى أن يعيد اكتشاف "تميزه" و"استقلاليته"، أن يدرك أن قوته تكمن في صوته المنفرد الناقد، وليس في صوته الجماعي المردد.
ربما علينا أن نعيد النظر في نظامنا الثقافي برمته، نظام الجوائز والإعلام والتمويل، الذي يكافئ الأداء المسرحي على حساب الجوهر، والكم على حساب الكيف. فالناقد، في النهاية، هو ابن بيئته، وإذا كانت البيئة فاسدة، فكيف نطلب منه أن يكون نقيًا؟
***
د. عبد السلام فاروق